السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا حليلك (يا فنانتو مسوبتو) الفنان محمد عثمان حسن وردي بقلم حسين الزبير

كان وردي ظاهرة فنية متفردة في تاريخ السودان الحديث، و بينما نحن عشاق فنه ظللنا نمتع انفسنا بالدهشة و الطرب و الفرح الذي يشحنك بمشاعر شتي لا تستطيع وصفها، لكن تحس بها و هي تهز البدن و الروح، بينما نحن نرتوي من بحر فنه، هنالك آخرون هم خاصته ، العالمون بالفن و المدركون لعظمة فن هذا " الفنانتو مسوبتو"، الذين ظلوا في جواره يمتعونه بالرفقة الواعية المثقفة، فتشع الفرحة من عينيه ، و يطربهم بالحانه الخالدة، عرفوا قدره و قدر فنه ، و صاغوا حزنهم عليه ادبا بليغا و مشاعر سامية.
اليوم في الذكري الاولي لرحيله، و قد حقت حكمة اجدادنا "الله جاب يوم شكره"، اردت أن اكتب مقالا يناسب مقامه، و قررت ان اكتب لكم عن ابداعاته النوبية. فقد كان الفنان شاعرأ متفردا بالنوبية، يخال الي انه شبيه بتفرد نزار قباني، لكنني ارفض هذا الخيال و اقول هو "الفنانتو مسوبتو" لا شبيه له و لا نظير. و يخيل الي انني سببت "كاروشة" لغير الناطقين بالنوبية بترديد "فنانتو مسوبتو" بدون شرح. المعني الحرفي لهذه العبارة "الفنان المجنون"، لكني ما يشدني للتعبير انه شطر من شعره، و في سياق القصيدة تعبر عن شخصية الفنان العارف قدر نفسه و المعتز به. فهذه جزء من اغنية عاطفية يخاطب فيها المحبوبة و يقول لها:
يا تري من غيري انا
الذي دللك
و نومك و صحاك
اضحكك و ابكاك
من غير الفنان المجنون
الذي يستطيع ان يلقح قلبك كما تلقح النخيل
و يصيبك بسهم الحب
*******
من ذا الذي يدق قلبه مع قلبي
قلبي ملكك الخاص
من ذا الذي يستطيع ان يصور جمالك بعيونه
و يوصفك من شعر رأسك لاخمص قدميك
لا احد ... فقط هذا الفنان المجنون
و بما اننا في يوم شكره لا بد ان نمجد هذا الفنان الانسان الرائع، و هنا وقف "حمار الشيخ في العقبة"، حيث انني و انا من غير الناطقين بها، لا استطيع ان افي هذا الجانب حقه، فهداني ربي لاسلوب يمكنني من اجادة هذا الجزء من المقال و هو ان انقل لكم فقرات مما كتبه اعلام الادب و الفنون، و التي تمجد الفنان العظيم:
رغم ان هذا النوع من ابناء بلادي، و هم نوع خاص كما القنديلة في السكوت و المحس، الذين ارتادوا محراب وردي و كتبوا عنه، كثيرون ، الا انني ساكتفي بهذا القدر، لكي لا اتهم باني اكتب مقالا بابداع الآخرين!
ابداعات الفنان وردي باللغة النوبية: اغنية صواردن شو نموذجا
في ذكري رحيله الاول اردت ان اعرفكم بشعره بلغة الام، فقد كان ايضا متفردا في شعره بالنوبية، فهو لم يكتب شعرا بالنوبية الا و غناه بالحان رائعة. و رغم ان الشعراء النوبيون كثر، ولو كنتم تفقهون لغتنا لعرفتم ان الشعراء النوبيون فيهم من تستطيع ان تقارنه بالمتنبي و مظفر النواب و نزار قباني. كم اتمني ان يستطيع احد ابناء النوبة ان يترجم الشعر النوبي الي اللغة العربية بصورة تجعلها معبرة تماما عن المعني الذي قصده الشعراء.
