مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأحزاب السودانية .. بعيداً عن (القضايا الوطنية) .. قريباً من (الثوابت الوطنية) .. !! (2-3)
نشر في سودانيزاونلاين يوم 14 - 05 - 2012


عادل إبراهيم شالوكا – [email protected] .
الهوية (الإسلامية - العربية) والآيديولوجيا (الإسلاموعروبية) .. جبهة موَّحدة رغم المناورات :
مواصلة لما سبق من حديث فى الجزء الأول الذى تناونا فيه الخلفية التاريخية لتشكُّل الأحزاب والكيانات السياسية السودانية, نتحدث فى هذا المقال عن الكيفية التى تمت ولا زال يتم بها الدفاع عن الهوية (الإسلامية - العربية) والآيديولوجيا (الإسلاموعروبية) - جوهر (الثوابت الوطنية) للقوى السياسية الشمالية فى السودان, وبالتالى إستطاعت هذه الكيانات أن تُدافع عن المُحددات الرئيسية التى أكسبتها الوضعية التاريخية المُسيطرة والتى إستطاعوا من خلالها السيطرة المُطلقة على السُلطة والثروة فى السودان.
الوقوف ضد التيار العلمانى :
يُعتبر حل الحزب الشيوعى السودانى عام 1965م , واحدة من أهم العلامات الفاصلة فى المشهد السياسى السودانى , وقد بيَّنت تلك الحادثة الكيفية التى تتعاطى بها الأحزاب السياسية السودانية مع قضايا الدين والحريات والمواطنة والحقوق المدنية المتساوية . إنفجرت الأزمة مساء الإثنين 9/11/1965م في ندوة عُقدت بمقر معهد المعلمين العالي بمدينة أم درمان نظمها الإخوان المسلمون, وتحدثت فيها سعاد الفاتح ودار نقاش حول البغاء (الزنا), ونهض طالب يُدعي شوقي محمد علي، وقال: ((إن الزنا كان يُمارس في بيت الرسول)) ، وخاض في حديث الإفك, وإستغل الأخوان المسلمين الموقف وحوَّلوه نحو الحزب الشيوعي السوداني, فأعلنوا أن الطالب عضو في الحزب الشيوعي، وإنتقلوا إلي إتهام الحزب بالكفر والإلحاد, فسارعت رابطة الطلبة الشيوعيين بالمعهد بإصدار بيان في اليوم التالي وضَّحت فيه أن الطالب ليس عضواً في الحزب الشيوعي, وعبَّرت الرابطة عن إستنكارها الشديد لحديث الطالب, كما أصدرت التنظيمات الطلابية بالمعهد بياناً أدانت فيه تصرفه, ولكن الموقف تصاعد يوم الجمعة عندما خرجت عدة مُظاهرات من أم درمان بعد صلاة الجمعة، وإتجهت إلي منزل إسماعيل الأزهري فخطب فيهم مؤكداً أن الحكومة والجمعية التأسيسية ستضع حداً لهذا الفساد، وإن لم تفعل فإنه سينزل معهم الشارع لتطهير البلد..!! . فالأحزاب السياسية قررت إستغلال الحادث لتوحيد صفوفها وتصفية الحزب الشيوعى وبالتالى القضاء على تيار العلمانية حيث كان نفوذ الحزب الشيوعى يتسع وشعبيته تزداد, فدفعت الأحزاب بمؤيديها لمهاجمة دور الحزب الشيوعي بالأسلحة, وإزداد الموقف تصاعداً عندما قامت بعض جماهير الأحزاب بمحاصرة البرلمان في جو مشحون ب(الهستيريا) مُطالبة بحل الحزب الشيوعي, وتراجع موضوع الطالب وما قاله (في حق الرسول)، وتحولت المعركة الي صراع سياسي سافر.
