الجياع يجوبون الحواري لاهثون ليلا..ويتوسلون في استجداء..صوت رضيع متقطع يبحث عن دفء..الناموس يلهو في إنارات الطرقات..والظلام..الظلام تكبر هالته عدا عند ذاك العمود المهجور حيث القيت انا بجسدي النحيل هناك وتكومت في سكون..إلا من صوت أنفاس..أنظر لمن هم حولي كأغراب..وتلتهمني منهم نظرات جوفاء..البعض منهم يزحف على الارض..ليتنفسون الهواء والغبار.. وآخرون يفترشونها..يبحثون عن صخرة صغيرة..بقايا معلبات فارغة يتوسدونها.. يبحثون عن أي شيء يضعونه بفمهم..دون جدوى..عن جرعة مميتة أعتادو تناولها..تقيهم آلام الحرمان..وبصوت واهي كلنا نئن..نئن ونعوي..ذاك الشاب منهم يضع نصب ذاكرته تلك الصورة وكيف انه ضحى بكل مايملك وطار الى هذه المدينة من وطنه الفقير تسرع به احلامه تاركا والدة مريضة وشيخ وحفنة من العيال تقتات البكاء وتعلق عليه الآمال..وهذا آخر يحاول عبثا أن يهرب من صوت أميرته الجميلة بداخله وقد هامت به حبا وعشقها كمجنون فأسرع إلى الاغتراب ليجني الثروات التي تدور بمخيلته..صوت الذباب الليلي الثقيل يعلو على آهاتنا وهو يحاول افتراسنا..وحاجتنا القاتلة لتلك الجرعة السُمية تزداد والتي بدأنا تناولها كدعابة بلهو الشباب واندفاع الصبا..اليأس يمزق ماتبقى من فتاتي..وذاكرة الألم تحيلني لشظايا..خطوات العابرين الثقيلة تعبرنا بتقذذ..بعضهم يبصق نحونا وبعضهم يرثى لما آل له مصير هؤلاء الغرباء..الذباب الليلي يتكاثر..وصوت إطارات السيارات الفارهة وهي تحتك بالاسفلت من بعيد يخيف العصافير فتتطاير بخوف من اشجار الطريق وتعود..فارفع يدي الواهنة لأحمي بها وجهي ذو العظام البارزة.. كم يفرحنا مقدمك ايها الموت..فهذا ماتحتاجه اجسادنا المهترئة والتي (تعوزها المناعة) ..أخبرتني بذلك تلك الطبيبة العجوزة والشحوب باديء على وجهها ودهشة أخرى تطل من عيناها :- أن جسدك تنقصه المناعة تماما... تخبطت دهرا في ارجاء ذاكرتي ولم ادر كيف اصبتت بذاك المرض الكابوسي..لحظتها اغمى علي في ذلك المستشفى الطرفي من المدينة الشاهقة فلم اعتقد لثانية ان الاعتلال الطفيف الذي اشكوه هو (نقص المناعة المكتسبة) ثمانية اصياف افنيتها بباريس غارقا في فوضى هويات أتنقل مابين الاعمال اليدوية..أجني الثروات نهارا لأبددها حين ينتصف الليل.. أحاول ان احرك ساعدي مجددا لأنهض متكئا على عمود الإنارة ..لكن الألم مجددا اقوى وأعنف ..أسقط متاوها..يؤلمني كل مابجسدي..ثمة فتيات فرنسيات يتصايحون بنشوة سكر ويلوحون نحونا وهم يهتفون بذلك الصوت الباريسي الرخيم..أبتسم أنا بضعف ..فلم أقو على أكثره..سحبت قطعة قماش بالية وجدتها لاحمي بها ارجلي من برد اشتدت لسعاته تحمله رياح خفيفة كعادة تلك البلدة الاسطورية وعمدت القي بنظري نحو تلك الابراج الخيالية الغامضة والكنائس العالية المنتشرة والانوار المتلالأة من بعيد كاحلام..وصوت غناء فرنسي حزين يتسلل ناعما محفوفا بنسمات من مقهى هناك في آخر الطريق.. بهرتني هذه المدينة لما يزيد عن ربع قرن..كانت عمر احلامي باوربا كلها منذ ميلادي..وووطأت هذه المدينة ورحت أتجول بين طرقاتها ومعارضها وصخب اسواقها الشهير اضحك بملء شدقيّ واصيح راكضا بفرح طفولي أغمز تارة واخرى اقفز مابين ولعي بالمغامرة وعنفواني باكتشاف الحياة هاهنا..سعادتي لاتحدوها سعادة بعلاقتي مع راشيل حتى لقد خلت ان الزمان قد توقف عند عيناها ..