لكن كيف نشأ هذا الفنان ، و ما هي العوامل التي جعلته فنانا متفردا، وجعلت منه الموسيقار و الملحن و المغني الذي ترك بصمته في الفن السوداني كظاهرة فنية فريدة؟ لا اعرف ما هو رأي علماء الفنون و لا تفسيرهم لظاهرة الوردي، لكنني اعتقد كعاشق لفن وردي ان اولي العوامل كانت هبة الرحمن، اي الموهبة و الذكاء الحاد، و من بعد ذلك كان الاثر الاكبر في نضوجه كفنان، نشأته في البيئة النوبية. ساحاول ان اثبت لكم صحة اعتقادي هذا، و ذلك بوصف لحياة النوبة و لتراثهم منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتي منتصف الخمسينيات- اي الزمن الذي قدم فيه الفنان للعاصمة حاملا طمبوره و عوده، فنان موهوب صقل موهبته و فيه كل مواصفات الفنان الكامل (Fully-fledged).
منذ ثلاثينيات القرن الماضي و حتي منتصف الخمسينيات ، كانت القري النوبية تتجاور علي ضفاف النيل، و حرفتهم الرئيسية كانت الزراعة بالساقية في رقعة الارض الزراعية حول النيل علي الضفتين و في الجزر "المطروحة" في وسط النيل. و هذه الساقية المستخدمة عند النوبيين من قبل الميلاد دليل علي ان النوبيين هم اول من حاول مكننة الزراعة. و لم تكن الساقية تلك الآلة فقط، بل كانت ثقافة و تراثا كاملا متصلا بكل انشطة المجتمع، اقتصادية، اجتماعية، وفنية. و رغم ان الكلمة "ساقية" تعني حرفيا تلك الآلة التي ترفع المياه من النهر للجدول، الا ان معناها امتدت لتسمي بها قطعة الارض التي تزرعها ساقية واحدة، و لوصف مساحة الارض الكافية لساقية نقول "اسكلي قروي Askalai Gurwai" و هي شبيهة بكلمة فدان او حواشة. كما انك تسمع من يقول لك هذه ساقية "ناس فلان" و المقصود هنا الارض و ليست الآلة. و النوبيون كذلك اول من استخدموا العمل بالوردية، فالساقية تزرع ثلاث ورديات في اليوم: "فجرن تتي"- اي وردية الصباح، "دكرن تتي" اي وردية الظهر، و "دبين او دبنون" و هي وردية الليل. و المحاصيل الاساسية للزراعة كانت القمح و الذرة، و لكن تزرع محاصيل اخري ، غالبا المحاصيل النقدية كالفول و السمسم و البقوليات و هذه الأخيرة نسميها "كلكتي". و بجانب الزراعة كان هنالك المحصول النقدي الأهم الذي تنتجه النخلة.
حتي بداية الخمسينيات كانت الزراعة بالساقية عملا شاقا و تحتاج لقوة جسدية ، كما ان الزراعة كمهنة لها اصولها التي تعلمها الاجيال لبعضها. لكن رغم مشقة كسب العيش ، كانت هذه القري تحيا حياة جماعية فيها الود و الحب و السلام. أذكر مذ كنت طفلا في الرابعة من العمر، ان الاحساس بالامان و الفرح في تلك الفترة لا يمكن تصويره، تري الفرح و تحسه في كل مكان و كل نشاط ، لا يعكر صفوه الا المرض و الموت. يبدأ اليوم في الصباح الباكر مع آذان الفجر ، حيث تفيق الاسرة كلها و تدب الحركة في البيت، و بعد شراب شاي الصباح يخرج الحميع للعمل: الام لنظافة البيت اولا ثم نقل الماء من جدول الساقية للبيت، ثم اعداد الطعام. و الأب برفقة الابناء الي الساقية ، و مساحة الارض التي يزرعها. لكن رغم جدية هذه الاعمال ، كلها مصحوبة بالغناء، فالنساء يتغنين و هن ينقلن الماء، او حين يقمن باعداد الطعام ، و الرجال في الحقول يكسرون رتابة العمل الشاق بالغناء، و الابناء و هم يقومون بالاعمال المختلفة حسب الموسم، يتغنون و يتسابقون. و عند الظهيرة، اي حوالي الثانية او الثالثة ظهرا يعودون جميعا لديارهم لتناول طعام الغداء، ما عدا المزارع الذي عليه وردية الظهر. و في وقت القليلولة يذهب الشباب الي شاطئ النيل و وسط النخيل ، حيث يمارسون برامجهم الخاصة : الالعاب المختلفة، العوم، صيد السمك،المسابقات، و ممارسة الهوايات كعزف الطمبور و الغناء و الصفقة. و هنا تظهر المواهب.