إجتمعت الجمعية التأسيسية في 15 نوفمبر 1965م , ومنذ ذلك الوقت بدأت سلسلة من الإجراءات المتعجلة جداً, حيث تم تعليق اللوائح وخرق الدستور والإستخفاف بالأعراف والتقاليد السياسية والبرلمانية, وقد دارت في تلك الجلسة مناقشات مُطولة نقتطف بعضاً منها، فقد قال حسن عبد الله الترابي " دوائر الخريجين " :
(ان الطالب الغر ليس هو السبب الذي به نُطالب بحل الحزب الشيوعي, فالرصاصة التي صرعت القرشي في 21 اكتوبر 1964م والتي أدت الي ثورة ضد الحكم العسكري, لم تكن هى سبب الثورة, ولم يخرج الناس إلى الشارع من أجل الإنتقام للقتيل, ولذلك فإن حديث طالب المعهد كان الشرارة التي أخرجت الناس للمطالبة بحل الحزب الشيوعي).
وذكر خمسة إتهامات موجهة للحزب الشيوعي، وهي : (الإيمان، الأخلاق، الديمقراطية، الوحدة الوطنية، والإخلاص للوطن). أما محمد إبراهيم نقد (دوائر الخريجين), فقد تناول ما قاله حسن الترابي، فقال :
(إن الحديث عن الأخلاق يكثر في هذا المجلس وذلك كلما واجه المجلس أزمة حقيقية تجاه القضايا الكبري) .
وكان نقد يشير هنا الي دفاع الترابي ضد محاكمة الذين دبروا إنقلاب نوفمبر 1958م , بحجة أنهم أعطوا وعداً بعدم محاكمتهم, ثم يستمر نقد فيقول:
(قد يكون الحديث عن الأخلاق ذو قيمة وينبغي المحافظة عليها, ولكن التحدث عن الأخلاق عند بروز الأزمات يوضح أين تكمن الأخلاق الجريحة, وتصريحات الترابي متضاربة, فمن الأفضل أن يواجه الإنسان خصماً سياسياً له رأي واضح، أما التذبذب والتلوُّن في المبادي والأخلاق فلا أجد نفسي في حاجة للرد عليه, وأن النظريات الاجتماعية لا توضع للمناقشة هكذا في البرلمانات، فهي لها مجال آخر، ولذلك فإن مناقشة النظرية الماركسية بهذا الأسلوب تطاول ما بعده تطاول, والحزب الشيوعي برئ من تُهمة الإلحاد التي يسعى البعض إلى إلصاقها به, وقد وضَّح موقفه من الدين في دستوره وفي تاريخه الطويل وتاريخ أعضائه).
وأخيراً أُجيز إقتراح حلّ الحزب الشيوعي بأغلبية (151) ومعارضة (12) وإمتناع (9) أعضاء, وهكذا إنتهت أول مسرحية سياسية بإسم الإسلام وتم طرد النواب الشيوعيين من البرلمان, وبالتالى إنتصرت القوى السياسية التقليدية الرجعية فى جولة هامة من جولات الحفاظ على (الثوابت الوطنية) وحراسة الآيديولوجية (الإسلاموعروبية).
محمود محمد طه – إغتيال رائد الإسلام المعتدل فى السودان:
ظهر خلال هذه الفترة شكل آخر من أشكال الإرهاب السياسي المُلتحف بالدين, فقد طلبت المحكمة الشرعية العليا من الأستاذ/ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري أن يمثل أمامها يوم 18/11/1968م, لمواجهة تُهمة الردة, فرفض أن يُوَّقع علي طلب المثول أمامها, وأعلن أن القضاة السودانيين لا يملكون أي صلاحيات لتكفير أي إنسان أو إعلان ردته عن الإسلام, وإجتمعت المحكمة في 19/11/1968م وأصدرت حكماً غيابياً بردة الأستاذ/ محمود محمد طه عن الإسلام، وأمرته بالتوقف عن جميع الأقوال والأفعال التي أدت الي الردة.
