القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خفايا وخبايا مفاوضات اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (11 – 14) د. سلمان محمد أحمد سلمان


1
كما ذكرنا في المقالات السابقة فقد كانت مسألة استئناف التفاوض مع مصر حول مياه النيل من أولويات حكومة الفريق ابراهيم عبود التي وصلت إلى السلطة في الخرطوم عبر الانقلاب العسكري في 17 نوفمبر عام 1958. لكنّ الحكومة العسكرية الجديدة انشغلت خلال عامها الأول بالخلافات الحادة داخل قيادات الجيش، وداخل مجلس قيادة الثورة العسكري نفسه. عليه فلم تلتفت الحكومة إلى مسألة التفاوض مع مصر حول تقسيم مياه النيل حتى سبتمبر عام 1959 عندما قرر الرئيسان جمال عبد الناصر والفريق ابراهيم عبود استئناف المفاوضات حول مياه النيل.
وصل الوفد السوداني القاهرة يوم 8 أكتوبر عام 1959، وبدأت المفاوضات بين الوفد السوداني بقيادة اللواء محمد طلعت فريد والوفد المصري بقيادة السيد زكريا محي الدين حول تقسيم مياه النيل والمسائل الاقتصادية والتجارية في القاهرة في 10 أكتوبر عام 1959 واستمرت حتى 7 نوفمبر عام 1959. وقد فصّلنا في مقالٍ سابق أسماء أعضاء الوفد السوداني والذي شمل عشرة مدنيين وثلاثة عسكريين.
بعد أربعة أسابيع من التفاوض تمّ التوقيع على اتفاقية مياه النيل ومعها الاتفاق المالي والتجاري واتفاقية المسائل الجمركية يوم الأحد 8 نوفمبر عام 1959 وسط تغطيةٍ اعلامية محلية واقليمية ودولية مكثّفة. وفي عصر الثلاثاء 10 نوفمبر عام 1959 غادر الوفد السوداني القاهرة مُتجها إلى الخرطوم. وقد كان في وداع الوفد السوداني في مطار القاهرة كبار رجالات الدولة المصريين يتقدمهم السيد زكريا محي الدين وزير الداخلية ورئيس الوفد المصري المفاوض.
2
كان في استقبال الوفد العائد في مطار الخرطوم السادة أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء وكبار رجالات الدولة. وكانت مجالس بلديات العاصمة المثلثة قد أصدرت بياناً للمواطنين تحثّهم فيه بالإسراع لاستقبال الوفد العائد، ووفّرت لهم المواصلات المجّانية للمطار. وأصدر السيد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بياناُ أعلن فيه عن سروره البالغ للنتائج التي توصّل إليها الجانبان، وأكّد أن تلك الاتفاقية العادلة قد أزالت كل جفوةٍ مفتعلة بين البلدين الشقيقين، وستقود الشعبين من نصرٍ إلى نصر. وأعقب الفريق ابراهيم عبود بيانه ببرقيةٍ إلى الرئيس جمال عبد الناصر يشكره فيها على الحفاوة والكرم وروح الإخاء التي سادت المفاوضات وأدّت إلى نجاحها.
وقد احتلّت الاتفاقية حيّزاً كبيراً في خطاب الفريق ابراهيم عبود في 17 نوفمبر 1959، بعد أسبوعٍ من عودة الوفد إلى الخرطوم، بمناسبة الذكرى الأولى لاستيلاء القوات المسلحة على السلطة. وأبرز الخطاب اتفاقية مياه النيل كإنجازٍ كبيرٍ وتاريخيٍ لحكومة "الثورة" الجديدة، وكمعلمٍ أساسي لمسيرة التنمية في السودان.