فضلا عن هذا فان أهل هذه القري يصنعون الفرح من كل مناسبة صغيرة او كبيرة، مثلا وصول احد القادمين من مصر مناسبة حيث يستقبل في "المشرع" مكان رسو المركب، بالزغاريد، و غالبا ما تضبح الاسرة و تجتمع القرية كلها في بيت القادم من السفر، الذي يبلغهم اخبار ابنائهم في القاهرة. و اذا اتي بهدايا او مصاريف يسلمها لاهلهم. و اذا كانت المناسبة "طهور" فالفرح بستمر لثلاثة ايام. اما العرس يستمر لاسبوعين في الثلاثينيات و الاربعينيات، و اختصرت المدة لاسبوع في الخمسينيات. كل هذه المناسبات هي الساحات التي يمارس فيها المهوبون ابداعهم و يصقلون مواهبهم. بل اكثر من ذلك فان الشباب يجتمعون كل ليلة فوق تلال الرمل و يكون معهم وردي او حسين لالا او دهب، فيغني الفنان و يصفق الشباب ، و تخرج النساء من البيوت يبحثون عن مصدر الفرح و يتجمعون و تصبح سهرة جميلة ، دون ان تكون هنالك مناسبة. و المدهش ان الاغاني التي تغني في الاماكن المختلفة و الاغراض المتعددة ، تختلق ايضا في اللحن : اغنية الام التي تهدهد طفلها ، تكون بلحن رتيب، و الاغاني التي يغنيها المزارعون و هم يفلحون الارض، او ينصبون الساقية، لها لحن حماسي و باصوات عالية، و اغاني النساء و هن مشغولات بالحرف اليدوية مستخدمين سعف النخيل، لها الحان متميزة و مناسبة لاصوات النساء، و غناء الاعراس الحانها هي تلك الراقصة التي تجعل الشباب يرقصون حتي الساعات الاولي من الصباح .... الخ و لا ادري ان كان هذا سببا في تنوع الحان وردي، حتي ان كل اغنية لها "ميلودي" لا يشابه ما في اي اغنية اخري و العهدة هنا علي الاستاذ السر قدور الذي ذكر هذه المعلومة في برنامجه الشهير.
بقي ان احدثكم عن الدكاي و ما ادراك ما الدكاي. هذا الدكاي شراب يصنع من البلح، و لها قوارير خاصة هي في الاساس جرار من الفخار كالازيار، تعالج معالجة معينة حتي تصبح صالحة لاعداد الدكاي. و هذه الجرار لها احجام مختلفة، فمنها التي تسع قيراطين بلح وهذه الجرة تسمي "كوبي" ، و تعرف باحجامها ، فجرة قيراطين تسمي كمبيج، و الاخريات تسمي بالحجم : اب ستة، اب اربعة، اب تمانية و مازاد عن ذلك تسمي "قمبرة". كل جرة يجب ان تسع البلح و صفيحة ماء مقابل كل قيراط بلح. يغلي الماء جيدا ثم يصب علي هذه الجرة، و يترك ل 6 او 7 اياما ثم يكون جاهزا للشرب. و اقر و اعترف و انا بكامل قواي العقلية ان هذا المشروب مسكر. و رغم ذلك فهو عند اجدادي خمر حلال ، تماما كخمر الجنة. و لم تظهر غلوطية حلال و حرام الا في منتصف الاربيعينيات، عندما عاد للقري خريجو الازهر و حتي المغتربون في مصر. هؤلاء هم الذين ظلوا يوعظون الناس بحرمة هذا الشراب، و لذلك فان جيلي يشربون الدكاي و هم عارفون بحرمته، و هم يسألون الله الهداية و التوبة. و لكن عندما كان فناننا طفلا و صبيا، كان الناس يتجادلون في مسألة الدكاي و الغالبية العظمي من جيل الآباء و الاجداد، ماتوا و هم واثقون ان لاحرمة في شراب مكونه الاساسي من محصول نخلته، و اعدته زوجته كما تعد اي صنف آخر من الطعام و الشراب.
