شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالفيديو.. وسط حضور مكثف من الجيش.. شيخ الأمين يفتتح مركز طبي لعلاج المواطنين "مجاناً" بمسيده العامر بأم درمان    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوزيرالسوداني: تجربة البؤس وبؤس التجربة


أحمد إبراهيم أبوشوك
يرمز مصطلح الوزير السوداني إلى نماذج من الساسة السودانيين الذين اعتلوا وظائف تنفيذية (أو الدستورية) في الدولة، نقلتهم من هامش أدبيات المعارضة الطامحة في الشفافية والطهر والتغيير السياس ي إلى دائرة تبريرات السلطة وشارات الحكم المتناقضة مع ذاتها ومطالب الرأي العام، ثم إلى فضاء كراس ي المعاش الوثيرة، وكتابة الذكريات والمذكرات القادحة في تجربة البؤس وبؤس التجربة. إذ ًا السؤال الملح الذي يطرح نفسه: هل هذه المنظومة الثلاثة (المعارضةُّ، السلطة، المعاش) بتناقضاتها المتنوعة ومواقفها النمطية المتعارضة تشكل حالات فردية في السودان؟ أم إنها ظاهرة عامة تعكس نموذج الوزير السوداني غير الموفق عبر الحقب التاُّريخية التي أعقبت الاستقلال؟ وإذا كانت حالات فردية، كيف يمكن تجاوزها لوضع الدولة السودانية في مسارها الصحيح؟ وإذا كانت ظاهرة مسؤولة عن تدهور أداء الدولة السودانية منذ فجر الاستقلال وإلى هذا اليوم، فما البواعث التي أسهمت في تشكيلها؟ وكيف يمكن استئصالها من مؤسسات الدولة وروافدها؟
السيردوغلاس نيوبولد
يحضرني في مقدمة هذه المقالة الخطاب النموذجي الذي ألقاه السير دوغلاس نيوبولد، مدير مديرية كردفان آنذاك (2391-239ً1م)، في حفل الشاي الذي أقيم لوداعه بنادي الأفندية بالأبيض عام 2391م، قائلا في بعض مقاطعه:
1
أين تكمن روح (هوَّية) السودان؟ لا يمكن أن توجد في مكان واحد، أو مؤسسة واحدة، أو مديرية واحدة، أو كلية غردون، أو مخيمات العرب، أو في جبال النوبة، أو في سوق أمدرمان. أنها توجد في جميع هذه الأماكن. وإنها منتشرة مثل الغبار، وبألوان مختلفة. ليس لفرد واحد، ولا لحزب واحد، ولا لقبيلة واحدة، أن تدعي احتكارها. كل من يحب السودان بوسعه
أن يشارك فيها. كلنا نتحدث عن التعليم منذ صدور تقرير دي لاوور. هل كلكم تعنون ما تعنون بالتعليم؟
إ َّن التعليم مثل كل ش ئ ج َّبار، يملك احتمالات الخير والشر. فالتعليم يجلب الحكمة،
والصبر، والاحترام، والثقافة، والتعرف على الناس والعلوم، ولكنه أحيانًاَّ يجلب الكبر، والتعصب، والغرور، والتبرم، والطموح الأناني... ولكن يجب علينا أن نتأكد أن التعليم يجب أن يبنى على الأخلاق، وعلى تقديم الخدمات، وليس لمجرد كسب المال، أو النفوذ... أرجو أن أقدم لكم بصراحة بعض النصائح، لا تحتقروا مواطنيكم الأميين ... وعندما تنتقدوا الحكومة، يجب أن يكون نقدكم بناء، وغير مشخصن، وليس هدام ًا، أو خبيث ًا. تذكروا أن الديمقراطية تبنى على التعاون، بغض النظر عن السن، أو الجنس، أو الطبقة، أو الشطارة... عليكم الوفاء بديونكم؛ لأن الشخص المدين مكبل بالقيود، وإذا فشلتم في إدارة أموالكم بنجاح، فمن سيأمنكم على إدارة أموال الخرين." (نيوبولد، كيف أعد السودان الحديث،
ج271-263 ،2).