وتكشف هذه القضية كيف أُقحم الدين لتصفية الخلافات السياسية, ولكن المناخ العام وتوازن القوى السياسي النسبي، لم يسمح لتلك المؤامرة أن تمضي إلي المدي الذي خُطط لها, ولكنها شكَّلت ظاهرة خطيرة, ولعلها كانت "بروفة" للمسرحية المأساوية التي نُفذت في شتاء عام 1985م، وهي شنق الأستاذ محمود محمد طه، بنفس التُهمة, وهذه بعض أقواله أثناء جلسات محاكمته :
(( أنا أعلنت رأي مرارا ، في قوانين سبتمبر 1983م ، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام .. أكثر من ذلك فإنها شوَّهت الشريعة ، وشوَّهت الإسلام ، ونفَّرت عنه .. يضاف إلي ذلك أنها وُضِعت ، وأُستغِلَّت لإرهاب الشعب وسوقه إلي الاستكانة عن طريق إذلاله .. ثم إنها هدَّدت وحدة البلاد .. هذا من حيث التنظير ..و أما من حيث التطبيق ، فإن القُضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها ، غير مؤهلين فنياً ، وضعفوا أخلاقياً عن أن يمتنعوا عن وضع أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية ، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب ، وتشويه الإسلام ، وإهانة الفكر والمُفكرين ، وإذلال المعارضين السياسيين .. ومن أجل ذلك ، فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكَّرت لحُرمة القضاء المستقل ، ورضيَّت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر ، والتنكيل بالمعارضين السياسيين )).
حَكمَت المحكمة برئاسة القاضي (المهلاوي) بإعدام الأستاذ/ محمود محمد طه (76) سنة وأربعة آخرين من أنصار الحزب الجمهوري, وذلك لمعارضتهم (الشريعة الإسلامية) المُعلنة في البلاد منذ عام 1983م, وحكمَت المحكمة أيضاً بمُصادرة بيت المُتهم وهو عبارة عن بيت من الجالوص في الحارة الأولي بالمهدية في أم درمان , وتم تنفيذ حكم الإعدام في مشنقة سجن كوبر وعلنياً أمام الجماهير بعد ان إستتيب بمُهلة شهر, إلاَّ إنه رفض التراجع .. عند الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة 18 يناير 1985م ، صعد الأستاذ/ محمود محمد طه بكل شجاعة وكبرياء وثقة فى النفس درجات السلم إلى المشنقة تحت سمع وبصر الآلاف من الناس ، ونزع عنه القناع وتم شنقه ..!!.
وكان قبلها قد أيدت محمكة الإستئناف برئاسة طه الكباشي, حكم الإعدم ثم أيده رئيس الجمهورية - جعفر نميرى . أثار هذا الحكم ضجة هائلة, وتدخل عدة رؤساء دول لإثناء نميري عن التنفيذ ..كان أبرزهم الرئيس أنور السادات, وكانوا يرون ان الرجل لم تتوفر له محكمة عادلة لأنها كانت في الأساس محكمة سياسية وتم الإستعانة بقاضي صغير السن وحديث عهد بالقضاء.
وقد تم إلغاء الحُكم بواسطة محكمة الإستئناف العليا بعد الإنتفاضة وإعتبار محاكمته باطلة لأن الحيثيات التي إستندت إليها المُحاكمة غير صحيحة لمحاكمته بالردة, بينما قُبض عليه بتهمة توزيع منشورات تناهض قوانين سبتمبر التي أصدرها نظام نميري , وبالتالى أُسدل الستار على جولة أخرى من جولات الدفاع عن (الآيديولوجيا) و(الثوابت), تلك المسرحية التى لا يُبرأ منها أىِّ من دُعاة (الإسلاموعروبية).
ويُعد الفكر الجمهورى الذى دعى إليه الأستاذ محمود محمد طه واحدة من الركائز المهمة التى كان يُمكن أن تُؤسس لدولة مُواطنة حقيقية يتساوى فيه الناس فى الحقوق والواجبات فى إطار تعايش ووحدة وطنية حقيقية.
