عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) وصلتُ مصر في مطلعِ عام 1958 وافداً لدراسة اللغة العربية التي أحببتها منذ المدرسة الثانوية بحي ((بروكلن)) بمدينة نيويوركالأمريكية. كانت الأجواء السياسية في البلاد ملبدة حينها بغيوم من الهدؤ الحذِر، والحكومة، عبر أجهزرة الإعلام الرسمية، وما أشد سطوتها حينذاك، مازالت تبذل جهداً جباراً لإقناع الشعب ولإقناع نفسها بأن الثورة الاشتراكية قد نجحت وضربت جذورها في الأرض، وان البلاد تخطو نحو تحقيق مجتمع العدالة بخطى ثابتة. أما الأجواء الثقافية في القاهرة، فكانت على افضل حالاتها. الصحف السيارة والكتب والمجلات مفروشة على أرصفة شوارع القاهرة والاسكندرية والاسماعيلية، بينما محطات البث الاذاعي تتنافس مع بعضها أهل الفن. وبالرغم من أُمنيتي بان أكون مراسل حرب لإحدى الصحف الامريكية في المستقبل، إلا ان الأجواء الثقافية في القاهرة حينذاك كانت تدغدغ الرغبة في نفسي ان أنصُب الخيام في القاهرة وأنخرط في العمل الصحفي في مصر بعد التخرج في الجامعة. بالرغم من أن دراسة اللغة العربية بالجامعة الامريكيةبالقاهرة كانت مكثفة للغاية، كنا دائماً نجد الوقت للتمتع بالتنزه في أحياء القاهرة لاسيما في ميدان الإسماعيلية ((التحرير لاحقاً)) المجاور للجامعة. ولما حان موعد التخريج في صيف عام 1960، طلب منا استاذ الترجمة ترجمة ومناقشة صفحات من كتاب ((الأمريكي القبيح)) للكاتبين الأمريكين ((يوجين بيورديك)) و((وليم ليديرر)). بما أن الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والإتحاد السوفياتي لكسب القلوب والعقول في جنوب شرقي آسيا كانت في أوجها في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، بدأ الأمريكيان ((يوجين بيورديك)) و((وليم ليديرر)) يلحظان بقلق ويأس شديدين تفوق الدبلوماسية السوڤيتية على غريمتها الأمريكية في المنطقة. وكان الرجلان على معرقة دقيقة بالأوضاع السياسية والعسكرية في المنطقة وذلك بحكم خدمتهما السابقة كظابطين في القوات البحرية الأمريكية في المحيط الهادي، إذ إلتقيا لأول مرة عند بدء إرهاصت أزمة ((ڤيتنام)) بعد خروج فرنسا من ((الهند الصينية)) إثر هزيمتها في معركة ((ديين بيين فوه)) في عام۱۹54. وفي عام ۱۹58، صب ((ليديرر)) و((بيورديك)) جل قلقهما وتوجسهما اذاء حتمية فشل الدبلوماسية الأمريكية في جنوب شرقي آسيا في رواية واقعية بعنوان ((الأمريكي القبيح)). وتدور الأحداث السياسية للرواية في دولة هند صينية خيالية تدعى ((سركان)) التي يرجح أن تكون (( سيلان)) أو ((تايلاندا)). وفي خضم الصراع السياسي الأمريكي السوڤيتي في هذه الدولة المغلوبة على أمرها يسلط الكاتبان الضوء ببراعة على النجاح العظيم الذي حققه بطل الرواية، المهندس ((همر أتكنس))، الذي لم ينعم الخالق عليه بحُسن الشكل، لكنه نجح نجاحاً باهراً في تغيير مجرى حياة السكان المحليين عبر مشروعات صغيرة مثل مضخات مياه للشرب تشغلها دراجات هوائية. ويشدد الكاتبان على ان المهندس نجح في عمله لأنه قد إستصحب معه الواقع العام الذي يعيشه أهل المنطقة، وتعلم الرجل لغة وعادات وتقاليد وإحتياجات القوم، ثم احترم