الناظرفي هذا النص البديع بعين اليقظة والتدبر، يدرك أن الوزًيرالسوداني وصانع القرار السياس ي، لا يتعلم من السلف، ولا يقرأ تاريخ بلاده بتمعن، بعيدا عن الكبر، والتعصب، والغرور، والطموح الأناني الزائف.. يتحدث الوزير السوداني عن شعارات تأملية، دون أن يدرك
ًً
مقاصدها، أو يطرح استفسارا مهنيا عن كيفية تطبيقها على محيط الواقع، وهنا تبرز قضايا كثر
لا يسمح المجال بذكرها، وأهمها قضية الهوية، التي أشار إليها نيوبولد، قبل أن يولد تيار الغابة والصحراء، وقبل أن تدرك بعضً النخب أن صراع الهوية الأجوف هو الذي أفض ى إلى انشطار السودان إلى شمال وجنوب، فضلا عن تشظي أطرافه بفعل الوزير السياس ي الذي يحتقر مواطنيه
ً
الأميين، احتقارا يحجبهم، ويحجب مطالبهم المشروعة عن دائرة الضوء، ولذلك ًيشعرون بغبن
الهامش، ثم ينقلون من دائرة المطالب المشروعة إلى دائر الصراع المسلح. واستجابة إلى ذلك تنشأ معارضات النخب المترفة التي لا ترقى بنقدها إلى البناء والتعمير، بل توصف بقصر نظرها، وسعيها وراء المناصب، أو استمرائها لخدمات الفنادق ذات الخمس نجوم، والمكافآت التي تدفع يومي ًا من خزائن الجهات المضيفة ومكارمها، ولذلك يسهل عليها الارتماء في أحضان الخر؛ الذي ربما يكون حزبًا حاكمًا يعيد تنميطها واستنساخها في إطارمنظومة النظام الحاكم نفسها، وبذلك يتحول المعارض إلى وزيرسوداني، يس ِّبح بحمد السلطة ويقدس لها. والخر، الذي يسقط المعارض في أحضانه، ربما يكون دولة صاحبة مصلحة استراتيجية في السودان وموارده الطبيعية، لذلك تدعم المعارضة لتحقيق مطالبها المشروع وغير المشروعة، دون أن يسأل اًلمعارضون أنفسهم عن كيفية تسديد فاتورة دين الخر باهظة الثمن، التي لا تعطى إعتباطا، بل لتحقيق أجندة استراتيجية في أراض ي الوطن الجريح. وهنا يصدق قول الصحافيةالمصرية أماني الطويل: بأن دولة إسرائيل طبقت مبدأ شد الأطراف ببراعة في فصل جنوب السودان، متعللة بأن الفصل
2
يسهم أو ال في إضعاف دولة السودان الشمًالي التي تصنف في خانة الدول المعادية لإسرائيل، ويمهد ثان ايا الطريق لدولة إسرائيل لتجد حظا في مياه النيل، أو بترول جنوب السودان. أما مبدأ الإحاطة والعزلة، فقد مارسته دولة إسرائيل بجدارة في مشكلة دارفور، عبر ثلاثة مسارات. أو ال
