الخرطوم وأنقرة .. من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    شاهد بالفيديو.. "تعب الداية وخسارة السماية" حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي ترد على معلق سخر من إطلالتها قائلاً: "لونك ضرب"    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    الجيش السوداني يسترد "الدانكوج" واتهامات للدعم السريع بارتكاب جرائم عرقية    مطار الخرطوم يعود للعمل 5 يناير القادم    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غربا باتجاه الشرق دفاتر الديمقراطية البرلمانية الثالثة ( 18 و19)


مصطفى عبد العزيز البطل
[email protected]
-- الحلقتين الثامنة عشر والتاسعة عشر--
** الحلقة الثامنة عشر ***
(1)
عند مفتتح اللقاء مع العقيد قرنق وزمرته كان السيد الصادق المهدي يجلس على رأس المائدة والى جانبه الدكتور حماد عمر بقادي. أن كنت من الاجيال الطالعة ولم تكن تعرف الدكتور بقادي فإن التعريف السياسي يقول انه مساعد رئيس حزب الامة لشئون الجنوب آنذاك. واذا أردت التعريف الاجتماعي (مصحوباً بالشمارات) فهو زوج السيدة الفضلي مرضية الفاضل محمود، شقيقة المرحومة السيدة سارة الفاضل محمود، الزوجة الثانية للسيد الصادق المهدي. أي أنه عديل رئيس الوزراء. والدكتور بقادي محاضر في علم البيطرة، وقد شغل في النصف الاول من التسعينات منصب عميد كلية البيطرة بجامعة الخرطوم، قبل ان تعزله العصبة المنقذة وتنعم عليه من فيوض كرمها، وتقوم معه بالواجب، وتستضيفه لبعض الوقت في معتقلاتها الوثيرة.
والحق أن المائدة، التي قلنا ان السيد الصادق المهدي قد جلس على رأسها، لم تكن مائدة اجتماعات بالمعني المتعارف، اذ لم تكن الغرفة مزودة بطاولة ومقاعد من مثل تلك التي يجلس حولها الناس عادةً لأغراض اللقاءات الرسمية. بل مجموعة من المقاعد القصيرة التقليدية التي توضع عادة في صالونات الاستقبال ليجلس عليها الضيوف، ثم في المنتصف كانت هناك طاولة صغيرة قصيرة ايضاً مما يطلق عليها الفرنجة "كوفي تيبل".
كان هناك مقعدين في المقدمة، ثم صفين متقابلين من المقاعد. جلس على يمين رئيس الوزراء، في الصف الجانبي، العقيد جون قرنق، يليه بالترتيب رئيس اركان جيش الحركة وليام نون، ثم أروك طون، ولام أكول، وجيمس واني، ثم يوسف كوة. وجلس على يسار الرئيس، في الصف المقابل للعقيد قرنق وزمرته، بالترتيب كل من ابراهيم على ابراهيم مدير مكتب رئيس الوزراء، يليه كاتب هذه الكلمات، ثم الدكتور تيسير محمد احمد، فالدكتور مأمون محمد حسين، وأخيراً المهندس مختار عثمان. هل تعرف مختار عثمان يا رعاك الله؟ مختار هو ممثل المهندسين في التجمع النقابي، وقد عينته الحكومة الائتلافية في وقت لاحق مديراً للخطوط الجوية السودانية. ولكن وعند دخول الجبهة الاسلامية حكومة الوفاق الوطني في وقت لاحق طلب الدكتور الترابي عزله، كما طلب عزل المهندس الآخر هاشم محمد احمد، الذي كان قد تم تعيينه مديراً عاما لهيئة السكة حديد من منصبيهما، واستهجن تعيينهما اصلاً في هذين المنصبين الحساسين. وقد حدثت مشادة في هذا الشأن بين الدكتور الترابي والمرحوم صلاح عبد السلام الخليفة وزير شئون الرئاسة، الذي قدم تبريراً لتعيينهما لم يعجب الدكتور الترابي. ولا شك عندي ان السبب هو ان هاشم كان – واحسبه ما يزال – عضوا في الحزب الشيوعي. أما مختار فلا أعتقد بشيوعيته، ولكنه كثير الحركة وشديد الازعاج، ولم يكن الاسلامويون يطيقونه (أنا أيضا لم أكن اطيقه مع انني لست اسلاموياً).