و أمر آخر يجب التعرض له قبل الحديث عن اغنيات الفنان باللغة النوبية، الا و هو جمال الطبيعة في هذه القري. غابة النخيل التي تشقها لتصل الي شاطئ النيل ، منظر جميل و مهيب ، و جلسة السمر وسطها و في ظل مجموعة كثيفة "حاجة ما بتخلص"! و ما اجمل الجزر بكل ما فيها من اشجار "الطرفة" الكثيفة، وحيواناتها و عصافيرها. و يا لجمال المركب الشراعي و هو يشق "البحر" عكس التيار، و يزيد الجمال لو كان وردي معهم يعزف الطمبور و يغني. و لم يكن الفنان يري الجمال في الطبيعة فقط ، بل كانت انشطة الناس في القرية تمثل له جمالا يشبه به الفاتنة او المحبوبة. مثلا يقول الفنان انها تشبه ساحة تجميع محصول القمح (الين قيس)، و لا اعتقد انه يشير بذلك لجمال القمح المكوم كاالجبل قبل تخزينه في جوالات، و لكنه يقصد المناسبة نفسها ، عندما يجتمع الجميع ، فرحين بمحصول الموسم، الزغاريد و التهاني المتبادلة ، و الحمد و الشكر للرزاق الكريم. ليس هذا فحسب بل انه يشبهها احيانا بالعجل، لكنه يقصد نوعا معينا من العجول ، اي تلك التي تكون في مرحلة "البلوغ" اذا جازلي هذا الوصف، فالعجل في هذه المرحلة يتدور جسمه ويتلألأ لون شعره، و يكون له طاقة مهولة يستدعي ان ينقل الحبل الذي يربط به من الرجل الي الوجه و الرأس . يقول الفنان:
لماذا افصل لكم هذا الجانب من حياة الفنان؟؟ اولا لأؤكد ان البيئة النوبية كانت المعهد الفني الذي نهل منه الفنان الغناء و الشعر و تصوير البيئة بنصوص بليغة، و الأمر الأهم لكي اؤكد لكم ان شعر و غناء الفنان وردي باللغة النوبية مرآة للتراث النوبي و سيأتي يوم تكون فيه اغنياته باللغة النوبية مراجع للتراث النوبي، تحفظ في دار الوثائق و المكتبات. و لاشرح هذا المعني اكثر ساتناول معكم اغنية "صواردن شو" و معناها جواب لصواردة. لكن قبل ذلك اريد ان اعطيكم نماذج و هي كوبليهات من اغنيات مختلفة.
اظنكم توافقونني ان خيال الشاعر دقيق كما ريشة الفنان الرسام ، بل ان عيونه كاميرا رقمية تلتقط الصورة بكل تفاصيلها.
و كما ترون مع ان القصد هو "التحسر" علي حبيبة رعاها و احبها فتزوجها غيره، الا ان الكوبليه تصور قصة شتل النخيل، و هذا ما اقصده بان غناءه بالنوبية مرآة للتراث. و يجب ايضا ملاحظة ان الفنان لا يتغني بحالته الخاصة، و لكن في كثير من الاحيان يتكلم عن حب صديق، او قريب.