سعت إلى تصنيف الصراع في دارفور بأنه "حرب إبادة جماعية"؛ وثان ايا ر َّوجت لهذا التصنيف عبر منظمات المجتمع المدني وجماعات الضغط َّالأمريكية؛ وثال اثا دعمت بصورة مباشرة الحركات المسلحة في دارفور. ولكن الجدير بالذكر أن الباحث محمود محارب لا يعزي تدخل الدولة الإسرائيلية في الشأن السوداني إلى سياسُّة المؤامرة التي يسوق لها الُّوزيرالسوداني لتضليل الرأي العام، بل إلى "فشل النخب الوطنية السودانية في إدارة التنوع السوداني، الأمر الذي ساهم في تعطيل بناء مؤسسة الدولة الوطنية في السودان، وانهيار مبدأ المواطنة المتساوية لصالح الانتماءات الأولية، وهي الانتماءات التي وظفت في إطار الصراع على السلطة في السودان بين جناحي الحركة القومية الإسلامية السودانية، التي قسمت الحركة من ناحية، ور َّوجت للمفاهيم والسياسات الإقصائية السودانية المحلية على أسس عرقية ودينية من ناحية أخرى." (انفصال
جنوب السودان، المخاطروالفرص، ص: 122). ويرتبط أيض ًا إخفاق الوزير السوداني بضيق ذات اليد، وانحسار منسوب العفة وغناء
النفس الناتج عن ضعف التربية الوطنية، والقيم المعيارية الضابطة لشغل الوظيفة العامة ومحاسبة أداء شاغليها، ولذلك يضحى الوزير السوداني مرهونًا لمال الخزينة العامة وعطايا السلطة والسلطان، التي تصنف ضمن ضروب الفساد السياس ي والمالي التي يتحدث عن القاص ي والداني، وينكرها الوزير السوداني، دافن ًا رأسه في الرمال، دون أن يسأل نفسه سؤا ًلا بسيط ًا، مربوطًا بمقارنة وضعه خارج منظومة السلطة، ووضعه بعد أن تمرق في آسانها، ولاشك أن الوضعين معلومين للناس أجمعين؛ علم ًا بأن السودان لا توجد فيه فواصل طبقية مغلقة، بل نلحظ أن الخفير عالم ببواطن أمور الوزير؛ لأن قنوات التواصل مفتوحة بين الحاكم والمحكوم في نسقها الاجتماعي. والشاهد في ذلك أن هناك جملة من الذين ذاقوا عسيلة الوزارة، ولكنهم في
لحظة تعارض مصالحهم الذاتية شقوا عصا الطاعة على السلطة والسلطان (صراع القصر والمنشية نموذج ًا)، وبذلك فقدوا مناصبهم الوزارية، وح ِّصروا اقتصادي ًا، فكان مصير رهط منهم العودة المهينة إلى حظيرة السلطة، وتبريرهم المبتذل لمواقفهم السابقة واللاحقة، بل أضحوا أكثر دفاع ًا عن سياسات الحزب الحاكم التي رفضوها وانتقدوها بالأمس، وذهب نفر منهم أبعد من ذلك، حيث أصبحوا ناطقين رسميين باسم الدولة في كثير من المحافل الداخلية والخارجية، دون إدراك منهم بأن التاريخ لا يرحم، ولا ينس ى، لكنه يدون مواقف الرجال في سجله المكتوب. ومثل
3
هذه النماذج من الوزراء السودانيين أطلق عليهم أستاذنا الطيب زين العابدين، وكذلك الصحافي صديق محيس ي، مصطلح الوزراء "الانتهازيون".
