إسقاط مسيرتين فوق سماء مدينة مروي    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    كهرباء السودان: اكتمال الأعمال الخاصة باستيعاب الطاقة الكهربائية من محطة الطاقة الشمسية بمصنع الشمال للأسمنت    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    أمس حبيت راسك!    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التفاوض مع النظام جريمة فى حق المستضعفيين و دعم للاستبداد و اجهاض للثورة


ورقة
الفاضل عباس محمد علي
أخذ حكم الإخوان المسلمين بالسودان صورة أوليقاركية كاملة الدسم - خانقة وباطشة ودموية ومتشبثة ومنغلقة علي نفسها - ، يقودها حاكم بأمر الله... مطلوب لدي محكمة الجنايات الدولية، فأورثته تلك الصيرورة مزيداً من ركوب الرأس والبارانويا المشوبة بالتبلّد والتخبط والعدوانية، بالإضافة للتمترس والتحصن والنفور والحران الذى لا يشمله وحده....إنما جرّ له البلاد بأكملها...وهي ما فتئت تدفع الثمن في شكل مقاطعة دولية واستثمار أجنبي متردد ومتعثر، بل متوقف، وكل ما يترتب من جراء ذلك العوار علي معيشة أهل السودان وعلي اقتصاد بلادهم واستقرارها،... مع كثير من التشنج ودق طبول الحرب والمواقف الاستفزازية تجاه الخصوم السياسيين...الفعليين والمتوهمين...بالداخل والخارج، لا سيما دولة الجوار الأولي: جنوب السودان.
ومثال لذلك...المواقف المتذبذبة (كاليويو) من حكومة جنوب السودان؛ فما كاد الحبر يجف علي اتفاقيات السلام والتعاون الأمني والاقتصادي والتجاري التي أبرمت مع الجنوب في أديس أبابا...حتى انقلب عليها رئيس نظام الإخوان بالخرطوم، ونقض غزله أنكاسا، وأشعل نيران الفتنة مجدداً، واستخدم المفردات العدائية السوقية فى مخاطبته للجنوبيين من فوق منابر المؤتمر الوطني...أمام الغوغاء مغسولة الأدمغة...مثل أولئك الذين كانوا يصطفون أمام زعيم النازي الألماني ويهتفون: "هايل هتلر!" علي أيام الحرب الكونية الثانية.
ولقد أجمع الساسة والمراقبون علي أن هذا النظام قد استهلك نفسه...فقد تسبب في إفلاس البلاد تماماً: جفف مصدر النفط القادم من الجنوب لما نجح فى فصل ذلك الجزء العزيز من الوطن لأسباب إيديولوجية...(إبعاد كل من ليس مسلماً أو عربياً قحاً من الإمارة الإسلامية التى جاء الإخوان لإقامتها فى الجزء الشمالي من السودان)...، وكان قد دمر مشروع الجزيرة..المصدر الأوحد للعملة الصعبة منذ 1925 حتي مجئ الإخوان للسلطة في 30 يونيو 1989،... كما قضى علي السكة حديد ومصلحة النقل النهري، بأساطيلها وفنادقها، والخطوط الجوية السودانية، والزراعة الآلية بالقضارف وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، كما دمر التعليم، وقضى علي المستشفيات الحكومية التى ظلت تقدم خدماتها المجانية لأبناء السودان منذ بداية القرن العشرين........، وليس أمامه إلا أن ينصرف، بالعنف أو بالتي هي أحسن.
وأخذت جميع الأطراف المعنية تعدّ العدة، من تصور لنوعية وهياكل الحكم فى الفترة الانتقالية، ولدستورها وتسلسلها ومآلاتها المتوقعة...ويبدو أن القوي السياسية قد أجمعت علي أنه لا سبيل أمام السودان سوي النظام المدني الديمقراطي الفدرالي العلماني، علي أنقاض الحكم البائس الحالي...سواء فى المرحلة الانتقالية أو فيما يليها من حقب، علي أرضية الحرية والشفافية والرسوخ الكامل لحقوق الإنسان.