الدستور الإسلامى – التأطير للدولة الدينية :
وبرز الصراع السياسي بإسم الدين في شكل آخر أكثر حدة, فعندما بدأ الإعداد لوضع دستور دائم للبلاد، ظهرت دعوة الدستور الإسلامي والجمهورية الرئاسية وهما يشكلان وجهين للدولة الدينية المتسلطة, وكانت الدعوة للدستور الإسلامي قد إنهزمت في عام 1957م، فجاءت مسودة الدستور التي وُضعت في ذلك العام علمانية, ولكن إنقلاب 1958م عطَّل المعني فيها, ووجدت دعوة الدستور الإسلامي مناخاً أكثر ملاءمة عام 1965م, وفي يناير 1967م كوَّنت الحكومة لجنة من الجمعية التأسيسية التي أُنتخبت حديثاً لوضع مسودة للدستور, ولكثرة الإعتراضات علي تشكيلها لم تستطيع أن تُنجز شيئاً, وفي سبتمبر 1968م تم تكوين لجنة الدستور الجديدة، ثم بدأت الصراعات والمناورات حول الدستور الإسلامي واللجنة التي شُكلت لصياغته, وكانت اللجنة قد بدأت في إجازة بعض بنود الدستور, فأجازت في إجتماعها السابع بتاريخ 19/12/1968 النص الآتى :
((أن الإسلام دين الدولة الرسمي واللغة العربية لغتها الرسمية، وأن السودان جزء من الكيان العربي الإسلامي))..!! .
ثم أجازت اللجنة في إجتماعها بتاريخ 10/11/1969م المادة (14) التي تقول:
((تسعي الدولة جاهدة لبث الوعي الديني بين الموطنين وتعمل علي تطهير المجتمع من الإلحاد ومن صور الفساد كافة والإنحلال الخلقي))..!!
وإستمرت بعد ذلك مسلل الدفاع عن (الثوابت) والعمل الجاد لإعتمادها وفرضها على الدولة والمجتمع, ففى أول إجتماع إستراتيجى عُقد بعد إنقلاب 30 يونيو عام 1989م , إنقلاب ما يسمى بثورة الإنقاذ الوطنى, حيث عُقد ذلك الإجتماع فى بداية التسعينات, فقد جاء فى أهم مقررات الإجتماع :
(إن الثورة قد حسمت مسألة الهوية فى السودان (الإسلاموعروبية), وإن الإنقاذ ستسعى لإرساء دعائم (المشروع الحضارى).
وهو نفس الشىء الذى أكدته النُخب الشمالية بعد خروج البريطانيون مباشرة عام 1956م , الأمر الذى أثار حفيظة القوميات التى لا تنتمى إلى حقل الثقافة (العربية – الإسلامية) إلى يومنا هذا , وظل هذا الأمر حاضراً بقوة فى أجندة الهامش وبإستمرار, ولا يخلو منفستو جميع الحركات التى حملت السلاح من قبل والتى تحمل السلاح الآن من مسألة الهوية كأحد أسباب الصراع فى السودان وكقضية يجب مخاطبتها وحلها للوصول إلى سلام عادل وشامل بموجبه تتم إعادة هيكلة الدولة وبناء الأمة , وعندما لم تُعالج هذه المشكلة بصورة جيدة وجزرية فى إتفاقية السلام الشامل, ذهب الجنوب وترك خريطة السودان مشَّوهة وقابلة للتشَوُه أكثر (سنتطرق لهذا الموضع بتفصيل أكثر فى مقالات أخرى قادمة).
وقد جاء خطاب البشير فى القضارف بعد إنفصال الجنوب مؤكداً لمقررات الإجتماع الإستراتيجى لما يسمى بثورة الإنقاذ الوطنى .