3
في صباح الأربعاء 11 نوفمبر 1959، أي بعد ثلاثة أيامٍ من توقيع الاتفاقية وأقل من يومٍ من عودة الوفد المفاوض، وقبل أن يجفّ حبرها، صادق مجلس الوزراء عليها (مع الاتفاقيتين الأخريتين) وأصدر المجلس القانون الخاص بها. والملاحظ أنه تمّ التصديق على الاتفاقيات بواسطة مجلس الوزراء وليس بواسطة المجلس الأعلى للقوات المسلحة والذي كان السلطة التشريعية والتنفيذية العليا في السودان في ذلك الوقت. وفي رأيي أن السبب وراء ذلك يرجع إلى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أراد بذلك القرار إشراك المدنيين الخمسة في مجلس الوزراء (السادة أحمد خير وزير الخارجية، عبد الماجد أحمد وزير المالية، محمد أحمد علي وزير الصحة، زيادة أرباب وزير المعارف والعدل، وسانتينو دينق وزير الثروة الحيوانية) في قرار التصديق على الاتفاقية وتحميلهم مع أعضاء المجلس العسكري مسؤولية وتبعات الاتفاقية.
في نفس يوم وصول الوفد إلى الخرطوم أصدر السيد أحمد خير وزير الخارجية بياناً منفصلاً أعلن فيه أنه سعيدٌ لتوقيع الاتفاق ويشعر بأنه أدّى مع اخوانه في حكومة الثورة عملاُ كانت نتائجه ناجحةً وباهرة.
4
على الرغم من أن الأحزاب السياسية كانت قانونياً محلولةً في ذلك العهد فإن القيادات الدينية والسياسية للأحزاب الثلاثة الكبرى (الأمة والوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي) لم تتأخر البتّة في تأييد الاتفاقية وفي ضمِّ صوتها إلى صوت الحكومة في هذه المسألة. بالطبع فقد ابتهجت الحكومة بذلك التأييد وأبرزته الصحف السودانية في صفحاتها الأولى كما سنستعرض في هذا المقال.
كان الوفد السوداني بالقاهرة على اتصالٍ بالسيد علي الميرغني والذي كان متواجداً بمصر وقتها. وقد زاره السيد محمد طلعت فريد رئيس الوفد وأطلعه على سير المفاوضات. حال توقيع اتفاقية مياه النيل (مع الاتفاقيتين الأخريتين) أرسل السيد علي الميرغني يوم 8 نوفمبر عام 1959 برقية تهنئة بنجاح المفاوضات إلى السيد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة متمنياً أن يكون الاتفاق فاتحة عهدٍ جديد لخير البلدين. وفي يوم 9 نوفمبر عام 1959، أي بعد يومٍ من توقيع الاتفاقية، وقبل وصول الوفد المفاوض للخرطوم، أصدر السيد علي الميرغني بياناً يبارك فيه الاتفاقية ويصفها بأنها "جميلة الأثر وكثيرة النفع" وأنها جاءت "نتيجة للروح الطيبة التي سادت مفاوضات الوفدين والتوجيه الحكيم الذي بذله رئيسا القطرين" ويتمنى أن تكون الاتفاقية "بداية عهد لتنمية الروابط الأخوية القوية ولتدعيم أسباب الود بين الشعبين."
وفي 10 نوفمبر 1959 تلقّى السيد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة برقيةً من السيد عبد الله خليل رئيس الوزراء السابق والذي كان وقتها يتلقّى العلاج في لندن جاء فيها "أهنئكم قلبياً بنجاح المفاوضات الذي كان الفضل فيه لحسن نيتكم وحكمتكم مما سيعود على البلدين بالخير والرفاهية وأتمنى لكم التوفيق في كل ما فيه مصلحة السودان ورفعته."
وفي يوم 16 نوفمبر 1959 أصدر السيد الإمام الصديق المهدي بياناً يُرحّب فيه بالاتفاقيات التي عُقِدت بين البلدين الشقيقين، جاء فيه أيضاً "وأننا سبق أن أكدنا رغبتنا الدائمة وحرصنا الأكيد على إقامة أطيب وأقوى العلاقات بين البلدين وعلى توثيق عرى التضامن والتعاون بينهما مما حدا بنا لمباركة مبدأ الاتفاق منذ أن بدأ السعي إليه." وتمنّى البيان التوفيق للمسؤولين في البلدين "دائماً لكل ما يحفظ أواصر الأخوة والود، وأن يمكنهم من كل ما يكفل دوام التضامن والتعاون السرمدي."