ولكن، ما هو الضمان بأن سدنة النظام الدكتاتوري الراهن من التعقل والوطنية بحيث يستقطبون أولي الألباب لكلمة سواء....وبأنهم سيترجلون عن طيب خاطر؟...هل هم من طينة الجنرال إبراهيم عبود أو الفريق عبد الرحمن سوار الدهب اللذين تلمسا نبض الشارع فى أكتوبر 1964 ...وفي إبريل 1985...وانحازا لرغبة الشعب؟..... كلا وألف كلا... فلقد استمعنا فى اليومين الماضيين لكل من نائب ومساعد رئيس الجمهورية وهما يتوعدان المعارضة بالثبور وعظائم الأمور، ويتحدثان عن خصومهم باعتبارهم قد باعوا أنفسهم للشيطان، وبدا واضحاً أن تنازلهم عن السلطة...دونه خرط القتاد.
ويدل موقف رئيسهم العدائي تجاه الجنوب ... وإصداره للأمر بقفل أنابيب النفط "فوراً"...علي أنه ما زال متعنتاً وطامعاً فى البقاء بالسلطة، مهما حدث للإقتصاد من خراب، ومهما سارت الأمور نحو المزيد من التصعيد مع الجنوب، باتجاه العدائيات التي علمناها وذقناها..وما هو عنها بالحديث المرجّم؛ ومع غيره من المناطق التى يلعلع فيها السلاح: جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور.
والحالة هذه، ومن وسط الضبابية الراهنة، نستطيع أن نتبين ذؤابات السيناريوهات القليلة التى تلوح فى الأفق:
· أولاً، سيحاول النظام أن يشتري بعض الوقت بنوع من التهدئة مع الجنوب، فقد بدأ الانسحاب من تصريحات الرئيس النارية حول إيقاف ضخ النفط الجنوبي عبر الأنابيب الشمالية...بعد 24 ساعة فقط من إطلاقها...إذ فسر مدير الأمن ووزير الإعلام تلك الأوامر "الفورية" بأنها تعني ستين يوماً...وقد تستجيب حكومة الجنوب لهذا الموقف "المتسامح" بشيء من الضغط علي قوات الحركة الشعبية قطاع الشمال، كأن تطلب منها هدنةً رمزية مؤقتة....وفى هذه الأثناء، يتفرغ الجيش الشمالي للتعامل مع باقي فصائل الحركة الثورية، كالعدل والمساواة وحركة التحرير، خاصة وأن تشاد متعاونة ومتآمرة ضد الحركات الدارفورية، ربما بضغط من الفرنسيين الذين يأتمرون بأوامر الأمريكان...وينفذونها بحذافيرها...(ولا ننسي أنهم متهمون بالضلوع فى اغتيال الشهيد الدكتور خليل إبراهيم)...والإدارة الأمريكية، فيما تشير كل الدلائل، لديها صفقة ما مع تنظيمات وأنظمة الإخوان الحاكمة بهذه المنطقة من إفريقيا، ولديها أجندة لا يعلمها إلا الحق عز وجل. وكذلك، يستطيع النظام أن يتنفس الصعداء الإقتصادية بالمليارات التى تضخها الحكومة القطرية فى خزائنه كلما تقطعت به السبل، ربما لأن الأخيرة من البراءة والأريحية بمكان، وتسعي لإثبات وجودها بما يفوق حجمها،....أو لأنها جزء من المخطط الأمريكي الداعم للإخوان...باعتبارهم الأحزاب المنظمة الوحيدة بهذه البلدان، ولأنهم عملاء قديمون للسي آي إي منذ الحرب الباردة...ولأنهم واقع لا مفر منه، وقوة لا يستهان بها...ولا شك فى أنهم يجلسون علي حافة السلطة بالعديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهذا ما يسمي بالسيناريو الأمني، إذ أن حكومة الإخوان ستناور وتلف وتدور للاستمرار فى السلطة بالتضييق علي خصومها وتشتيتهم وخنقهم وسحقهم عسكرياً...حتى لو يعني ذلك تفتيت البلاد واستمرار الفوضي بعمقها وأطرافها علي الطريقة الصومالية.
