تألمت كثيراً كثيراً عندما سمعت بخبر وفاة العالم خضر عبد الكريم . فأجمل مافي السودان بالرغم من كل المشاكل و المصائب ، أن هنالك رجالٌ و نساءٌ رائعون . أحدهم الدكتور خضر عبد الكريم . قبل اكثر من عقد من الزمان سعدت بالتعرف على الاخ خضر . له الرحمة و العزاء لزوجته و لكل اهل السودان . كان معنا في السويد ، لأن زوجته كانت دبلوماسية في استوكهولم . أتصل بي خضر لأنه كان يحضر لمحاضرة عن الآثار النوبية في السودان . كان عذباً بسيطاً . يأسر الأنسان ببساطته و حميميته . و يقدم نفسه بخضر ، بدون هيلمانة و رتوش . و يسكن قلب الانسان . كانت له بساطة الدراويش . و عمق و عظمة العلماء . بالرغم من انه اتى بالقطار من استوكهولم و المسافة تقريباً حوالي 650 كلم ، إلّا انه لم يضيع دقيقة . فبدأ في اخراج رسومات و ملصقات . و طلب مني ان اعود له بعد ساعتين أو ثلاثة . و عندما رجعت له كان يعمل بتجرد الصوفيين و أيمان المؤمنين . يقيس كل مساحة بالسنتميترات . و يعلق الملصقات و اللوحات ثم يحولها . و يعيد تنظيمها . لم يلتفت الى طعام أو شراب . و لم يهتم لمكيفات من شاي أو قهوة أو أي شئ آخر . و لم يطلب مساعدة من أحد . و أستمر العمل الى ما بعد منتصف الليل . و بعد ان قضى معي الليل استيقظ مبكراً في الصباح ، و أراد الذهاب مرةً اخرى لكي يتأكد من التنظيم و القاعة . و أن كل شئ معد . و كأن القاعة مسرح لعمليات القلب المفتوح . و تحدث العالم خضر رحمة الله عليه و أسر الجميع . و أخذت المحاضرة ضعف وقتها و تحدث و ناقش . كان منظماً و مرتباً . جعل السويدين يفتحون فاههم مندهشين . و صار الأفارقة يزدادون طولاً و يمتلؤون فخراً بالحضارة الافريقية ، ممثلة في الأثار النوبية و الأهرامات السودانية . الاسكندنافيون يحبون الاثار . و يتألم السويديون من قلة الآثار في بلادهم . فكل منشآتهم كانت من الأخشاب التي اختفت مع الزمن . و تحدث لهم العالم خضر رحمة الله عليه عن آثارهم و حضارتهم . خاصة الآثار المتواجدة في جنوبالسويد . و السويديون مهتمون بأثار النوبة بشكل خاص . لأن الملك قوستاف جد الملك الحالي و الذي توفى في سنة 1973 كان مهوساً بأثار النوبة . و كان يحضر الى السودان قديماً مصحوباً بحفيدته المدللة . و التي كذلك تحب الآثار و السودان . و هي الملكة مارقريتا ملكة الدنمارك الحالية . و لقد نكس السودان اعلامه بعد موت الملك قوستاف حداداً عليه . بعد المحاضرة لاحظت ان العالم خضر كان يسير بصعوبة . و لكن لم يكن يشتكي ابداً اثناء المحاضرة . و عندما حضرنا الى المنزل عرفت ان ارجله قد تورمت . و بعد لأي و تشدد وافق ان ادلك له رجليه و امسحهما بالزيت . فلقد كانت تنتظره محاضرة اخرى في مدينة هيلسنبوري على بعد 60 كيلومتر . الحبيب خضر كان يضحك و يحكي لي عن تعب عالم الآثار . و كان يقول ان من يختار هذه المهمة يجب ان يكون مستعداً للتعب و التجرد و التضحية و تقبل الصعاب . و كنت انا اعرف ان عائدها دائماً قليل . و لا يجد صاحبها الثراء و الشهرة و البهرج . و قد لا يجد الانسان حتى الاشادة . و السودان عادة لا يريد ان يصرف اي مال على الآثار و البحث عنها . و حتى لا يريد صيانتها و المحافظة عليها . و ان الجهد الاكبر يقع على عاتق الأجانب و الأممالمتحدة . الدكتور خضر كان يشيد بكثير من طلابه . لتضحياتهم و تقبلهم للتعب و النوم على الارض و شرب الماء العكر و الاكل السيئ . و أذكر انه كان يشيد بأحدى تلميذاته و هي ابنه الاستاذ عثمان محجوب عثمان