في يوم 10 نوفمبر عام 1959 قام وفدٌ من اتحاد مزارعي الجزيرة مكوّنٌ من السيد أحمد بابكر الإزيرق رئيس الاتحاد وعضوية السادة أحمد علي الحاج سكرتير الاتحاد ومحمد عبد الله الوالي نائب سكرتير الاتحاد ومحمد عبد الرحمن الشيخ عضو الاتحاد بزيارة السيد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلّحة للتهنئة بالاتفاقية، ونقل الوفد شكر المزارعين للحكومة على اهتمامها الكبير بالمشروع.
5
رحّبت معظم الصحف السودانية بالاتفاق. وقد جاءت افتتاحية صحيفة الرأي العام في يوم 9 نوفمبر عام 1959 بعنوان "يوم خالد مشهود." وقد وصفت الصحيفة يوم الثامن من نوفمبر عام 1959 (يوم توقيع الاتفاقية) بأنه "قد صار من أيام التاريخ المشهودة في جميع البلدان الواقعة على النيل من منبعه حتى مصبّه، فقد وُقّعتْ فيه الاتفاقية التي عالجت أضخم مشكلة كانت تعانيها مصر والسودان والبلاد الأخرى الواقعة على منابع النيل." ورحّبت الافتتاحية بالكسب العظيم الذي تنطوي عليه الاتفاقية للسودان. وقد كان غريباُ أن تدّعي الصحيفة أن اتفاقية مياه النيل الثنائية والتي خصّصت كلّ مياه النيل لمصر والسودان قد عالجت مشكلة دول النيل الأخرى.
6
لم أوفق في العثور علي أية وثيقة من الحزب الشيوعي السوداني صدرت في ذاك الوقت توضّح موقف الحزب من اتفاقية مياه النيل. وقد اتصلتُ بعددٍ من قيادات الحزب في الأعوام الثلاثة الماضية ولكن لم تنجح تلك المساعي في العثور علي ما يوضّح موقف الحزب وقتها. وقد يكون انشغال الحزب في شهري اكتوبر ونوفمبر عام 1959 بمحاكمة عشرة من قيادته (بمن فيهم الأساتذة عبد الخالق محجوب وعبد الرحمن الوسيلة والتجاني الطيب وسمير جرجس) أمام المحاكم السودانية بموجب قانون الجمعيات غير المشروعة قد حال دون مناقشة وإصدار أي بيانٍ عن الاتفاقية. غير أني أترك الردَّ على هذا التساؤل لقيادة الحزب الحالية.
كذلك لم أعثر علي أية وثيقةٍ صدرت في ذلك الوقت عن موقف الحركة الإسلامية من الاتفاقية، وآمل من الاخوة في الحركة توضيح إن كان قد صدرت أية وثيقة وقتها.
7
في يوم الخميس 3 ديسمبر عام 1959، أي بعد حوالي ثلاثة أسابيع من توقيع اتفاقية مياه النيل، عقد اللواء محمد طلعت فريد وزير الاستعلامات والعمل ورئيس الوفد المفاوض مؤتمراً صحفياً شارك فيه الأميرالاي المقبول الأمين الحاج وزير الزراعة والري، والسيدان محمود جادين مدير الري والرشيد سيد أحمد المستشار الفني للوزارة تحدثوا فيه عن اتفاقية مياه النيل لعام 1959.