· وينطلق السيناريو الثاني من رؤية أحزاب المعارضة – قوي الإجماع الوطني والحركات الحاملة للسلاح - ؛ فهي تري أن النظام قد تآكل لآخر لبنة فيه، وأن التخلص منه سيستغرق أقل من مائة يوم، وأن العد التنازلي قد بدأ بالفعل،... وهي جاهزة بتشكيلاتها الإنتقالية ودستورها وألياتها...وخير لمستقبل السودان أن يتم التخلص من هذا النظام عن طريق الحراك السلمي بشوارع المدن، إذ أن في ذلك صقل لقدرات الجماهير النضالية، ودروس مستقاة، وتمرين واختبار وفرز للكادر...بحيث يتم التعرف علي الأطقم التى ستأتي للسلطة الجديدة من خلال الاستبسال والصمود أمام القنابل المسيلة للدموع، ومن خلال المشاركة الفعالة والشجاعة فى الأنشطة التى تستهدف القضاء علي نظام الإخوان. وفى حقيقة الأمر، فإن هذا النظام عندما يتهاوي سيذهب معه طاقمه الحاكم بقضه وقضيضه، لأن الإخوان عندما قفزوا للسلطة قبل نيف وعشرين سنة...أفرغوا جهاز الدولة والمؤسسات المصاحبة من كل من لا ينتمي لتنظيمهم...ولذا، فإن ذهاب النظام قد يعني أوتوماتيكياً تسريح الجيوش الجرارة من اللصوص والسماسرة والفاسدين الذين يزحمون جهاز الدولة الحالي...والمؤسسات الأخري كالمصارف والشركات الحكومية وشبه الحكومية والنقابات وجمعيات النفع العام وغيرها. وتري المعارضة أن هنالك تجارب عديدة في تاريخ البشرية تؤكد مقدرة الجماهير علي إقامة التحالفات الوقتية اللازمة لمواجهة السلطة القمعية، (كلجان التسيير والسوفيتات)، مع الاستفادة من دروس الانتكاسات والسرقات التي حدثت للثورات...بحيث يتم تأطير تلك التحالفات النضالية الأدهوكية بما يضمن ديمومتها وخلوها من العناصر الرخوة والمتآمرة...ومن أصحاب الأجندات الخفية.
· وثمة سيناريو ثالث... (السائحون: عود الفأس في الغابة)... يتمحور حول جماعة (السائحين) باعتبارها قوة عسكرية مدججة بالسلاح، ومدربة على حرب المدن، ولديها صلات عضوية متشعبة مع أجهزة الأمن والقوات النظامية الأخري بما يربطهم من وشائج تنظيمية وتوجه إيديولوجي ومصلحي مشترك....بدليل أنهم كانوا قد اتهموا قبل بضعة شهور بالتخطيط لانقلاب عسكري، وتم اعتقال حلقاتهم الأساسية كلها، ولكن سرعان ما أطلق سراحهم وأعيد لهم اعتبارهم وأوضاعهم المهنية ومخصصاتهم، كأن شيئاً لم يكن...مما يشير إلي أنهم قوة ذات شوكة...تحدت وأربكت النظام، بكل جيوشه وبنياته الأمنية،...وإلي أنهم علي حلف وثيق ببعض أركان النظام نفسه......وفى نفس الوقت، رشح فى الأيام الأخيرة كثير من التبرم والنقد لممارسات النظام من تلك القوي الباطنية المتحالفة مع جماعة (السائحين)...... بيد أن هذا السيناريو لا يخلو من كونه مجرد (انقلاب قصر)، أو حركة إصلاح من الداخل، علي طريقة "خرج زيد ودخل عمرو"، بمعني أن الحية القابضة علي السلطة تريد أن تغير جلدها فقط، بما يمنح نظام الإخوان المسلمين حياة جديدة. وذلك يعني التخلي عن...والتحايل علي استراتيجية الثورة السودانية وغايتها النهائية: بلدٌ حرٌ ديمقراطيٌ فدراليٌ...يتم فيه الفصل بين الدين والسياسة،... فالدين للإله والوطن للجميع،... وذلك هو الطريق الوحيد لعودة الجنوب، وللمحافظة علي الأقاليم الإفريقية المحضة المتبقية: دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
· وهنالك سيناريو رابع يتحدث عنه العسكريون المخضرمون همساً...يزعم بأن الجيش السوداني لم يندثر تماماً، و لا زالت به روح تفرفر ونفس يطلع وينزل...ونشابا سيظهرون من الغيب فى اللحظة المناسبة، كما فعلوا عدة مرات فى تاريخ السودان الحديث، خاصة فى أكتوبر 1964 وأبريل 1985. وما يجعل العناصر الوطنية بالجيش موطأة الأكناف ومستمسكة بالتقية والصمت الرهيب إزاء ما يحدث للجيش وللوطن هو خوفها من الإنكشاف...الذى لا محالة سيقود لتنظيف هذا الجهاز الحساس من آخر كوادر ذات وعي سياسي ونخوة وطنية صمدت بداخله.