وَّثق نفر من الذين شغلوا منصب الوزير السوداني، طرف ًا من تجارب البؤس وبؤس التجارب التي خاضوها، ونذكر من هؤلاء الأستاذ محمد أحمد محجوب (الديمقراطية في الميان)، والأستاذ خضر حمد (مذكراتي)، والدكتور منصور خالد (النخبة السودانية وإدمان الفشل)، والدكتور حسن عابدين (حياة في السياسة والدبلوماسية السودانية). وفي هذا المقام أود أن استأنس بما كتبه الدكتور حسن عابدين بشأن التجربة التي خاضها مع حكومة مايو (2312-2363م)، وحكومة الإنقاذ (2313-الن) من واقع نشاطه السياس ي بجامعة الخرطوم، ثم تأييده لانقلاب 12 مايو 2363م بنا ًء على "الأوضاع السياسية السائدة بعد ثورة أكتوبر 2361م، وما عاشته البلاد
من فوض ى، وتخبط في المجال السياس ي والاقتصادي، نسبة لفشل الأحزاب السياسية في توفير القيادة، والجو السياس ي الإيجابي؛ لتطوير البلاد اقتصادي ًا، واجتماعي ًا، وانصراف السياسيين إلى المسائل الشخصية، والمناورات، والمحسوبية، والفساد"، وانطلاق ًا من تقديره الباكر بأن "الوضع السياس ي الجديد، ... وضع ًا وطني ًا سليم ًا، يضم كفاءات مخلصة، وعناصر وطنية أمينة، وحريصة على تطوير البلاد ... بعيد ًا عن الحزبية الفاشلة." (ص 16). هذا التصور الحالم استند إليه الدكتور حسن عابدين عندما كان طالب دراسات عليا بالولايات المتحدة الأمريكية مع رهط من زملاء الدراسة والأصححاب في المهجر؛ ولكنه عندما عاد إلى السودان وجد واقع الحال يختلف عن تصور المهجر، فاستدرك موقفه الذي وصفه بقوله: "تحولنا من أنصار ومريدين لثورة مايو
البيضاء عند فجرها الباكر إلى معارضين لمايو الحمراء في ضحاها القصير، ولم تبلغ من العمر عامين." (ص: 31). وبعد تلك المعارضة العابرة التي لم تتبلور في شكل تنظيم سياس ي، أو الانضمام إلى قطاع معارض "للثورة" الوليدة، دخل الدكتور حسن عابدين حكومة مايو من بوابه الاتحاد الاشتراكي عام 2371م، حيث عرض عليه "الأستاذ بدين الدين سليمان، الأمين المساعد للاتحاد الاشتراكي السوداني، في لقاء شخص ي بمكتبه عام 2371م، تولي مسؤولية إنشاء وتأسيس معهد للدراسات الاشتراكية، وتدريب القيادات السياسية."، فوافق صاحبنا على الطلب، بشرط أن
حواره مع الأستاذ عبد الله الطيب: "والله يا أستاذ قدم في المركب، وقدم في الطوف ...، نلتمس النجاة بطوق الجامعة من الغرق في بحر السياسة وأمواجه المتلاطمة." (ص: 211-211). ويعكس
4
تجربة البؤس وبؤس التجربة ( َس ْو ا ْندم ل تخلي تندم)
ًً
يكون منتدبا من جامعة الخرطوم لمدة عامين، احترازا من عواقب الأمور، كما أوضح ذلك في
هذا التردد ى إحساس "الوزير السوداني" الأكاديمي بأن حكومة مايو لم تكن مستقرة على حال، وإذا عجز عن تحقيق التغير الذي ينشده، حسب تطلعاته الوطنية، فيجب أن تكون له خيارات أخرى، والش يء الذي يؤكد ذلك تقديم استقالته عام 2311م، ثم هجرته إلى جامعة الملك سعود (2311-2311م). وعندما يتحدث الدكتور حسن عابدين عن بعض مظاهر بؤس التجربة التي خاضها مع حكومة مايو، يميا بين الأكاديميين التكنوقراط الذين خدموا الحكومة بصدق،
وأسهموا في انجازكثيرمن المشروعات التنموية، وأولئك الذين يمثلون
"البطانة الفاسدة المفسدة داخل النخبة الأكاديمية التكنوقراطية، والتي تحَّلقت حول النميري، فإنها بطانة السوء في قصر الحاكم، كل حاكم، وحول كل رئيس، وفي كل نظام شمولي (يساري ًا كان، أم يميني ًا علماني ًا أم إسلامي ًا)، فلم يخل قصر الحكم في مايو، وقصور أخرى كانت، وكائنة اليوم من أمثال هؤلاء. غفل عنهم النميري، أو ربما هم استغفلوه واستغلوه ... إنها خطأ وخطيئة وآفة من آفات النظام الشمولي، وكل نظام شمولي، ونهاية كل حاكم يستمرئ الانفراد بالسلطة، وإنما يركن إلى هذه البطانة، يطمئن لها؛ لأنها تسبح صباح مساء بحمده، وتنافقه، وتطبل له، فيغض الطرف عن أهوائها، وسوءاتها، وفسادها،
وإفسادها، وبل عن فساده هو نفسه." (ص: 221).
