تلك هي بنيتهم التي أنتهجت القطيعة التامة مع مسيرة الزمن و المعرفة, والتي أستخدموها كألية للسيطرة علي الاخرين و هضم حقوقهم الانسانية. و في سبيل ذلك, فأنهم أفرغوا الاشياء من محتواها و مضامينها, بل أنشأوا مؤسسات للتجهيل العام. مؤسسات كان غرضها الرئيسي هو أنتاج الكائن المشوه المنقاد ذات التفكير الغيبي, الكائن الذي توكل متجها الي الوراء عكس مسيرة التاريخ. فكانت مؤسستهم التي سموها للتربية و التعليم هي المؤسسة الرائدة في مجال بث الجهل و فرض المنهج الغيبي السلفي وسط الجماهير. تلك المؤسسة لازالت عبارة عن سجن اكبر من كبير, تستطيع أن تخرج من عنابره الكثيرة ألا أنك ستظل داخل سوره الكبير, و بذلك فأنك في فلك المريدين الحواريين تدور. أن الذي تضخه مؤسساتهم التي سموها تعليمية, يقع تحت طائلة الانتهاكات الجثيمة لحقوق الانسان التي عرفتها و أقرتها البشرية. سعت مؤسسات التجهيل تلك الي تحويل الشعوب الي مجموعات سكانية بلا ذاكرة, بل في منعرجاتها الاستراتيجية الاخري سعت الي انتاج كائن ذات ذاكرة بكائية أوهمته من خلالها أن المستقبل لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يكون افضل من الماضي, وتلك هي أحدي الاليات في أنتاج التفكير السلفي الذي يتجه ضد مسيرة الزمن و المعرفة. يجدر بي ان أذكر هنا كيف أن مجتمعنا الذي لم يتعرض لماكينات التجهيل قد لخص موقفه تجاه منتوج تلك المؤسسات قائلا: القلم ما بزيل البلم. كان الغرض الرئيسي لتلك المؤسسات هو تثبيت أركان الاستبداد و الظلم, و في نفس الوقت رعاية و مصالح بيوتهم و أسرهم التي نسمعهم في كل الاوقات يسمونها عريقة. فكان الدين و العروبة هما اليتهم ذات الرؤوس و الذيول المتعددة التي أستخدموها لرعاية مصالحهم و قطع رقاب أصحاب الحقوق المظلومين. أشير هنا الي أن مؤسسات التجهيل المذكورة أعلاه قد صممت و بنيت علي تلك الالية صاحبة الرؤوس الشتي, و الذيول الطويلة, حيث أنها رفعت من شأن قوم بعينهم و حطت اخرين, و ذلك من مظاهر الاستنكاح, لأنه ضد فكرة العدالة التي يفترض فيها أن تتضمن حماية و صيانة لحقوق الانسان و أن تضع نظاما للحساب دون تمييز. مثلهم مثل المستبدين و الظالمين, لهم حرسهم الايديولوجي الذي ما أنفك ينتج لهم الفتاوي و النشرات, التي هي مرة تبني علي الدين, و مرة علي العروبة, و تارة علي حسب تقسيمهم للناس من حيث أنهم جلابة أسياد و الاخرين عبيد. تراهم يملكون القصور, العربات الفارهة, يتعالجون في الخارج ان هم مرضوا, يملكون الاموال التي لا تبيد, تراهم لا يمشون, حتي و هم نيام يبصرون, أجسامهم ضخمة تتقدمها الكروش الكبيرة التي تأكل بأستمرار دائم و لكنها لا تشبع, و تتأخرهم مجرات من الدهون, حقا أنهم لقوم مستنكحون!!!. و أياك ان تسأل عن عملهم الذي مكنهم من جمع تلك الاموال الطائلة, فهم فقهاء و علماء المؤمنين, هم الذين لا يأتيهم الباطل من بين يديهم و لا من أي الجهات, هم الذين قالوا ان الله اختارهم لينوبوا عنه في السماوات و الارض و في كل الاماكن, و لذلك فهم فوق الحساب و العقاب, و لذلك يضربون بيد من حديد و