· وآخر سيناريو يتناوله بعض الحالمين علي الصفحات الإسفيرية بين الفينة والأخري...هو أن يتم حل هذه المشكلة بواسطة العنصر الأساسي فيها....وهو الرئيس نفسه؛ ولقد كنت شخصياً مثل هؤلاء الرومانسيين عام 2010، بعد الانتخابات الرئاسية مباشرة،...ولكني تحاورت مع صديقين يعملان بجامعة الخرطوم...أحدهما بالهاتف، والآخر قابلته خارج السودان...مستفسراً عن احتمال شفاء البشير من لوثة التشبث والقرانديوزيتي بعد فوزه فى الانتخابات، وبعد السنين الطويلة التى تمرغ فيها بنعيم السلطة، (وهو لا جنا لا تنا)... فى هذه الأجواء التى تهدد السودان بالتشظي....ألا يستطيع، مثلاًُ، أن ينقلب علي الإخوان كما فعل جمال عبد الناصر (الذى كان فى تنظيمهم قبيل وبعيد ثورة يوليو، بإسم حركي هو "زغلول")؟؟....فقال لي صديقاي اللذان يعرفان البشير in and out أنه رأس الحية شخصياً، وهو الأشد تطرفاً والأكثر ميلاً للبطش بالخصوم والتنكيل بهم وتصفيتهم...و لا تطرف له عين وهو يفتك بأقرب الناس أليه...دماً أو رفقة سلاح...وأنه، بالإضافة لذلك، مستكين لقبضة "الأسرة الحاكمة" والرهط الأقربين وبعض المتنفذين المقيمين بالقصر الجمهوري... الذين أصبحوا من أغني أغنياء السودان....بعد حرمان لأجيال طويلة خلت. ولقد أكد لي هذا التحليل أن الرئيس الذى تم فى عهده انفصال الجنوب ...لم يحرك هذا الحدث فيه ساكناً...فلم يعتذر أو يستقيل أو يحاول أن يبرر ما حدث أو يسعى للملمة ما تبقي من السودان...وبدا كأنه غير معني بما جري...بل ذهب للجنوب مشاركاً فى احتفالاته بالإنفصال وقال لهم إنه لبى رغبتهم وقدم لهم ما عجزت كل الحكومات السابقة عن تقديمه...(أي أنه أراد أن يحول انتكاسة وخسارة هائلة كهذه إلي نصر وكسب سياسي)...وهو لا يدري أن كل الوطنيين السودانيين كانوا يتقلبون على أسرتهم في تلك الأيام لأن النوم غادر مهجهم...و لا زال يفعل حتى الآن. وبالتالي، فليس هنالك أي أمل في حل يأتي عن طريق رجل ذهب ثلثا عقله من فرط السكر بالسلطة...هذا البرئ من أي حمية وطنية أو وعي سياسي أو مرونة أو رؤية برجماتية أو قلب حنون كبير يضم فى حناياه جميع مكونات الوطن وتناقضاته وإثنياته وثقافاته المتباينة...التى كانت متعايشة إلي حدود كبيرة، إذا استثنينا حرب الجنوب التى كان سقفها الحكم الذاتي فى إطار سودان فدرالي موحد يتم فيه التقسيم العادل للثروة والسلطة،... إلي أن جاءتها الطامة الهكسوسية الكبري المسماة بالإخوان المسلمين ...المتأبطين للشر الأعظم...المتمثل في كوادرهم العسكرية.