(2)
بدأ اللقاء رسمياً بكلمة قصيرة تلاها من ورقة مكتوبة الدكتور حماد بقادي، تضمنت الترحيب والتعبير عن التفاؤل وتمني الخير للبلاد. لم يتحدث بعدها الدكتور بقادي بل ظل مستمعاً. كما ظل ممثلو التجمع النقابي صامتين تماماً، لا ينطقون ببنت شفه، حتي نهاية اللقاء، ويبدو انهم كانوا متفقين على ذلك. ومهما يكن فأنه لم تكن لأى منهم صفة للحديث في ذلك الاجتماع أساساً، سوى تمثيل الجهة التي نظمت اللقاء ورعته.
(3)
قبل ان نمضي قدماً أود ان أسترجع نقطة حسبتها في المبتدأ هامشية، ولكنني أعدت النظر كرتين، ورأيت ألا أتجاوزها. هل يعقل ان أكتب عن الكراسي والطاولات ولا اكتب عن حبيبنا والتر كونيجوك، رحمه الله؟ والتر كان وزيراً للعمل في حكومة السيد الصادق المهدي ممثلاً لكتلة ساك الجنوبية. وجّه رئيس الوزراء بضمه الى وفد مؤتمر القمة الافريقي بأديس أبابا. كان اسمه قد جاء هكذا في قرار تعيينه وزيراً: (والتر كوني). واستمر في الوزارة بهذا الاسم عهداً طويلاً. ولكنه جاء الى أمانة مجلس الوزراء ذات يوم وذكر ان اسمه ليس والتر كوني. ثم أخذ ورقة وقلماً وكتب اسماً طويلاً، بسطه في سطر كامل ونصف السطر، وقال ان ذلك هو اسمه الصحيح الذي ينبغي ان ينادي به ويكتب في المكاتبات الرسمية. وقد عانى الجميع أمرّ المعاناة من ذلك الاسم الطويل الذي أهدر المال العام من أحبار وأوراق، ثم استحلفوه بحق المحبة بين الشمال والجنوب أن يسمح لهم بأن يكتبوا اسمه اختصاراً (والتر كونيجوك) فوافق على مضض.
كان والتر كونيجوك يقيم بفندق غايون، وكان معزولاً تماماً عن الاتصالات الجارية من جانب وفدنا بخصوص اللقاء. والحقيقة أن الشكوك كانت تحوم حوله بسبب اتصالاته الوثيقة بجماعة الحركة الشعبية. جاءني والتر في الليلة السابقة للقاء وسألني سؤالاً مباشراً عما اذا كان رئيس الوزراء يريد منه أن يحضر الاجتماع مع العقيد قرنق غداً. رددت عليه في أدب وخبث شديدين: "هل سيلتقي رئيس الوزراء غدا بجون قرنق .. هل هذا صحيح .. كيف عرفت"؟ غضب الوزير ورد علىّ رداً قاسياً، حسبته مصطنعاً، ربما أراد من ورائه أن يغطى على الخطأ الذي ارتكبه بكشفه لمعلومات يفترض انه هو بالذات لم يكن يعلمها لان احداً، من جانبنا، لم يخطره بها. اعتذرت له ووعدته بأن آتيه بالإجابة في ظرف ساعات.