و من الاشياء التي ادهشتني في وردي ، غناؤه للوطن الكبير السودان و غناؤه للبلد او القرية: بقدر ما كان ينفعل و ينتشي حماسا و حركة علي المسرح عندما يتغني بالاناشيد القومية، كان غناؤه للبلد حنينا و شوقا فقط، و اليكم المثال التالي:
و نأتي الآن لاغنية صواردن شو ، و الذي اعتبره مرجعا في مصاف كتاب وليم آدمز "النوبة رواق افريقيا"، فالأغنية رغم انها قصيدة شوق للبلد، و حنين لايام الصبا، الا انها تحمل كمية مهولة من المصطلحات النوبية الخاصة بالساقية و الزراعة، و اشارات كثيرة للعادات و التقاليد ، و القيم النبيلة و شهامة الرجال الذين كانوا حراسا للقرية، و اوصياء علي التوادد و التراحم و اشاعة المحبة و السلام بين الناس. ليس هذا فحسب بل الاغنية فيها ابداع مدهش سيأتي تفصيله لاحقا.
في عام 2010 قرر المركز النوبي، بمبادرة من الدكتور ياسر عباس محجوب، اقامة حفل تكريم لوردي، ووجدتها مناسبة لسماع صوته و التحدث اليه، فاتصلت به و هو في الصين. و الحقيقة انني كنت اعتقد ان الفنان ألف كلمات هذه الاغنية ليحفظ فيها اكبر قدر من التراث النوبي. فسألته ان كان اعتقادي صحيحا. فقال لي: ابدا لم يكن هناك تدبير او تخطيط لغرض كهذا. قال لي انه اغترب كثيرا لكن الغربة الحقيقة كانت في امريكا، و هناك تفجرت المشاعر و الذكريات شوقا و حنينا للقرية.
تعالوا لنري كيف صمم هذه الاغنية ، و كيف استعاد ذكرياته، و ما هي الطريقة التي عبر بها عن اعزازه لاهله وصفاتهم الانسانية الجميلة. فسم الاغنية الي جزئين: مقدمة يصور فيها مجالس السمر و الفرح ، و التي كانت دائما في مجلس من مجالس الدكاي، وبطريقة الفنان المبدع تناول قضية حرمة الدكاي او عدمه، دون ان يتعدي فيها علي سلطة رجال الدين المؤهلين للفتوي، مستخدما اللحن الشائع في هذه المجالس و يسمي "كلاكيي"، و هذا النوع من الغناء في مجالس الدكاي كانت نوع من المطارحة كما في الدوبيت، يشترك فيها كل الموجودون بالترتيب، حيث يغني من عليه الدور كوبليه ثم يشير في غنائه انتهاء مساهمته " ويناول الميكرفون للذي يليه". أما الجزء الثاني الذي يغنيه بلحن راقص كان مرورا علي كل بيوت القرية للسلام علي الاهل و الجيران، و في تجواله هذا يمدح الناس بصفاتهم النادرة او بذكر صلة القربي و كذلك ذكر التقاليد النوبية في صلة الرحم و حسن الجوار و الحب و الايثار.
لكن دعونا نتأمل هذه الاغنية عن قرب و نمتع انفسنا بدهشة ابداع هذا الفنان العبقري. اعتقد اننا جميعا قرأنا المسرحيات باللغة العربية او الانجليزية، و في كلا الحالتين يبدأ اي فصل في المسرحيه بوصف "للمنظر" حيث يصف لك الروائي اين تحدث الاحداث التي نشاهدها. و كذلك فعل "فنانتو مسوبتو" في هذه الاغنية:
ما اروع ابداعك يا "فنانتو مسوبتو"، سافر بي خياله هناك و صنقر في المجالس التي كان يفرح فيها و ينقل عدوي الفرح لللآخرين بطمبوره و غنائه العذب, و يعطي صورة الشخص الذي يوزع الدكاي و كيفية ادائه لمهمته. و لو اراد ان يزيد لقال لكم ان المجلس به كذا نفر و هم جلوس علي الارض في صورة دائرية.