وتسارعت الأحداث بعد ذلك , فبتاريخ 7 ديسمبر 2011م , عقدت اللجنة الإعلامية لما يُسمى بجبهة الدستور الإسلامي (وهى مجموعة الجماعات الإسلامية الأصولية, والسلفيين والمتشددين دينياً داخل النظام) مؤتمراً صحفياً تنويرياً بقاعة مبنى هيئة علماء السودان, تحدث فيه عدد من علماء السودان المحسوبين على الحزب الحاكم, ورابطة العلماء والأئمة والدُعاة المحسوبين على الجماعات السلفية والمدارس الإسلامية الأصولية, شرحوا فيه تفاصيل مسودة الدستور الإسلامي الذي تمت صياغته بواسطة لجنة مُختصة مُكونة من مُمثلين لكافة أطراف الجبهة , وقد تم تسليم المسودة لرئيس الجمهورية ليكون ما جاء فيها, هادياً للبلاد في المرحلة المقبلة من عمر ما يُسمي ب(الجمهورية الثانية), وبالتالى لا زال صراع الدفاع عن (الثوابت) وإقراراها (أمراً واقعاً), متواصلاً .
الموقف من جهود التوصل لحل القضايا الجوهرية :
إتَّخذت هذه الأحزاب تاريخياً مواقف سلبية تجاه المبادرات والإتفاقيات التى تناولت قضايا مصيرية حقيقية مثل علاقة الدين بالدولة وغيرها من الملفات التى يمكن أن تعمل على تفكيك المركزية (الإسلامعروبية) وبالتالى إنهيار المنظومة والمؤسسة التى تحكم علاقات السلطة والثروة فى السودان , على سبيل المثال نستعرض بعض هذه الإتفاقيات :
إعلان كوكادام – 1986م :
إنعقد المؤتمر فى يوم 20 مارس 1986م فى مدينة كوكادام الأثيوبية بين الحركة الشعبية والتجمع الوطنى النقابى ما عدا حزبى الإتحادى الديمقراطى والجبهة الإسلامية , وكان المؤتمر قد أصدر بيانه الختامى فى 24 مارس و نادى بالآتى :
1- بناء سودان جديد خالى من العنصرية والقبلية والطائفية وكل أسباب التمييز.
2- إلغاء قوانين سبتمبر 1983م .
3- تهيئة المناخ ليقود إلى عقد المؤتمر الدستورى المقترح.
4- إلغاء الإتفاقيات العسكرية التي تضعف السيادة الوطنية.
5- رفع حالة الطواريء.
6- إستبدال دستور عام 1985م الإنتقالي بدستور 1956م كما هو معدل في عام 1964م.
رفضت الجبهة الإسلامية التوقيع على الإتفاق بحجة محاربته للشريعة الإسلامية (قوانين سبتمبر 1983) , وقد مارست الجبهة الإسلامية ضغوطاً على حزب الأمة أدى إلى إنسحابه من الإعلان وبخروج الأحزاب الكبيرة الأمة والإتحادى والجبهة الإسلامية , إنهار الإعلان .
إتفاقية الميرغنى – قرنق - 1988م :
فى 16 نوفمبر 1983م إلتقى الدكتور- جون قرنق مع السيد - محمد عثمان الميرغنى لإبرام إتفاق سُمى بمبادرة السلام السودانية , نصت المبادرة على الآتى :
1- الإعتراف بالتعدد العرقى والثقافى والدينى فى السودان.
2- تشكليل لجنة قومية للتحضير لإنعقاد المؤتمر الدستورى .
3- فى حالة تنفيذ البنود الواردة فى الإتفاق وتوفر الضمانات الأمنية التى ترضى الطرفين يُعقد المؤتمر الدستورى بتاريخ 13 دسمبر 1988م.
رفض حزب الأمة والجبهة الإسلامية الإتفاق مما أدى إلى رفض الصادق المهدى إيداع الإتفاق فى الجمعية التأسيسية للنقاش, وعندما أصَّر الحزب الإتحادى الديمقراطى على عرض الإتفاق على الجمعية التأسيسية أُسقط بأغلبية ميكانيكية تضم حزب الأمة والجبهة الإسلامية مما أدى إلى إنسحاب الحزب الإتحادى الديمقراطى من الجمعية التأسيسية فى 28 ديسمبر 1988م. نتيجة للرفض العام إجتمع الحزب الإتحادى الديمقراطى والأحزاب الأفريقية فى مدينة أمبو الأثيوبية فيما عرف بورشة (أمبو) فى 9 فبراير 1989م للتأكيد لدعمهم للإتفاق .