بالفعل ذهبت الى الفيللا الرئاسية، وقبل أن اصعد الى الطابق الثاني وجدت الدكتور تيسير والدكتور مأمون والمهندس مختار يشربون الشاى في الصالون الارضي. طرحت عليهم وطلبت رأيهم حول سؤال والتر كونيجوك. ماطلوا في الاجابة، بل تصرف كل منهم بما يوحي بأن الاجابة ستأتي من زميله. بعد تردد وفي كلمات مرتبكة قال لي أحدهم ما معناه ان اللقاء يفترض ان يتم بين السيد الصادق بصفته رئيساً لحزب الامة، لا رئيسا للوزراء، وهذا هو شرط العقيد قرنق والحركة، وبالتالي فهو ليس لقاءً رسمياً يمكن ان يحضره الوزراء بصفاتهم الوزارية.
صعدت الى الطابق الأعلى. وجدت الدكتور منصور خالد يجالس السيد الصادق المهدي، ويحتسيان الشاي أيضاً. لم أشأ التأجيل فقد تأخر الوقت، كما أنه ليس من الاصول أن أسأل الرئيس مثل ذلك السؤال في حضور آخرين. قلت للرئيس بصوت عال: "سيادتك وعدت الدكتور تيسير وبقية اعضاء التجمع بالاجتماع بهم، وهم ينتظرون في الطابق الارضي لأكثر من ساعة". كنت اتوقع أن يأتي رد الفعل من الدكتور منصور، كأن ينهض من كرسيه ويعتذر بأن عنده هو ايضا موعد آخر. ولكنني فوجئت برئيس الوزراء يرد: "قول ليهم يجونا فوق"! وبالفعل صعد الجميع، وتحول الشاى الى عشاء. وكان ذلك كله على غير رغبة فتية التجمع، الذين لم يكونوا مرتاحين لوجود منصور اثناء تباحثهم مع رئيس الوزراء، لأسباب مفهومة.
(4)
ولكنني حصلت على إجابة السؤال بشأن والتر كونيجوك في نهاية المطاف. إذ دخل رئيس الوزراء الى غرفة جانبية ليصلي، فدخلت خلفه. قلت له: "سيادتك وزير العمل والتر كونيجوك يسأل هل يحضر اللقاء غداً؟". تطلع الرئيس في وجهي للحظات، ثم قال: "الله اكبر الله اكبر" ودخل في الصلاة دون ان يجيب. وصلتني الاشارة بوضوح، ومن عاشر حفيد المهدي اربعين يوماً عرف إشاراته. الاجابة: لا. ولكن الوزير لا يجب ان يعرف ان ذلك كان قرار الرئيس!
** الحلقة التاسعة عشر ***
ما زلنا نعالج وقائع اللقاء بين رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي والعقيد جون قرنق، الذي انعقد في العاصمة الاثيويبة أديس أبابا في يوليو 1986، فنقول وبالله التوفيق:
(1)
بعد ان فرغ الدكتور حماد بقادي من القاء كلمته الافتتاحية الترحيبية القصيرة، تحدث السيد الصادق فسأل العقيد قرنق عما اذا كان يفضل أن تكون لغة الحوار العربية ام الانجليزية. ابتسم قرنق والتفت الى يمينه حيث جلست جماعته، ثم أجاب بأنه شخصياً يشعر أن قدرته على الاستيعاب والتعبير بالانجليزية أفضل من العربية. وهكذا كانت الغلبة للغة الفرنجة، التي سادت، تبعاً لاختيار العقيد، خلال التسع ساعات ونصف الساعة التالية.
تحدث السيد الصادق فاجتهد في رسم لوحة للوضع السياسي والتغيرات الكبيرة التي شهدها السودان عقب انتفاضة ابريل 1985. وبحسب تلك اللوحة فإن شعب السودان يتوقع من الحركة الشعبية أن توقف الحرب وتتقدم للمشاركة في صناعة الحاضر ورسم المستقبل، بحكم دورها المشهود والمقدر في مقاومة النظام المايوي والمساهمة في اسقاطه. وأشار الى ان قطاعات واسعة من أبناء السودان تستغرب موقف الحركة واصرارها على الاستمرار في القتال، بعد أن نجح الشعب في خلع النميري واستعادة الديمقراطية.