بعد ذلك يحدث المستمع عن الدكاي، النوع الجيد منه الذي يعد من اجود انواع التمر ويكون جاهزا للشرب، استثناءا، في ثلاث ايام بدلاعن الخمسة او الستة ايام. و بالتأكيد و هو في مجلس الدكاي تذكر ذلك الجدل الذي كان يدور حول حرمة الدكاي كمسكر او رفع الحرمة عنه لانه جزء من الطعام الذي تعده الزوجة. و عندما اراد اثارة هذه القضية في الاغنية ، لم يتخذ رأيا لنفسه، بل سأل السؤال و كأنه موجه لخليل ابن اخته: من الذي يشرب هذا الدكاي؟ و لم ينتظر الاجابة من خليل بل اجاب علي نفسه: و من الذي لايشرب ؟ ثم يعدد الذين يشربون الدكاي ذاكرا موقع كل منهم في مجتمع القرية. و يبدأ اولا بالمزارعين الذين كان يعزهم و يعتز بهم كثيرا ، و يرجع هذا الي الفترة التي عمل فيها معهم مزارعا، و بذلك خبر المشقة و العناء الذي يبذل من اجل اخضرار الأرض و جني الثمار. لذلك كان طول عمره يتحدث عن مزارعي القرية، خصوصا اولئك الذين زرعوا بالساقية، باعزاز و احترام.
كما ترون الفنان يريد ان يقول انهم جميعا يتعاطون هذا المشروب الشعبي، لكن مع ذلك عنده رسالة اخري عن القرية ، الا و هي تمجيد رجال القرية و تثمين جهودهم في استقرار مجتمعهم، و اكتفائه بالضروريات، و تحقيق الامن و الطمأنينة في القرية، و حمد الرزاق الكريم علي نعمه.
ثم يذكر فئة اخري من الناس، لا يشاركون هؤلاء الشباب و الرجال في الانتاج ، وربما يشاركون الا ان لهم دور آخر ليكون المجتمع معافا من الامراض الاجتماعية.
فكما تري لم يترك رجلا من رجال القرية لم يضمنه هنا، كما انه من الواضح انه يريد ان يثني علي جيل تكبد المشاق و خلق الحياة الكريمة، دون من او شكوي، بل و هم يتغنون و يرقصون في كل حين.
هذا هو الجزء الاول من الاغنية التي غناها بلحن "الكلكية"، اما الجزء الثاني و الذي غناه كاغنية طمبور راقصة، فخصصها للتجوال في القرية و السلام علي اهلها بيتا بيتا ، في وصف فني بديع للبيئة و للناس في القرية ، ذاكرا امجادهم و فضائلهم.
الذي اردت ان ابرزه في هذا المقال ان الفنان العظيم محمد وردي، له ابداع آخر غير فنه باللغة العربية، و يعتبر غناؤه باللغة النوبية ثروة فنية، فيه زخيرة لغوية باللغة النوبية، اعتقد ان الذين يفهمونها كلها قليلون. كما ان اغنياته باللغة النوبية مليئة بصور التراث و العادات و التقاليد.
ولذا فانه من المهم ان يجد هذا الجانب من فنه الاهتمام، بتحليله و توثيقه و حفظه بالصورة العلمية في عصر التكنولوجيا.
رب نحمدك و نشكرك ان انعمت علي الشعب السوداني بهذا المبدع المدهش، المحب لشعبه، و الوفي له، و نشهدك ربي و نشهد ملائكتك ، انه ظل ينشر الفرج و السرور بين الناس، و يبشر بالقيم الفاضلة لرفعة الوطن، فاجزه يا حنان يا منان عنا خير الجزاء، و اغفر له و ارحمه و تقبله عندك مع الصديقين و الشهداء و حسن اؤلئك رفيقا.
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.