معتقداتهم الدينية وأكل وشرب معهم. وبالمقابل، يسلط الكاتبان الضوء على السفارة الأمريكية حيث السفير الامريكي المعتمد لدي دولة ((ساركان))، السيد ((هارسون ماكوايت))، يعتصم دوماً بمنزله المريح داخل الحي الدبلوماسي، ويشغل موظفيه بحضور الإجتماعات وحفلات الإستقبال الرسمية، وتنوير وفود من أعضاء الكنغرس وجنرالات الجيش ووكلاء وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين وهلما جرا. و يخلص الكاتبان الى أن الفشل الكارثي للدبلوماسية الأمريكية في المنطقة يعود الى الغرور الغريزي لدي الدبلوماسيين الامريكيين، وتقوقعهم في أبراجهم العاجية، وبعدهم عن هموم المواطنين المحليين، وعدم رغبتهم في تعلُم اللغة والعادات والتكتيكات الحربية المحلية. (2) ولقد وقع رواية ((الأمريكي القبيح)) عند صدوره على الصفوة الأمريكية وقوع الصائغة، إذ جاءت وقائعها والواقعية ((المحفوظية)) التي إتسم بها اسلوبها نقداً بليغاً تنبه بكارثة وطنية وجب إدراكها قبل فوات الاوان. وبعكس الغضب الرسمي الذي إسقبلت بها القاهرة رواية ((ثرثرة فوق النيل)) لاحقاً في عام 1966، و التي اطلق ((نجيب محفوظ)) من خلالها صافرة إنذار تنبه بكارثة وطنية تطل برأسها نتيجة لسياسات قومية خاطئة، وجد ((الأمريكي القبيح)) آذان صاغية في ((واشنطون)) حيث أصبحت الرواية من أكثر المؤلفات رواجاً على الإطلاق. كما كانت للرواية أثر كبير على السناتور ((جون كينيدي)) والذي يحكى أنه أهدى زملائه في مجلس الشيوخ نسخ من الكتاب. لاغرو إذاً أن بعد إنتخابه رئيساً للولايات المتحدة عام ۱۹60، سارع ((كينيدي)) وإدارته في تأسيس ((منظمة فرق السلام)) بغية تحسين صورة أمريكا في مخيلة الدول النامية حيث الصراع الفكري بين الولاياتالمتحدة والإتحاد السوڤيتي كانت تقترب من ذروتها. أوكل الرئيس مهمة إنشاء ((فِرق السلام)) لصديق الاسرة وزوج شقيقته الصغرى السيد ((سارجينت إشرايبر))، والذي نجح نجاحاً منقطع النظير في مهامه، إذ انطلق شبان وشابات أمريكا الى اقاصي الكورة الأرضية لنشر الثقافة الأمريكية عبر العمل الطوئ تحت لواء ((فرق السلام))، حتى أصبح وجود شاب أمريكي او شابة أمريكية لا يثير الفضول في القرى النائية على إمتداد هضبة اثيوبيا الامبراطورية الى صحاري ((مالي)) الاسطورية وصولاً الى كتماندو في أعالي جبال الهملايا. (3) بالرغم من أن ((الأمريكي القبيح)) أصبح يرمز في القاموس الشعبي ليس لدمامة وجه بطل الرواية المهندس ((أتكنس)، بل أصبح المصطلح كناية للأمريكي سيئ الخلق، عالي الصوت، المغرور، الجاهل بثقافة وديانة الاخرين، الميال للعنف الجسدي واللفظي، النرجسي الذي يعتقد ان الكون يدور حوله وحول مصالحه الآنية، ((شيلوخ)) جشع لا يفقع إلا لغة الربح والخسارة في تعاملاته التجارية والسياسية، ولا يرى اي قيمة ل((شعرة معاوية)) في علاقاته العامة، كما لا يرى رونقاً للحُسن في ((بيت من الشَعر)) في بوادي أبي العلاء المعري. (4) تفاعلتُ مع احداث الرواية وشعرتُ بثمة قوة خفية تجذبني برفق نحو الهند الصينية وأجواءها الحبلى بالأحداث السياسية المثيرة. وكان لي ما كنت أرنو إليه شهراً واحداً فقط بعد إنتهاء دراستي في