وقد قدّم السيد وزير الري شرحاً مُطوّلاً لما جرى في المفاوضات السابقة وكيف تمّ التوصل إلى حصّة السودان بموجب الاتفاقية، وأوضح أن ال 18,5 مليار التي حصل عليها السودان بموجب الاتفاقية هي ما كان السودان يرنو إليه. وأشار إلى أنه يجب أن لا يغيب عن البال أنه لولا التخزين المستديم بالسد العالي لما تيسّر لكلٍ من السودان ومصر الحصول على نصيبٍ ثابتٍ في مياه النيل نسبةً للتذبذب في منسوب النيل. أوضح السيد الوزير تفاصيل برنامج التوسّع الزراعي في السودان في فترة الانتقال بين تاريخ توقيع الاتفاقية وحتى قيام السد العالي والكيفية التي سوف تُروى بها المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة من امتداد المناقل، بما في ذلك سلفة مائية من مصر تبلغ 450 مليون متر مكعب وافقت مصر - حسب قوله - على تخزينها في خزان جبل أولياء.
بالنسبة للسلفة المائية من السودان لمصر بموجب اتفاقية عام 1959، أوضح السيد الوزير أنها سوف تنتهي في عام 1977، وأن السودان لن يحتاج لهذه المياه خلال تلك الفترة (1959 – 1977). وذكر أن مصر كانت قد أعطت السودان في الماضي سلفةً مائية. لكن السيد الوزير لم يُوضّح كيف ومتى سوف ترد مصر السلفة المائية للسودان.
شرح السيد الوزير أيضاً كيف تمّ التوصل إلى مبلغ التعويضات وأوضح كيف ولماذا انخفض المبلغ من 36 مليون جنيه إلى 15 مليون جنيه، ووصف هذه التعويضات بأنها عادلة، وذكر أنه ستُكوّن لجنة من الوزارات المختصة لتخطيط وتنفيذ قرار ترحيل وتوطين أهالي حلفا، وإنشاء مشروع حلفا الزراعي بما في ذلك بناء خزان خشم القربة. وأوضح أن السودان سيطلب قرضاً من البنك الدولي لتمويل جزءٍ من تكلفة خزان الروصيرص وقنوات ري امتداد المناقل.
وقد صرّح السيد محمود جادين مدير الري في نفس المؤتمر الصحفي أن نصيب السودان من مياه النيل في مكان الاقتسام وهو أسوان يبلغ 18,5 مليار متر مكعب، ولكنه يبلغ في مكان السحب داخل السودان 21 مليار متر مكعب. وهذا التصريح يناقض بشكلٍ تام فرضية أن نصيب السودان من مياه النيل هو من السد العالي التي كرّرها السيد الوزير في نفس المؤتمر الصحفي. كما يزيد بصورةٍ كبيرة كمية المياه التي فشل السودان في استعمالها من نصيبه منذ عام 1959 كما ناقشنا في المقال السابق.
8
قد يبدو مدهشاً أن يقوم قادة الأحزاب السياسية السودانية بتأييد اتفاقية مياه النيل بتلك السرعة وذاك الوضوح، وقبل أن تقوم المؤسسات الأكاديمية السودانية والخبراء بدراسة الاتفاقية وتحليلها. ويُلاحظ أن برقيات وبيانات التأييد للاتفاقية لم تُشر إلى مشكلة التهجير القسري لأهالي حلفا ولا إلى الصعاب والمتاعب التي سيتعرّضون لها، أو التكلفة المالية لهذا التهجير، ولا إلى نصيب السودان من المياه بموجب الاتفاقية.
ولكن لابدّ من الإشارة هنا إلى أنه حتى ذاك الوقت كانت العلاقة لا تزال طيبةً بين قادة الأحزاب السياسية المحلولة ونظام الفريق ابراهيم عبود. فالسيد عبد الله خليل هو الذي وجّه الفريق إبراهيم عبود بالاستيلاء على السلطة ويبدو أنه كان لا يزال يأمل في التقارب مع الحكومة الجديدة. كما أن السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني كانا قد أيّدا استيلاء القوات المسلحة على السلطة بعد أيام قليلة من وقوع الإنقلاب وأصدر كلٌ منهما بياناً بهذا التأييد.