وبهذه الكيفية يؤكد الدكتور حسن عابدين بؤس التجربة المايوية، بدليل أن كل قررات
رئيس الاتحاد الاشتراكي ورئيس الجمهورية كانت "أحادية فردية"، تحال إلى "المؤسستين السياسية والُّتشريعية للعلم، والتأييد، والمباركة بالصم والتصفيق" (ص: 213). هكذا كانت هامشية ًالوزير السودان في العهد المايوي، والدكتور حسن عابدين كان أفضل رفاق البصم والتصفيق حظا؛ لأنه آثر الهجرة على البقاء تحت وطأة نظام يهضم حقوق الكفاءات، للعمل أستاذ ًا بجامعة الملك سعود (2311-2311م). وبعد ثلاث سنوات من سقوط حكومة مايو عاد للعمل مرة أخرى بجامعة
ُّ مرت الأيام والدكتور حسن عابدين في موقع المراقب الحصيف لتطورات الأحداث في السودان، حكومات ديمقراطية-ائتلافية متشاكسة، ثم نظام عسكري قابض. وبعد بضعة أشهر من انقلاب الإنقاذ لعام 2313م، ت َّمت استضافة الدكتور حسن عابدين في مكتب العميد عثمان أحمد حسن، عضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني، الذي أبلغه "أن مجلس قيادة الثورة قرر الاستعانة بعدد من الشخصيات القومية المستقلة، من أهل المعرفة والكفاءة؛ لدعم وزارة الخارجية في وظائف سفراء، وأضاف بأن الاختيار والترشيح"، يشمل شخصه. (ص: 212). ق ِّبل
5
ً
الخرطوم، متندرا على تلك العودة، بقوله: "العرجاء لمراحها".
الدكتور عابدين الرهان بالرغم من مرارات التجربة المايوية، وفي مخيلته نصيحة أستاذه الدكتور عثمان سيدأحمد إسماعيل البيلي: "سو اندم لا تخلي تندم"، وفي مفكرته القواسم المشتركة بين الدبلوماسية والأكاديميات التي تتمثل في "المنهج العلمي الموضوعي في تقص ي الحقائق، وجمع المعلومات، والتحري عن صححة الحقائق، ودقتها، وإبداء الرأي الصريح، وإسداء النصح النايه،
دون تردد، أو مواربة، أو رغبة، أو رهبة." َّ فلا جدال أن هذه المنطلقات الفكرية قد مكنت الدكتور عابدين من تحقق بعض
النجاحات في مجال عمله الدبلوماس ي، لكن هناك بعض المواقف والتجارب البائسة التي عارضها بالقلب، واللسان الخافت، دون يتخذ موقف ًا واضح ًا يرقى إلى درجة الاستقالة من الوظيفة. ونذكر منها قضية الجواز الدبلوماس ي السوداني الذي منحته حكومة السودان إلى الشيخ راشد الغنوش ي، زعيم حزب النهضة التونس ي؛ والجواز السوداني العادي الذي أصدرته سفارة جمهورية السودان بلندن إلى المواطنة السودانيًة فاطمة أحمد إبراهيم. يصف الدكتور حسن عابدين لقاءه الأول بالشيخ راشد الغنوش ي، قائلا:
6
"جاء الغنوش ي لمقرسفارتنا [بالجزائر]، يستفسرعن رسالة له من الخرطوم، تصله بالحقيبة
الدبلوماسية ... أقول كان لقا ًء بلا موعد، أو اتفاق؛ إلا ربما بترتيب ًخفي من لدن الدبلوماس ي
"الرسالي" بالسفارة؛ لعلاقة له بالغنوش ي، لم يطلعني عليها، خلافا لتقاليد وأعراف العلاقة
بين السفير ومرؤوسيه من الدبلوماسيين... اعتذرت له أن الرسالة التي يتوقعها لم تصلنا
بعد، ولكن ربما تصل في الحقيبة القادمة... وها هو الغنوش ي يزورني للمرة الثانية بعد الزيارة
الأولى ًقبل أسبوع؛ ليتسلم مظروفًا مغلقًا بأحكام، وبالشمع الأحمر، جاء من الخرطوم،
مكتوبا عليه "لا يسلم لغيره، ولا يفتح إلا بواسطته"، تحسست الظرف، فبدا لي ثقيل الوزن
صغير الحجم، لامجرد رسالة كتبت على صفحات من الورق الخفيف .. وعلمت فيما بعد إنه
جواز دبلوماس ي سوداني، من منن وبركات الدبلوماسية "الرسالية" للزعيم الإسلامي الغنوش ي.