يقطعون اوصال المهمشين الذين يعدونهم من العبيد. جعلوها معادلة الوضع في بلاد السودان, كانوا يوهمون الفقراء المظلومين بأنهم أهل القران و السنة, اللوح و الدواية, و أن الفقر و الظلم هو من صميم الزهد, و أن الدنيا و متاعها لا تساوي شيئا من النعيم الذي سوف يتلقاه المظلومون و المقهورون أن صبروا و دعوا ربهم حامدين. تلك هي شريعتهم التي طبقوها بأسم الله علي بلاد السودان. بأسمها صانوا مصالحهم و أستبدادهم, فقتلوا الألوف المؤلفة من المهمشين, و كانوا يؤصلون لأرتكابهم الجرم, فيرتكبون الجرم و يأتون له بمئات الادلة من شريعتهم التي ما فتأت تشمل كل شئ حسبما كانوا يقولون. علي ذلك النسق من الاستعلاء علي الاخرين, أرتكبوا المظالم التاريخية ضد الشعوب الاخري في هذا الوطن السودان. و لأن الحقوق تؤخذ عنوة, نهض المهمشون ضد المشروع القهري الظالم و المستبد. و كعادتهم القديمة ذات العقل الاستعلائي البغيض, أنزل علينا أم جلبنيس مطرا غزيرا فيه من الظلمات و الرعد و البرق ما كاد يجعلنا أن نضع أصابعنا في اذاننا من أم ترنقا حذر سماع الكضب, حقا أن رأسهم ذا عقل خرب. تارة وصفونا كفار, و تارة لاحقهم وسواسهم القهري فنادونا عبيد, ثم جاءهم وحيهم فجأة فوصفونا بعملاء اليهود, و مرات عديدة جعلونا عنصريين جهويين. أفترضونا عبيدا لهم ذاكرة ضب, و أننا سوف لن نذكر أقاويلهم عندما و صفونا بأهل الدين و اللوح و الدواية و كسوة الكعبة الحرام. جمعوا و أستدعوا ذاكرتهم من زمن عاد, عندها تلوا علي حواريهم صحيفتهم المشهورة: أضرب العبد بالعبد. فعلا, ضربوا بيد من حديد الفولاذ و قطعوا أوصال المدنيين الأبرياء كما كانوا يقولون, أرتكبوا و ما زالوا يرتكبون الفظائع ضد النساء و الاطفال. ثم أتوا علي الحرث و الارض, فجعلوها صحراءا مجردة من مظاهر الحياة. أرتكبوا فعلا لم يستطع عتاة الطغاة في تاريخ البشرية أن يأتوا مثله. قتلوا الابرياء و قلبوهم ذات اليمين و ذات الشمال, و كانت طائراتهم باسطة ذراعيها بالوصيد. كلما فعلوا ذلك, قالوا قولتهم المشهورة: أنا حكمنا العبيد في السودان, و نعلم ما توسوس به أنفسهم, و نحن أقرب أليهم من حبل الوريد, ثم قاموا يصلون لربهم. كان كادرهم المنفذ لتلك الافعال, من الذين يحملون صكوكا للغفران من مؤسساتهم التجهيلية, فتجد منهم الخريج و حامل الماجستير و الدرجة المفترض في اصحابها الحكمة, تلك الواقعة تجعل ذاكرتي حضورا, فأستدعي من أساطير الاولين ما يلي: في أحدي الجلسات, أزهلنا سيدنا فكي ورنانق حين أخبرنا أنه قد درس الجامعة. و بالرغم من اننا كنا علي دراية و معرفة تامة به, حيث كنا نعرف أنه كان من الفكية الحافظين للقران والقارئين له علي رواية ورش, و كان من الحافظين للحديث, وكان أمام الضرة بتاع فطور رمضان, وكيف أنه كان يعالج هلوسة أم غبية والجنون مستخدما كتابة أم الصبيان صغري و كبري, و أنه من الذين مشوا الحج كداري, و أنه كان من رواد لعبة الضالة التي يستطيع أن يطرد فيها منافسيه في وادي ود برلي مستخدما نظرية تور العمة, و أنه كان ملما بتاريخ الممالك القديمة, فهو اول من أخبرنا