ونتيجة لضغط منظمات المجتمع المدنى والأحزاب الأفريقية والإتحادى الديمقراطى تراجع الصادق المهدى عن موقفه الرافض للإتفاق وعقد إئتلافاً مع الحزب الإتحادى الديمقراطى أيَّد بموجبه الإتفاق مما أدى إلى خروج الجبهة الإسلامية القومية من الحكومة , فأوقفت الحركة الشعبية لتحرير السودان إطلاق النار لرد فعل على هذه الخطوة وقامت الحكومة من جانبها بتجميد قوانين سبتمبر , عندها قامت الجبهة الإسلامية القومية كرد فعل لهذه التطورات بإنقلاب عسكرى فى 30 يونيو 1989م لقطع الطريق أمام أى تسوية سياسية يمكن أن تفضى إلى إلغاء قوانين سبتمبر أو قوانين (الشريعة الإسلامية) .
نيفاشا : 2005م :
برغم إن إتفاقية السلام الشامل التى وُقِّعت بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الوطنى الحاكم, عالجت العديد من القضايا والملفات الهامة, والتى بموجبها أُوقفت أطول حرب أهلية فى القارة, إلا إن هذه القوى السياسية كانت تنظر إليها بإعتبارها ثنائية وتم توقيعها بين طرفين, وبالتالى كانوا يعتبرون ان الحسنة الوحيدة فيها, كونها أوقفت نزيف الدم والإقتتال, على حد وصفها, غير إن التحفظ الحقيقى لهذه الأحزاب كان يكمن فى بنود الإتفاق والتفاصيل التى تم مناقشتها وبموجبها إتفق الطرفان .
والمُلاحظ إن معظم الإتفاقيات التى وقَّعتها هذه القوى ركزَّت على قضايا غير جوهرية, عكس ما طرحته نيفاشا من قضايا مصيرية حقيقية وحية, فكان تركيز الأحزاب السودانية على ملفات لا تُعبِّر عن خلافات حقيقية بينها وبين المؤتمر الوطنى مثل ملف الإنتخابات والدستور والحريات وحقوق الإنسان, ولكن أهم هذه القضايا, كان ملف التعويضات عن الممتلكات التى صادرتها الحكومة وضرورة إرجاع هذه الأملاك والأصول وغيرها , فعلى سبيل المثال جاء فى إتفاقية القاهرة التى وقَّعها التجمع الوطنى الديمقراطى مع حكومة السودان بتاريخ 20 يونيو 2005م , فى البند (10) : (رفع المظالم ودفع الضرر), وهذا الملف نفسه حُظى بواحدة من اللجان الثلاثة التى تم تكوينها بجانب اللجنة السياسية واللجنة القانونية , وطيلة فترة حكم الإنقاذ كان ملف الأملاك والتعويضات هو الأكثر تركيزاً عليه فى المناورات والمحادثات التى كانت تتم بين المؤتمر الوطنى وحزبى الأمة والإتحادى الديمقراطى .
هل من جديد ..؟
هذا التصريح يعكس الموقف الحقيقى الحالى للقوى السياسية السودانية وإلتفافها حول ما يُسمى ب(الثوابت الوطنية), وقد صَدر بصحف الخرطوم بتاريخ 6 مايو 2012م :
)( حذَّر زعيم حزب الأمة المعارض، الصادق المهدي، من أن عدم الإتفاق على خريطة طريق وطنية للخروج من أزمات البلاد سيضعها تحت التدويل والوصاية، ودعا إلى الحوار مع قيادات تحالف (الجبهة الثورية) مالك عقار وعبد العزيز الحلو وياسر عرمان وجبريل إبراهيم ومني أركو مناوي على كل القضايا عدا " الخطوط الحمراء " التي حصرها في العلمانية النافية للدين، وحق تقرير المصير, ووصفهم ب (العقلاء) ).