غضبت أن تجعل الدبلوماسية الرسالية من السفير، وهو المؤتمن على أسرار الدولة والوطن
ًً ًًً
كافة، حمارا يحمل أسفارا. فكتبت بذلك للوكيل في الخرطوم، متسائلا ومستنكرا ومتعجبا،
وأنا حديث عهد بالعمل الدبلوماس ي، وبمناهجه الإدارية ومنعرجاته .... ولم يشأ الوكيل الرد على رسالتي. فقلت لنفس ي... مسكين الوكيل، فربما لا علم له هو الخر بأمر الجواز! ... وبعيد لقائي الثاني جاءني سفير تونس لدي الجزائر، علي جراد؛ ليقول لي إن بلاده تعتبر منح
ًًًًًُُّّ السودان اُّلغنوش ي جوازا دبلوماسيا سودانيا موقفا عدائيا يس ئ للعلاقات الأخوية الممتازة بين
تونس والسودان ... فقررت تونس استدعاء سفيرها من الخرطوم، بلا عودة قريبة، وغلبت
على علاقة البلدين حالة من التوتر والتردي بلا مثيل في تاريخ السودان المستقل وتونس المستقلة." (ص: 211-271).
هكذا يكون العطاء المهني بائ ًسا عندما يعلو العمل التنظيمي القطاعي على المهنية والتقاليد
الكلاسيكية الموروثة، وينحني الوزير السوداني للعاصفة، وتسقط معايير المهنية، ويضحى الوزير أمام خيارين، لا ثالث لهما: الاستقالة من الوظيفة، أو الخضوع لأدبيات الدبلوماسية الرسالية، التي يصفها الدكتور حسن عابدين بأنها: "تفسد وتبطل مفعول الدبلوماسية الذكية، وتودي بعلاقات السلام والوئام السياس ي، وتسد قنوات التواصل، وتبادل المنافع والمصالح بين الدول." (ص: 212). وحصيلة ذلك يتراكم البؤس المهني، إذا آثر الوزير السوداني البقاء في الوظيفة على حساب قرارالاستقالة الصعب.
أما الموقف الخر فيرتبط بقضية جواز الأستاذ فاطمة أحمد إبراهيم ًالتي هاتفت الدكتور حسن عابدين، سفير السودان لدي المملكة المحتدة (لندن) آنذاك، معلنة عن رغبتها وقرارها بالعودة للسودان، ثم طلبت استخراج جواز لها، وآخر لابنها الدكتور أحمد الشفيع. رحب السيد
السفيربعودتها إلى السودان، ودعاها لزيارة السفارة. ولسان حاله يقول:
"ت َّم استخراج الجواز لها ولابنها الدكتور أحمد، وهي جالسة في مكتبي، ولم يستغرق ذلك سوى أربعين دقيقة... وأبرقت وزارتنا في الخرطوم بقراري منح فاطمة أحمد إبراهيم جواز سفرسوداني جديد للعلم. وأنها تزمع العودة للسودان أول أيام العيد (12-11 أكتوبر 1112م)، ولكن تلقيت رسالة من مكتب الوزير الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، تعاتبني على اتخاذ القرار، قراراستخراج الجوازلفاطمة، قبل الرجوع إليه!". (ص: 129-121).