فى نهاية التحليل، تقف بلاد السودان علي شفا هوة سحيقة: إما أن تهوي إلي قاعها...شأنها شأن الصومال وزائير وأفريقيا الوسطي وغيرها من بؤر التوتر المزمن...أو يقيّض الله لها حلاً فى الأيام القليلة القادمة....وفي كل الأحوال، فإن النظام الراهن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، بانتظار طلقة الرحمة coup de grace ، و لا يقف دون ذلك إلا السؤال الذي يؤرق الوطنيين السودانيين: كيف حال الأحزاب البديلة، خاصة ما يسمي بالأحزاب الشعبية الكبيرة؟ أتراها ملاذاً يؤبه له؟ وهل هنالك ديمقراطية بلا أحزاب؟؟؟
لقد أصابت هذه الأحزاب منتسبيها والمتعاطفين معها بإحباط عميق، فهي فى حالة تمزق وضعف وتردد وغياب تام للهيبة والكاريزما، وقد نجح الحزب الحاكم فى تدجينها إلي حدود كبيرة، حتي تماهت معه، وهي أصلاً تلتقي مع الإخوان المسلمين (تحت تحت) فى الرؤية الإستراتيجية الخاصة بتطبيق الشريعة وخلق جمهورية إسلامية (فى حالة الشريحة الطائفية بالحزب الإتحادي)، أو مهدية جديدة (في حالة حزب الأمة).....ومن هذا المنطلق، يري بعض الناس أن تمرّغ هذين الحزبين فى أوساخ النظام ومشاركتهم فى فساده أمر فى مصلحة الثورة السودانية...وعندما يتهاوي النظام الراهن، ستتبخر معه الاتجاهات الرجعية بهذين الحزبين....ولكن ذلك ضرب من النوايا الطيبة والأحلام الوردية...فهذه الأحزاب موجودة بالساحة، شأنها شأن الوفد المصري أو كافة أحزاب الوسط التى يتلبسها البيات الشتوي أثناء وجود الأنظمة الأتوقراطية، وعندما تعود الديمقراطية تعود لها الحياة،... فهي المرجعية لجماهير الريف التى يحركها الولاء الطائفي...وما لم تكن هناك فترة انتقالية مريحة وكافية، لثلاث سنوات علي الأقل، فإن هذه الأحزاب ربما تقفز للسلطة مجدداً كما فعلت بعد ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل، وربما تأتي بنفس عقلية البوربون الذين لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئا....إذ أنهم بعد ثورة أكتوبر وضعوا أيديهم فى يد الإخوان المسلمين وحلوا الحزب الشيوعي وطردوا نوابه من البرلمان، واتفقوا مع جماعة حسن الترابي بلجنة الدستور عام 1968 علي ما يسمي بالدستور الإسلامي...الذى رفضه الجنوبيون وانسحبوا بسببه من تلك اللجنة المشؤومة...إذ أن مثل ذلك الدستور من شأنه أن يحيلهم إلي مواطنين من الدرجة الثانية، أي أهل ذمة...يدفعون الجزية وهم صاغرون، وليس لهم حق الترشيح لرئاسة الجمهورية أو القضاء أو إتحاد الكرة...إلخ.
فمن المهم جداً، طالما أن الكيانات التقليدية هذه حقيقة لا مفر منها، أن يحرص الثوريون السودانيون، ليس علي كنس الأحزاب الشعبية الكبري من الوجود، إنما لمساعدتها فى إعادة صياغة نفسها أثناء الفترة الانتقالية...عن طريق الوعي والتعليم، فى أجواء القرية الكونية والدروس المستفادة من الربيع العربي...مع روح الأجيال الشابة الجديدة المتشربة بمعطيات الربيع العربي والتحولات الديمقراطية التى تمت فى أمريكا الجنوبية وفى بلدان المعسكر الإشتراكي،..... ومن حسن الطالع أن الإخوان المسلمين فى مصر خسروا الجولة تماماً...وربما يتلقون الضربة القاضية من الشعب المصري فى الثلاثين من الشهر الجاري بإذن الواحد القهار.......المهم أن مشروعهم (الإسلام هو الحل) لم يكتب له النجاح...وسوف يؤثر ذلك إيجابياً علي حركة الوعي السياسي داخل السودان...وسوف تتم عملية تحول metamorphosis للأحزاب الطائفية بالذات نحو الشق المدني العلماني فى باطنها...ذلك الشق المعني أكثر بمصالح الشعب وأحلامه فى التقدم الإقتصادي والتحول الاجتماعي...وهو المحتوي الجوهري المطلوب لعملية تغيير النظام...وليس الجفول عن شعارات سياسية رسبت فى الاختبار بعد ربع قرن فى السلطة...للوقوع فى براثن شعارات مماثلة وهلامية أخري، بعيدة عن واقع وتطلعات الجماهير. وبهذه الرؤية، أي بمنظور التغيير الإقتصادي والاجتماعي الذى ستجلبه الانتفاضة، تصبح مثل هذه الحركة شأناً جماهيريا يهم الشعب كله، وتهفو له قلوب السودانيين، فيسعون نحوه بالظلف والناب..ليضعوا حداً للنظام الدكتاتوري الراهن...ويمضوا نحو السودان الحر الديمقراطي الفدرالي الذى يضم بين جناحيه كل مكونات الوطن... بغض النظر عن تبايناتها العرقية والدينية والثقافية والسياسية. ألا هل بلغت....اللهم فاشهد! والسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.