[email protected] كارثة الإستعمار البريطاني أنه رحل وترك وليده المشوه المعاق بواد غير ذي فَهمٍ، وذلك هو السودان والذي، وبما لايدعو مجال للمغالطة، هو الوليد المشوه والمعاق للإستعمار البريطاني. سماه الإنجليز رجل أفريقيا المريض، وتلك جريمة، فقد كان رضيع أفريقيا المريض. تركه ورحل وأسلم زمام الإمور لنخب عاجزة حتى عن إدراك حجم وحقيقة مقدراتها. وتلك النخب كانت هما السيدان، الميرغني والمهدي، إضافة إلى نخبة المعوقات في قائمة التخلف الأفريقي وهي أزمة المناطق المغلقة أو مايسمى بدولة جنوب السودان الحديثة. ولم تكن نخبة قيادات أبناء المناطق المغلقة إلا حمى دائمة في جسد الوليد المشوه المعاق، تزيده بلاء وإبتلاء على ماهو عليه، ولما لا، فقد حرص المستعمر على تغريب هذه القيادات، على قلتها، وزرع روح الفتنة والتنافر ضد الشمال في دواخلها، وذلك إبتداء بمنعهم من تحصيل تعليمهم العالي في الخرطوم وإرسالهم لتلقي العلم في كل من كينيا ويوغندا وتنزانيا، ثم فتح الأبواب على مصراعيها لمنظمات التبشير المسيحي والتي كانت تدعم من خزينة الدولة السودانية. كل تلك النخب قد يكون لها المعذرة وقتها بأن لا تدرك حجم مقدراتها ولكن بعد ستة عقود من الزمان يتوجب عليها تحمل نتاج عجزها وسؤ إدراتها لمرحلة ما بعد الإستعمار. صنفت السلطات البريطانية الإستعمارية المحافظات الجنوبية السودانية الثلاث؛ الإستوائية، بحرالغزال و أعالي النيل على أنها مناطق تختلف عن الشمال. وأقرت أنها في حالة تخلف مريع يصعب تغييره أو تصحيحه وبذلك دعّمت موقفها في تبرير عزلتها عن الشمال طيلة حقبة العشرينات من القرن الماضي وحسمت أمرها وأعلنت قانون المنطقة المغلقة في العام 1930 الذي نوه إلى أن السود في المحافظات الجنوبية يختلفون عن الشعوب المسلمة في الشمال وينبغي أن يكونوا مستعدون للأندماج مع شعوب المستعمرات البريطانية في شرق أفريقيا، ولا أعرف بالتحديد أي شعوب في شرق أفريقيا يقصدون ولماذا لم يفعلوا قبل الرحيل؟، راجع مكتبة الكنغرس الأمريكي Britain's Southern Policy. فتم الفصل الفعلي للجنوب عن بقية السودان ومنعت جميع التعاملات وأهمها التجاري والإقتصادي فقامت بمنع التجار الشماليين من الدخول للجنوب، وأخرجت من كانوا هناك، وإستبدلت الإداريين الشماليين وفرضت قوانين تمنع العمل أو الإسهام في أي نشاط بقصد الدعوة إلى إنتشار الإسلام، ومنعت ممارسة العادات العربية وعدم إرتداء الزي العربي. رحل الإستعمار البريطاني وترك قضية جنوب السودان كوباء عضال في جسد الوطن أقعد كل الحكومات المتوالية، ما بعد الإستقلال، وأعجزها عن أي نهضة أو تنمية ممكنة في الشمال أو الغرب أو الشرق أو الوسط أو الجنوب نفسه، والنتيجة واضحة، ولكن ثوار كاودا لا يقرأون التاريخ و يسعون جاهدون لطمس الحقائق علهم يدركون طموحات وهمية وزائفة. كل الذين يدعون أن الحرب وسيلة منطقية للإنتقام أو