القاهرة، وذلك عندما عُرِض علي وظيفة مصور فوتوغرافي بصحيفة يومية تصدر باللغة الانجليزية في ((اندونيسيا)). حزمت أمتعتي القليلة على عجل، وسرعان ما تجدني أجوب هذه الدولة المدهشة بسرعة وبهمة فائقة كأني أخشى أن أفيق من حلم جميل. لكن لحسن الحظ أن هذا الحلم الجميل دام اكثر من اربعة عقود عشت وعملت خلالها في اكثر من خمسة دول في الهند الصينية فضلاً عن عامين قضيتها مع الجيش الأمريكي في جبهة القتال في ڤيتنام. (5) بما أن السياسة الخارجية الأمريكية لم ولن تكف نهائياً عن تزكية لهيب الصراع في بؤر سياسية ملتهبة تارةً، وإشعال النيران في بقاع آمنة في العالم لتحقيق مصالححها تارةً اخرى، إلا ان غيوماً داكنة أخذت تتجمع بسرعة في الاونة الاخيرة و تنبه بعودة كارثية لل((أمريكي القبيح)) بعد ما يقارب الستين عاماً منذ صدور كتاب بالإسم نفسه. ومن الخطورة بمكان أن ((الأمريكي القبيح)) يعود هذه المرة الى عالم شبه أحادي القطب ويكاد أن تنعدم فيه الندية والتوازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية بشكل واضح، الأمر الذي يجعل عودة ((الأمريكي القبيح)) حدثاً تاريخياً اكثر إثارة للرعب وتهديداً للسلام والسلم العالميين منذ أن إجتاحت قوات ادولف هتلر شرق اوروبا إبان الحرب العالمية الثانية. عليه، لا نملك سوى أن نطلق للخيالنا العنان ونجوب في سراديب خيال الكاتبين ((ليديرر)) و((بيورديك)) لعلنا نجد في جعبتهما مادة خصبة تصلح لرواية جديدة تدق ناقوس الخطر وتنبه على ضرورة التضامن والتعاضد في سبيل الاحتفاظ بالمارد القبيح داخل قُمقُمه. ولذلك، نلتمس العفو من الكاتبين الكبيرين لأننا نقتبس اليوم من روايتهما الشهيرة ونختار ((عودة الأمريكي القبيح)) اسماً لروايتنا الخيالية الجديدة والتي نأمل أن تكون بمثابة تتمية مناسبة لرواية ((الأمريكي القبيح)). كما استهجن الكاتب الايرلندي الساخر ((جورج برنارد شو)) حروب القرن التاسع عشر في رواية ((السلاح والرجل)) والتي أفرد الكاتب فيها مساحة كبيرة لشخصية الظابط السويسري المحترف ((مرتزقة)) الذي كان يتقاسم ((الشوكلاتة)) مع الخضوم كما فعل أبو دلامة في نوادره برغيفيه ودجاجته بدلاً من الإقتتال مع العدو، وكما أشار ((نجيب محفوظ)) بوضوح شديد في روايتي ((ميرامار)) و((الحب تحت المطر)) الى الآثار الاجتماعية للحرب مع اسرائيل في يونيو/حزيران في ستينيات القرن العشرين، تأتي رواية (عودة الأمريكي القبيح)) كأبلغ رفض في القرن الحادي والعشرين للنظرة الرومانسية للحرب وثقافة تقديس الحروب وعبادة أبطالها وتحويل اراضي معاركها الى محاريب ومزارات تغذي النعرات الإنتقامية. عليه، يفتتح الفصل الأول من رواية ((عودة الأمريكي القبيح)) على خلفية لوحة ثلاثية الأبعاد تعكس جمال وسكينة الطبيعة من ناحية، والأثار النفسية للحروب من ناحية ثانية، وعزيمة النفس البشرية لقهر الصعاب وقدرتها الاكسيرية على تضميد الجراح وابعاث الأمل من ناحية ثالثة. عليه، يرفع الستار عن الفصل الأول من رواية ((عودة الأمريكي القبيح)) الساخرة ويظهر الكاتب وهو يسرد القصة التالية على ضفاف النهر بعد عودته الى الهند الصينية بعد غياب دام عقود من الزمان.