(2)
كان رد العقيد قرنق مستعاداً مكروراً في جانبه الاول، إذ قام بتشغيل نفس الاسطوانة التي تحمل أغنية (مايو تو) الشهيرة، من تأليف وتلحين العقيد نفسه، والتي كان الاخ ياسر عرمان يرددها وقتذاك من اذاعة الجيش الشعبي. ولكن قرنق – للحق – أضاف هذه المرة شيئاً جديداً، اذ تساءل عن الانتخابات التي اجريت وتم بموجبها تشكيل البرلمان ثم الحكومة الجديدة برئاسة السيد الصادق المهدي، وعن سبب اجرائها في غياب الحركة الشعبية. وهي اضافة جديدة فعلاً كما ترى، كما أنها مدهشة أيضاً. بل ومدهشة للغاية، لا سيما اذا استرجعنا ووضعنا في الاعتبار كثرة الدعوات والرسائل والبعوث الماكوكية التي قام بها ممثلو التجمع وحكومة الدكتور الجزولي دفع الله الانتقالية بهدف اقناع الحركة الشعبية بالمشاركة في عملية التحول الديمقراطي. ثم تذكرنا المطل والتعنت والشروط التعجيزية من جانب الحركة. الامر الذي حدا بالحكومة الانتقالية للمضي قدماً في انجاز الانتخابات النيابية، وفاءً للالتزام باجرائها وتسليم السلطة للشعب في ظرف عام واحد.
(3)
في ذيل الرد المستفيض على تساؤل قرنق المدهش ذكر السيد الصادق أن الحكومة الانتقالية وإن أجرت الانتخابات في الشمال، فانها قامت بتأجيلها في 38 دائرة جغرافية بالأقاليم الجنوبية. وهنا اشتعل قرنق حماسة، فسأل: "ولماذا تم تأجيلها في دوائر الجنوب تلك؟" والاجابة البديهية تقول ان السبب هو اضطراب الاحوال الامنية في تلك الدوائر بسبب الحرب التي تشنها الحركة. ولكن حفيد المهدي اضاف: "ربما حجزتها لكم الحكومة الانتقالية حتي اذا اوقفتم الحرب خضتم الانتخابات فيها". وهنا واتت قرنق الفرصة للتألق فاهتبلها. وانت لا تحتاج الى مجالسة قرنق والاستماع اليه لاكثر من تسع ساعات ونصف الساعة لتكتشف ولعه بالتألق والاستعراض ومحاولة اثبات الذكاء والتميز. قال قرنق وعيناه تلمعان، وكأنه قبض الذئب من ذيله: "من قال أننا نريد ان نخوض الانتخابات في الجنوب حتي تحجز لنا الدوائر هناك"؟ فسأل حفيد المهدي: "وأين كنتم تريدون خوضها؟". هنا أجاب قرنق: "أنا شخصيا كنت اريد ان اخوضها في بورتسودان". ثم أخذ يتطلع في وجه رئيس الوزراء، ثم في وجوهنا، ليرى تأثير عبارته تلك علينا. والمفروض طبعاً أن نكون مذهولين ومأخوذين من عبقرية الثائر الفذ وخيبة رئيس وزرائنا!
الفكرة واضحة. أليس كذلك؟ لا عجب اذن أن تكررت بصورة مزعجة المرات التي وردت فيها مثل تلك العبارات الاستعراضية، التي تعبر عن فتنة عجيبة بالاثارة والحركات الاكروباتية والتهافت لكسب النقاط الافتراضية، بأكثر مما تكشف عن رغبة أصيلة في بحث نقاط الالتقاء والسعي الجاد لتأمين السلام وحقن دماء الأبرياء التي كانت تهدر عبثاً في كل يوم تحت دعاوى تحرير السودان.