إسترداد الحقوق واهمون وعليهم إعادة التفكير في سعيهم. وعليهم مراجعة تاريخ توكل كرمان، الدالاي لاما، المهاتما غاندي، مارتن لوثر كنج، نيلسون مانديلا، القس ديزموند توتو وغيرهم، وتاريخ كل عظماء البشرية الذين نجحوا والذين لا يزالوا يناضلون سلمياً لإسترداد الحقوق ولتحقيق طموحات شعوبهم في الحرية وبناء دولة القانون والمساواة. وليقرأوا أيضاً تاريخ نمور التاميل السيريلانكية المسحوقة. عليهم، ومعهم مؤيديهم، أن يعرفوا أن الإنتقام لو كان قيمة إنسانية مقبولة لكان بإمكان الصين مسح اليابان عن خارطة الكرة الأرضية جزاء ما إرتكبته من فظائع ضد الشعب الصيني أبان الحرب العالمية الثانية. ولو أن الإنتقام كان قيمة إنسانية مقبولة لكان أجدر بالسود في جنوب أفريقيا دفن الأقلية البيضاء أحياء بعد الإنتصار عليهم وإستعادة السلطة. ثوار كادوا ومناصريهم يتذرعون بأن نظام الإنقاذ هو السبب الأساس في كل مصائبهم وهذه فرية وكذبة بينة، بل هم يتخذونها كمبرر لتبرير الحرب الحالية ضد الشمال. ليس من الإخلاق في شيء أن نحمل الإنقاذ وزر الآخر ونلزمها فشل الحكومات السابقة في التصدي لرعاية وليد الإستعمار البريطاني المشوه المعاق أو تقرير مصيره أو إطلاق رصاصة الرحمة عليه. حقيقة أن حكومة الإنقاذ في السؤ لاتختلف عن الحكومات التي مرت على السودان، وإخفاقتها هي مسئولية تنظيم الإتجاه الإسلامي بكل مكوناته. لا حصانة ولا مغفرة لأي من منسوبي الإتجاه الإسلامي، الذين يحكومون الآن والذين نتصلوا عنه، ومنهم من بقي في المعارضة ومنهم من إعتزل العمل السياسي فكلهم أجرموا في حق الشعب السوداني بتأسيس هذا التنظيم والإنتماء إليه. تنظيم إقصائي يتبنى الإيدلوجية العقائدية التمييزية القمعية البغيضة والمجافية لروح العقيدة الإسلامية السمحة. ذلك التنظيم الذي لم يكن إلا شرخ في جسد الأمة السودانية وإستغلال الدين كوسيلة لإدراك طموحات ذاتية ضيقة. وقد يقول البعض أن حكومة الإنقاذ هي أسوأ حكومة مرت على السودان، ولكنها ليست أسوأ الديكتاتوريات في أفريقيا أوالعالم أجمع. ومن المعلوم أن الثقافة السياسية للأنظمة السياسية الديكتاتورية، وفي كل العالم، ثقافة واحدة تؤمن بالمنطق الواحد في الحكم، وبالإرداة الواحدة في إتخاذ القرار، والوعي الأوحد في تنفيذه وتقييمه. ثقافة سياسية لا تؤمن بالحوار ولا تعترف بالنقد الهادف، وترفض كل أنواع وأشكال الشفافية الأخلاقية الإنسانية، مالية كانت أم سياسية أوإقتصادية أوعدلية. ثقافة توظف منطق القوة والعنف والقمع لحكم ولإدارة وإستغلال وترويض الشعوب، فلا يصح أن يتحمل أهل الشمال وزر قلة طاغية، وليس من الأخلاق أن يحمل المهمشين في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق مسئولية معاناتهم لمواطنيهم المهمشين في الشمال والوسط بحجة أن معقل الديكتاتوريات هي الخرطوم. ولكن هل الحرب هي الخيار الأوحد للتصحيح؟ والسلام ولنا لقاء.