وهنا يتضح (الإستهبال) المفضوح والإستخفاف بل الإستهتار بقضايا الآخرين, فى الآتى :
أولاً : كيف يتم وصف الناس بالعُقلاء وفى نفس الوقت محاصرتهم بشروط و"خطوط حمراء" ؟ فالإنسان العاقل لا تملى عليه شروط بإعتباره قادر على تقييم الأمور وإتخاذ القرارت الحكيمة.
ثانياً : من الذى يملك " فرشاة الرسم " أصلاً حتى يحدد لون - الخطوط - (حمراء أم صفراء أو زرقاء ...) – من الذى أعطى للصادق المهدى سلطة وحق تحديد ألوان الخطوط ..؟ أهى سلطة " أولاد البلد" ؟.
ثالثاً : عندما ترفض العلمانية , وهو أحد الأسباب الرئيسية لإنفصال الجنوب, وأحد الأسباب المباشرة للحرب الدائرة الآن , فلماذا رفع هؤلاء (العُقلاء) السلاح أساساً .!!؟ فهل التمسك برفض العلمانية يمكن أن يؤدى إلى أى نتائج إيجابية ..؟.
رابعاً : وعندما ترفض كذلك حق تقرير المصير, فماذا تبقى من خيارات لحل الأزمة , هل نفهم من ذلك أن الصادق المهدى يقصد إن هؤلاء العُقلاء يجب أن يكونوا (عاقلين أكثر) ويخلوا اللعب على القضايا الكبيرة ..؟
خامساً : ما هو الخيار والحل الجِدى للأزمة الذى يطرحه الصادق المهدى ..؟
وهذا تصريح آخر فى نفس التاريخ (6 مايو 2012م), وقد جاء متزامناً مع تصريح الصادق المهدى, ويُوضح كيفية إستغلال المؤتمر الوطنى لل(ثوابت الوطنية) لإستقطاب القوى السياسية وجرها إلى معسكر مؤسسة "الجلابة" (الإسلاموعروبية):
((كشف رئيس قطاع العلاقات الخارجية في المؤتمر الوطني، ورئيس الإتحاد العام لنقابات عمال السودان، البروفيسور إبراهيم غندور، موضحاً إن المعارضة لا تفرق بين (الوطن) و(الوطني) مما يجعل السودان مستهدفاً ويسهل إصطياده لوجود فجوات تسهل تدخل الأجندات الخارجية, وذكر أن السودان يمر بتحد كبير ليس لوجود حكومة ظالمة وباطشة كما يرى معارضوها، وإنما للإستهداف الدولي، ورأى أن الأحداث الأخيرة أكدَّت أن الشعب أكبر من ساسته، ودعا القوى السياسية والمجتمع المدني للإتفاق على ثوابت وطنية ودستور دائم للبلاد)).
وهذا تصريح آخر لوزير الخارجية (على كرتى) في إجابة له على سؤال الأستاذ أحمد منصور مقدم برنامج ( بلا حدود ) بقناة الجزيرة الفضائية عن مسئولية حزب المؤتمر الوطني التاريخية والأخلاقية في انفصال الجنوب فكان رده بسؤال مضاد لمقدم البرنامج قائلاً :
(وهل تقبل أنت أن يحكمك شخص غير عربي ومسلم... ؟!!!.) .
وعليه فإن هذه الأحزاب السياسية السودانية وعلى رأسها المؤتمر الوطنى, لا زالت تسير فى نفس الطريق والخط التاريخى المرسوم, وتُحافظ على (ثوابتها الوطنية), ولا نعتقد إنها ستراوح مكانها, وبالتالى يصبح أمر البحث عن خيارات وحلول أخرى فى مقابل هذه (الثوابت) التاريخية, أمر فى غاية الجِدية.
فى الجزء الأخير (المقال القادم) سنتناول موقف هذه القوى السياسية من حروب الهامش التاريخية ضد المركز , وموقفها من الجبهة الثورية السودانية , وموقفها فى قضية (هجليج).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.