وان النيل قد استقى عذوبته من ينبوع ضحكتها الصافية..وركضي في ملعب الجولف بغابته الكستنائية الصغيرة مع تلك الفرنسية السمراء المتوهجة التي تنطق حياة وجنون..وسهرات سونيا وعشاءها الفاخر والذي تتخله الضحكات ولطفها ورقتها ودعاباتها المتواصلة في الصالات الارستقراطية ..فاغوص بذاكرتي عميقا لاذكر حين شدت دهشتي ورأيتها لاول مرة تتحدث بجوالها وتلوح بيديها في رقة كوردة اشرقت تواً، أمام ذلك المقهى المتواضع حيث أعمل انا كنادل لاول أيامي..سحرتني بكبرياءها كأنثى تعرف ماتفعل وغرورها وعطرها الذي يسيل خلفها والشمس تتوسلها لتنعكس على زجاج نظارتها السوداء..دعوتها لإحتساء قهوة معي بالمقهى ولم ترفض لانها كانت مرهقة كما أخبرتني..وإنها تعاني من بقايا صدمة عاطفية وحبيب خائن..شقتها عارمة الفوضى..وحياتها أشبه بقلعة دكتها الحروبات..لم يثنيني ذلك أن أهرع موغلا في الظلمة المخيفة لأنجد فتاة تصرخ طلبا للنجدة من كلاب حراسة كادت تجعلها وجبة ليلية وهي عائدة من ملهاها الليلي في حي غربي من المدينة.. ولم تكن سيرينا الهندينة هذه تختلف عن سونيا في جمالها كثيرا..تشوبها حمرة داكنة كانت اقرب لفتيات قريتي في اقاصي بلادي ونحن نلعب في الليالي المقمرة وندور مخاطبين القمر في سموه..وذلك الشيخ البدوي الطيب ذو اللحية البيضاء الخرافية يغمرنا بحلاوة يجلبها لنا خصيصا من المدينة ، فنتصايح طلبا للمزيد..وندور مع رشفتي الاولى من فنجان قهوتي الصباحية وانا اجلس بمقهى متجول أطالع صحيفة صادرة هذا الصباح بشارع الشانزليزيه..في ذلك اليوم المشرق من آذار توقفت تلك السيارة الفارهة السوداء بجانبي والتي أعرفها تماماً..ونزلت منها راشيل وصديقتها (برجيت) والتي تحب إدهاش الآخرين لتفاجئني راشيل إن لدي إبن منها أسمته (غويريه) لم يبلغ ربيعه الاول بعد..ولم آبه ساعتها كثيراً.. واختزنت كل الحياة في العشق وبجانبي (ماريانا) اللبنانية أخبرتني ونحن نقطف تلك الثمار البرية من أشجار غابة نائبة ذهبنا نتجول بها الصيف الماضي..إن الحياة هاهنا في باريس قانونها الذكاء..وملعبها اللغة والنقود..وهي تسترسل ضاحكة في مرح عن حديث استعلائي بلهجة بيروقراطية.. أخذت أسبح مابين ذاتي وإحتضاري كل يوم على ثنايا عشق جديد ..محاولا الخلود في ذاكرة الحب...وانا أهمس بكل أشجاني ونواحي:- أحبك..ماريانا..أن قدري في الحياة هو حبك..فتضحك وتخبرني ملوحة لي (بمامعناه ان لا أتعلق بها) ويديها على مقود السيارة :- إن حواري باريس وابراجها ولياليها لهي الجنة ذاتها..بعد شهور أخبرني صديق لي إن (ماريانا) إنتحرت..ففكرت لبرهة ..إنها ربما سئمت من جنتها هذي.... آآآآآه... بينما ضوء الفجر يتسلل باهتا وشقشقة عصفور فرح تكاد تبدو غير مسموعة..تأوهت بشدة وأنا أمسك بعمود الانارة في ذلك الشارع الغارق بالبقايا والبؤس والذي نستبيحه كمسكن..تأوهت بشدة ونهضت على أرجلي.. بعض الرفاق نائمون في ألم..وبعضهم يئن في صوت مكتوم ليختلط الشخير بالأنين.. وأجسادهم الضئيلة التي عبث بها ذلك المرض المقيت والمخدرات تنكمش..أكثر..لترحل.. سحبت إناء الماء وسكبت بعضا من الماء البارد بفعل الطقس على يدي وتوضأت..وشرعت أصلي..وأصلي..واصلي.. شمس الدين محمد الحسن عباس شاطر باريس آب/ 2010م (هام:أحداث القصة أعلاه لاتدور في فلك حياتي ولاتحوي شيئا عني لا من قريب ولا من بعيد وهذا مالزم للتنوية