عن مملكة البرنو و التامة و كسافورو و كوكوني وداي, و كيف أن مدينة فورلامي تحولت الي أسم العاصمة أنجمينا. سألناه عن أي جامعة تلك التي درسها و أي كلية. عندها أقام الصلاة, أذكر أن صلاته تلك قد أستمرت لفترة طويلة أظنها مكنته أن يقرأ فيها سورة البقرة و النساء و ال عمران و بعضا من الاحاديث. أنتظرناه طويلا و لكن صلاته كانت أطول, عندها عرفنا أنه فعلا من علماء مؤسسات التجهيل, و لا بد أنه كان من الناجحين, فتركناه و ذهبنا للفطور. في مدينة نيالا, كانت أمي تمتلك راكوبة خدار في أم سيقو قرب منزلنا بحي كوريا. كنت أعمل معها في تلك الراكوبة. كنت أصحو معها قبل صلاة الصبح لتلقي الخدار الذي يحضره الجناينية من حلة موسي شرق المدرسة الفنية. في ذلك اليوم و قبل صلاة الصبح, قابلنا العجوز خديرة راكبة في كارو حصان مشحون خدار. حاولنا أن نشتري منها طماطم لكن السعر كان غالي جدا, عندما قالت لها أمي أن ذلك السعر غالي, أدهشتنا حين ردت قائلة:(السعر مرتفع لأني دايرة أوفر مصاريفي بتاعة الجامعة). كنا نعرفها حق المعرفة, فهي حبوبة خديرة ذاتها, حبوبة ناس بابكر و اخواته. و كنا نذكر أنها مشت الحج مع ناس حبوبة الساكنة و عمك خاتر و حاج مجوك سيد الفرن و حبوبة مريم دحيشة. سألتها عن جامعتها التي تدرس فيها, في تلك اللحظة سمعنا أذان الصبح, فكان ردها: الونسة حرمت, و أقامت الصلاة. في كل جمعة, كنا نذهب الي كندوة لنقضي بعض الوقت في الوادي و الجناين. لكنا مؤخرا بدأنا نفضل الذهاب الي كشلنقو, حيث كنا نتناول بعض الأكولات المنتجة محليا مثل الدغبوبة و التكاية و وجبة اخري, أظنها البغو. في تلك الجمعة ذهبت مع صديقي عثيمينة الي كشلنقو, و لكنا وجدنا السوق فاضي من أي شئ. كان الناس ملتفين حول احد المفسرين الذي كان يفسر لهم القران والحديث. أخبرهم و هو يصفهم بأنهم مسلمين و مؤمنين أن يوم القيامة ات لا محال, و أن الكفار سيعذبون شر العذاب. ظننا أن الناس قد نسوا أو قرروا أن لا يفتحوا رواكيبهم في السوق من شدة الهول, و رأينا رجلا في فمه مسواك شاو فتذكرنا أن شهر رمضان قد بدأ, ثم أتخذنا قرارا بالمبيت. بعد صلاة المغرب, رأينا المفسر يخت سفة بالكرب و هو راقد علي البرش الجفندي متمددا. سألته عن كيف عرف أن ذاك الجمع قد حوي مؤمنين و مسلمين, خاصة و أنه لم يكن يحمل أيمانوميتر أو أسلاموميتر؟ أجهر بدعائه الذي كان يقرؤه سرا و هو مستلقي, فلم يلقي بالا لسؤالي. عند الفجر, خطب مفسرنا في الجمع الذين سماهم أمة محمد و أتبعها بصلي الله عليه و سلم, فقال: أسرائيل هي عدوة الله و المسلمين و العرب, و أن الشيطان هو حليفها الذي يزين الدنيا للغافلين. نظر الي مليئا ثم قال لي: امبارح تلفلفس تقول شنو؟ ثم أستلف من مفردات مؤسسات التجهيل و وصفني بعدو الامة, و عميلا لاسرائيل التي قال أنها عدو الله و العرب و المسلمين, لم أكن قادرا علي فهم الذي يجمع ثلاثتهم في موقف واحد, فناديت صديقي قائلا له: ار, المضر, كن شفتو فر, كن ما فريت أنضريت. و هربنا منحازين استرتيجيا لهامشنا المظلوم. 14 ابريل 2012 أنقابو أبكر الدارفوري