شقيق بعد الخالق محجوب و أبنة الدكتورة خالدة زاهر الساداتي . المرأة العظيمة متعها الله بالصحة . و كان يقول انه سيكون لها شأن في علم الآثار . في احدى زيارات الدكتور خضر كان يعمل كعادته بتفاني و لا يهتم بأكل أو شرب و يتعب . و بلغ به الأعياء في احد المرات ان وجد صعوبة ان يغادر الفراش . و بعد صعوبة شديدة اقنعته بأن يستجم قليلاً و يأخذ الطائرة ، لانه كان سيقدم محاضرة في نفس اليوم على بعد سبعمائة كيلومتر . هكذا كان الرائع خضر رحمة الله عليه لا تهمه راحته . كان متفانياً مسكوناً بحب السودان و آثار السودان . في نقاشنا عن الآثار ذكرت له بأعجابي بآثار انكور و هي عبارة عن مدينة كاملة بنيت قبل آلاف السنين في كمبوديا . و قام عالم آثار فرنسي بأسترجاعها و المحافظة عليها بعد ان كانت الادغال قد غطت عليها . و فرح خضر رحمة الله عليه عندما احس بأن عندي بعض الاهتمام بالاثار . و كان يتألم لأن السودانيين لا يهتمون بآثارهم . و هذا ينعكس على الحكومة . و كنت اخفف عنه و اقول له ان الانسان الجائع لا يفكر في الآثار . فعالم الآثار الفرنسي قد قتله كمبودي قاطع طريق و نهب المال الذي كان يحمله لدفع اجور العمال ، الذين كانوا يقطعون الادغال و يحافظون على الآثار . و الكمبودي القاتل كان يفكر في الارز و السمك أو اللحم لأطعام اهله الجياع . و لم يقدر جهد العالم الفرنسي . و كنّا نتذكر البروفيسور اسامة ابراهيم النور ، الذي ترك بصمات واضحة في عالم الاثار السودانية . اسامة ابراهيم النور طيب الله ثراه زاملني في مدرسة الاحفاد الثانوية و كان مصادماً انتهى به الامر في سجون دكتاتورية عبود . و كان يقود المظاهرات بسبب ترحيل أهالي حلفا و التضحية بالآثار السودانية . و ربما لهذا صار عالم آثار . و لقد درس الآثار في الاتحاد السوفيتي . و يذكر لي ابن عمي الرباطابي القح حسن فرح المقيم الآن جمهوريات البلطيق ، انه عندما زامل اسامة ابراهيم النور في ليننغراد قديماً ان شرطي سوفيتي قد استفزهم و هم مجموعة من الطلبة السودانيين ، و اخرج مسده . فقام اسامة بأنتزاع المسدس من يد الشرطي . التحية للرجال العظام الذين حافظوا على آثارنا و عملوا في مجال لا يحظى فيه الانسان بالراحة و المال و الجاه . أنه عالم شقاء و تعب . فالتحية لك حبيبنا الدكتور خضر عبد الكريم . فلقد كنت رجلاً عظيماً . لم تكن تحب الراحة . كنت خير سفير لبلدك . العالم خضر كان على غير عادة السودانيين ، يتصل بالناس بعد ان يغادرهم و لا ينسى العشرة . و كانت تصلني تحياته في مناسبات كثيرة . فلقد قال لي الاخ صلاح في كوبنهاجن انه قد قابل دكتور خضر و كان يشيد بكل من قابلهم في اسكندنافيا . و لقد ذكرني بالخير لدرجة ان صلاح قال لي ( لحدي ما افتكرت انه بتكلم عن زول تاني ما شوقي الانا بعرفه ) . دكتور خضر رحمة الله عليه لم يكن مقفولاً في الآثار فقط . كان عالماً بالتاريخ و الفن و التراث ، و الشعر و الأدب . و هو الذي أرسل لي كثير من الاشياء التي تتواجد في المزكرات و المدونات السودانية القديمة في دار الوثائق . كما ارسل لي كتابات والدي ابراهيم بدري باللغة الانجليزية . فلقد كان يبحث عن تاريخ ميثولجيا الدينكا و هجرتهم و تاريخ القبائل الجنوبية . فقد كان مهتماً جداً بتاريخ اليهود في السودان . و كانت لنا نقاشات و حوارات . المؤلم أن امثال العالم خضر يذهب ، و سينساهم الناس و لن يهتم بهم إلّا القليلون . لك التحية العزيز خضر رحمك الله فلقد كنت سودانياً عظيماً . التحية