يبدو أن الدكتور عابدين قد استهجن هذا الموقف، فكتب برقية عاتبة إلى رئاسة وزارة
الخارجية، مفادها: "إن سياسة الدولة المعلنة تدعو وتشجع كل المعارضين وزعماء المعارضة على العودة للسودان، كما أن قوائم حظر سفر السياسيين خروج ًا ودخو ًلا قد رفعت ... فكيف يلام
السفرعلى حسن التصرف، وتطبيق سياسة الدولة المعلنة ...؟" (ص: 129).
هذان الموقفان يشهدان على تدني الأداء الوظيفي على امتداد القطر، وفي فضاءات العمل
الدبلوماس ي، نسب ًة لتقديم الولاء السياس ي على الكفاءة المهنية، وإبدال الأعراف المرعية دولي ًا بالمصالح القطاعية الضيقة. فواقع التجربة التي عاشها الدكتور حسن عابدين لم تكن نشاز عن
7
تجارب رصفائه الخرين، لكن فضيلته عليهم، تتمثل في أنه وَّثق لتجربته بخيرها وشرها، مؤكدًا أن عبء المسؤولية العامة القائم على أمانة المشاركة، وأوزار الممارسة وأخطائها تقع على عاتقه، بالرغم من أنه برئ الذمة من انتهاك أي حق خاص، أو عام. (ص: 33). لكن هذا الإقرار الشجاع لا يمنعنا من أن نعاتب الدكتور حسن عابدين على بعض المواقف السالبة التي اتخذها، ونثمن أداءه المهني في بعضها، ونعضد ما جاء في مقاله الأخيرة، الموسومة ب"الشمال الجديد والجمهورية
الثانية"، حيث أشار فيها إلى بعض القضايا المهمة التي تعكس الأسباب الكامنة وراء مظاهر البؤس السياس ي والإداء المهني البائس في السودان. ويأتي في مقدمة تلك المقترحات غياب الرؤية الاستراتيجية في مفكرة الوزير السوداني، التي لخص أبعادها في عجز الحكومات السودانية المتتالية -سواء أكانت مدنية أم عسكرية- في وضع دستور دائم يتعاهد الناس عليه، باختلاف
ألوان طيفهم السياس ي، ومشاربهم الفكرية. وتعني مرجعية الدستور بالنسبة له الاستقرار السياس ي القائم على التسامح الوطني عبر مؤسسات ديمقراطية راشدة، وتعني تطوير قدرات القوى القطاعية (الأحزاب) لتحقيق كسبها الجماهيري المشروع، وتوجيه ذلك الكسب في خدمة الصالح العام، وتعني عدم تسييس الخدمة المدنية، وتعني تحقيق التنمية المتوازنة بين المركز
والتخوم (أو ما يعرف بالهامش). ً وتطرق الدكتور حسن عابدين أيضا إلى أدب الاستقالة أو الإقالة (أو الإعفاء). فالاستقالة
عندما تعلن في وقتها الصحيح وبمسوغات موضوعية، تعني مهنية الوزير، وأهمية دوره الريادي
في توعية المجتمع والقيادة السياسية. واستشهد في هذا المضمار باستقالة ليام فوكس، وزير
الدفاع البريطاني، وعضو حزب المحافظين الحاكم، عام 1122م؛ لاتهامه بمحاباة صديقه رجل
ً
الأعمال البارز آدم وريتي، واصطحابه معه في زياراته الرسمية الخارجية، مستشارا غير رسمي.