(4)
كنت قد كونت عقيدتي، قبل انقضاء الساعة الاولى من بدء المحادثات بأن وفد الحركة لم يأت لحوار، وأن قرنق لاعتبارات كثيرة لم يكن مستعداً لالقاء السلاح ومواجهة تحديات السلام. وبالتالي فإن موافقته وحضوره ذلك اللقاء لم يكن اكثر من ذر للرماد في العيون ومحاولة لمحاصرة التساؤلات العديدة داخل وخارج السودان حول دوافع الحركة للاستمرار في القتال، والسعي لخلق انطباع وارسال اشارات هنا وهناك بأن الحركة تبذل جهداً لتحقيق السلام.
ولكن الحقيقة تظل هي أن أداء اعضاء وفد الحركة (سنأتي الى أداء العقيد قرنق منفصلاً) لم يتعد في غالبه أن يكون سلسلة من محاولات صح ان يقال عنها صبيانية، في أحيان كثيرة، لتسخيف وتسفيل كل عبارة ينطق بها رئيس الوزراء. وزاد الامر ضغثاً على إبالة أن عدداً من هؤلاء الأعضاء استخدموا في مواجهة رئيس الوزراء، وفي حضور قرنق نفسه بطبيعة الحال، عبارات غاية في التعدي وسؤ الأدب وعوار الخلق، تعويلاً على صبر المهدي وسماحته وسعة صدره، ورغبته الاكيدة لتجنيب البلاد أهوال الحرب مهما كانت التكاليف والتضحيات.
ومن مثال ذلك مخاطبة رئيس اركان جيش الحركة وليام نون لرئيس الوزراء بفجاجة مفرطة قائلاً: “don't crack our heads”. وربما كانت أقرب ترجمة للعبارة هي (لا تفلق رؤوسنا). وكان المهدي يجيب وقتها على سؤال من العقيد قرنق حول استعداده للقبول ببعض شروط الحركة. ومن الغريب أن قرنق لم يبد عليه الانفعال بمثل ذلك المسلك المسئ. وبخلاف ما هو سائد من اعتقاد عن هيبة قرنق وسطوته وقسوته فقد كان تساهله امام تفلت بعض اعضاء وفده مريباً ومثيراً للحيرة. وهو تفلت طال قرنق نفسه، حين قاطعه الرائد أروك طون بحدة شديدة عندما كان كان قرنق يعرض وجهة نظره حول مسألة معينة، فثار طون وعبّر عن استهجانه لرأى قرنق وعدم استعداده للالتزام به حال جري الاتفاق عليه مع رئيس الوزراء.، حيث قال أروك طون بلغة عربية، مع ان الحوار كان يدور بالانجليزية: " لو حدث اتفاق زي ده أنا راح أنشق من الحركة". ولم يتعد رد فعل العقيد قرنق على هذا التصرف الخارج عن كل الاعراف سوى أن نظر الى رئيس الوزراء وخاطبه بكل هدوء قائلاً: “You see how my fingers rebel in my hands?” . وترجمتها الحرفية " هل تري كيف تتمرد أصابعي داخل يدي". وهو تعبير لم اكن قد سمعته لا بالانجليزية ولا بالعربية ولكن المعني المراد واضح على أية حال.
(5)
دهشت لاسلوب أروك طون (ولحد ما يوسف كوة)، ولكنني لم أدهش لسلوك وليام نون. كنت قبلها قد سمعت الدكتور حسين أبوصالح، وهو اختصاصي في جراحة المخ والاعصاب، يقول في احدي جلسات مجلس الوزراء عن وليام نون: "هذا الرجل حدث له مينتال بريكداون من قبل. وأنا على علم بطبيعة وتفاصيل حالته. ومن يصل تلك الحالة التي وصلها ذلك الرجل يظل مريضاً ومختلاً عقلياً طوال عمره".
المعروف ان وليام نون قتل غيلةً داخل الاراضي السودانية في منطقة متاخمة للحدود الكينية. لا يهم، فهو ليس بأفضل من غيره ممن قتلهم قرنق. ولكن السؤال يظل قائماً: هل هناك عاقل يعتقد بأن حواراً يشارك فيه أمثال وليام نون هذا يمكن أن يأتي بنتائج؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.