9
غير أن بعض السياسيين أبدوا عدم رضائهم عن بعض بنود إلاتفاقية. فقد انتقد السيد ميرغني حمزة وزيرالزراعة والري والطاقة الكهربائية السابق كمية المياه التي خُصّصِت للسودان بموجب الاتفاقية، وقال إنها أقل مما كان يتوجّب على السودان قبوله، موضّحاً أنه كان يجب أن تُبنى كمية المياه على نسبة الأراضي الصالحة للري في كلٍ من البلدين. وكما ناقشنا من قبل، فقد كان هذا هو موقف السودان في مفاوضات أبريل عام 1955, ولكنّ السودان لم يتمسّك بذلك الموقف طويلاً. وقد وصف السيد ميرغني حمزة تعويضات أهالي وادي حلفا بأنها غير منصفة ولن تُغطّي إلاّ جزءاً من تكلفة التهجير، وتخوّف من أن اعتماد بعض المزارعين المصريين على السلفة المائية سوف يجعل إنهاءها في عام 1977 واستردادها أمراً صعباً للسودان.
أكّد السيد ميرغني حمزة تأييد السيد اسماعيل الأزهري والسيد عبد الله الفاضل المهدي للاتفاقية، وأشار إلى أن تأييد السيد علي الميرغني والسيد الصديق المهدي والسيد عبد الله خليل والسيد اسماعيل الأزهري للاتفاقية سببه المشاكل التي تمرّ بها الأحزاب السياسية نفسها، وأملها أن تُقنع الفريق عبود بتشكيل حكومة عريضة تشمل كل الأحزاب السياسية. اتهم السيد ميرغني حمزة قادة الأحزاب السياسية بأنهم بهذا التأييد قد أضاعوا سلاحاً قوياً كان يمكن استعماله ضد النظام.
لكن لا بدّ من التوضيح، كما ذكرنا سابقاً، من أن السيد ميرغني حمزة كان قد أيّد، عندما تولّى وزارة الري للمرة الثانية في شهر فبراير عام 1956 في حكومة السيد اسماعيل الأزهري القومية، مبدأ ترحيل أهالي وادي حلفا الذي كان قد وافق عليه السيد خضر حمد في جولة المفاوضات الثالثة في القاهرة في شهر أبريل عام 1955. وقد كان اعتراض السيد ميرغني حمزة على مبلغ التعويض الذي اعتبره قليلاً ولن يغطّي تكلفة إعادة توطين أهالي حلفا. ومما يجدر إضافته أيضاُ أن السيد ميرغني حمزة كان قد تبنّى الاقتراح القاضي ببناء خزان خشم القربة على نهر عطبرة وإقامة مشروع زراعي في تلك المنطقة لتوطين أهالي وادي حلفا الذين سيتمُّ ترحيلهم نتيجة بناء السد العالي وإغراق منطقتهم. لهذه الأسباب لم يتطرق السيد ميرغني حمزة بالنقد لمسألة تهجير أهالي حلفا نفسها.
10
أما أهالي وادي حلفا والقرى المجاورة لها فقد كانوا يتابعون عن كثب، وبخوفٍ وقلقٍ كبيرين، المفاوضات الجارية حول مياه النيل، والحديث والأخبار عن بناء السد العالي وإغراق أراضيهم الزراعية ونخيلهم ومنازلهم وممتلكاتهم وتاريخهم وتراثهم وضرائح أوليائهم وقبور أحبّائهم. وكان معظمهم على علمٍ بموافقة الحكومات المختلفة منذ عام 1955 على مبدأ ترحيلهم القسري نتيجة بناء السد العالي.
رغم هذا فقد أصاب أهالي منطقة حلفا لحظة سماعهم نبأ توقيع اتفاقية مياه النيل يوم الأحد 8 نوفمبر عام 1959 حزنٌ وإحباطٌ وخوفٌ عميق، وأحسّوا أن الكارثة التي كانوا يخشون وقوعها منذ عام 1955 قد بدأت أخيراً في قرع أبوابهم، وبعنفٍ، بعد أربعة أعوامٍ من الترقّب الحذِر، كما سنوضّح في المقالين القادمين (الثاني عشر والثالث عشر).
وسوف يكون المقال الرابع عشر هو الخاتمة لهذه السلسلة من المقالات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.