تأ َّمل أيها القارئ الكريم في هذه المهنية وهذه الناهة، التي تعكس أهمية المنصب العام، وشفافية الرقابة الحزبية، ووعي الرأي العام، والصحافة التي تمثيل السلطة الرابعة في العاَّلم المتحضر. فالاستقالُّة بهذا المفهوم، وبهذه القيم المعيارية مفقودة في السودان، ويجب أن يوطن لها ليكون الوزير َّالسوداني في موقع المسؤولية، ويخرج من دائرة البصم والتصفيق للقرارات غير المدروسة التي تنال عليه من عل، ليكون صاحب قرار، يتحمل مسؤوليته تنفيذه وتبعات ذلك. ولًيس من
الضروري أن تؤسس الاستقالة على خطيئة إدارية أو سياسية، بل يمكن أن تأتي انصياعا لتقدير عام، أو شعور سياس ي بأن الوزير قد قض ي ما يكفيه في وضعه الوظيفي، فيجب عليه أن يتر َّجل، والدليل على ذلك استقالة توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وزعيم حزب الحاكم العمال آنذاك، عندما نبهه الحزب (أي حزب العمال الحاكم) بأن استمراره زعيم ًا للحزب، ورئيس ًا للوزراء
8
قد يؤثر على وضع العمال في الانتخابات العامة القادمة؛ لأن لعنة تأييده للغزو الأمريكي للعراق عام 1119م ظلت تطارده في المحافل السياسية العامة والحزبية، فتر َّجل الرئيس بنا ًء على توصية الحزب، قبل أن تنتهي دورته، ودون أن يتعلل بأي بسبب موضوعي، أو غير موضوعي، كما يفعل
قادتنا في السودان. أما الإقالة أو الإعفاء من الوظيفة العامة فتعني فاعلية أجهزة الدولة، وشفافيتها تجاه
الشأن العام، دون انحياز إلى حزب، أو قبيلة، أو طائفة، أو جهة، بل إمتثا ًلا لسيادة القانون،
وهيبة الدولة ومؤسساتها الحاكمة. واستشهد الدكتور حسن عابدين في هذا الشأن بالحكم الجنائي الذي صدر ضد جيمس ديفاين، النائب البرلماني في مجلس العموم البريطاني، بتهمة تزوير فواتير لصيانة مقره الرسمي، وقيمتها ثمانية اللف جنيه إسترليني فقط، وجاء في حيثيات الحكم والإعفاء من اَّلوظيفة "أن سلوك النائب الشائن شكل خرقًا وانتهاكًا فاضحًا لناهة النائب البرلماني ... وشوه سمعة البرلمان أمام دافع الضرائب، وأمام الناخب البريطاني." (ص: 112). أين نحن من هؤلاء يا أيها السيد رئيس المجلس الوطني، والسادة النواب؟ أيحق لنا أن نتحدث عن الحكم الراشد؟ أيحق لنا أن نتحدث عن الشفافية والطهر السياس ي؟ إذا صدق حدسنا فالقضية تحتاج إلى مراجعة شاملة من القمة إلى القاع، حتى يخرج الوزير السوداني من قفص تجارب البؤس وبؤس التجارب السياسية إلى رحاب الريادة في اتخاذ القرارات المدروسة وتطبيقها على صعيد الواقع، والشفافية والطهر السياس ي في تحمل عبء الأخطاء التي يرتكبها قادتنا الأفاضل دون ضميريؤِّنب، أورئيس يحاسب.
ونختم هذا المقال بالفقرة الأخيرة في كتاب الدكتور حسن عابدين، التي تقرأ هكذا: "نريد التوطين والتمكين للشباب ولأجيال المستقبل؛ لتنهل وترتوي من ثقافة الديمقراطية: الاستماع للرأي والرأي الخر، واحترام كل رأي، وكل رأي آخر عبر الحوار السلمي، والاعتراف بالخطأ والتقصير الذاتي، ونقد الذات. وفي هذا يلزم بث وتقنين أعراف وتقاليد التقاعد المبكر الطوعي من الموقع القيادي سياسيًا كان، أم إداريًا، وترسيخ أدب الاستقالة قبل الإقصاء، والعزل،
9
والإعفاء، اعتراف ًا بالخطأ والاعتذار عنه." (ص: 921).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.