لا أتقبل القول بعدم وجود جنوبيين مؤهلين لتولي وظائف مديرى المديريات الجنوبية كما جاء في تقرير لجنة التحقيق، فقد كان بعضهم من خريجي كلية غردون التذكارية ومنهم من يشغل وظائف قيادية في الشرطة والجيش والسجون، وكان من الممكن تنظيم كورسات تأهيلية سريعة أو تعيين مستشارين شماليين ويفترض أن تكون المؤسسات الحكومية في المديرية مستشاريات بصفتها المهنية، لكن حكومة الأزهرى تعاملت مع السودنة كترفيع ادارى ولم تدرك بعدها السياسي والقومي فقد رحل المديريون البريطانيون وجاء المديريون الشماليون، ولمدير المديرية بعد سياسي أكثر أهمية، والادارة فن قبل أن تكون علما ولم يكن للمؤهلات الأكاديمية أهمية لدى الادارة البريطانية فقد كان أبو سن مديرا لدارفور أكبر المديريات مساحة وأكثرها تنوعا بشريا ولم يكن لأبو سن حظا من التعليم وهو من رجال الادارة الأهلية في رفاعة وكان يحظي في دار فور باعجاب واحترام الادريين البريطانيين والسودانيين ويعرف في أوساطهم بشيخ العرب، وكان الموظفون الجنوبيون يتطلعون الي السودنة كغيرهم من الموظفين في الشمال لكن الموظفين الجنوبين في المديريات الجنوبية لم يستفيدوا شيئا من السودنة لآن معظمهم يشغلون وظائف محلية ولا ينتمون الي الكشوفات المركزية العامة كالكتبة والمحاسبين أمناء المخازن، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت في مشروع الزاندى عندما أصدرت الحكومة قرارا عشوائيا بتصفية المشروع بتاريخ 25 يوليو 1955 قشردت 300 من العمال الجنوبيين، ولو أن ذلك حدث في القاش وطوكر والزيداب لتسبب في اضطرابات عمالية خطيرة، ويذكرني ذلك بعبد الرحيم حمدى وزير مالية حكومة عصابة الترابي وحيرانه عندما قال ان المشروعات الاعاشية عبء علي خزينة الدولة فانتهي ذلك الي تدمير القطاع الزراعي، وكان ذلك أيضا قرارا عشوائيا لأن المزارعين ينتجون سلعا تصديرية نقدية، وكانت الحكومة علي علم بالشائعات والتوترات والاحتقانات في أوساط الجنوبيين بدليل البيان الذى أصدره الأزهري بتاريخ 18 أغسطس 1955 وجاء قيه ان الحكومة علي علم بالمؤامرات التي تحاك في الجنوب وستستعمل الحكومة القوة الحديدية ضد أى جنوبي يحاول تقسيم الأمة، ويشير الأسلوب الي أن البيان كتب بخط الأزهرى وهو عادة لا يهتم باختيار الكلمات وتنقصة الدبلوماسية والنظرة الكلية الشاملة وكان يعرف في أوساط الحركة الطلابية بمستر دراب اشارة الي تصريحاته وخطبه المرتجلة فقد كان كحاطب ليل، ولا شك ان التلغراف المزور استوحي من ذلك البيان وتكاد الكلمات تتطابق تطابقا تاما، وكان التلغراف المزور ينسخ ويوزع في كل أنحاء الجنوب وتضاف اليه بعض العبارات النارية ومنها أضربوا بيد من حديد علي كل جنوبي يرفع رأسه للتحريض علي الكراهية، ويذكرني ذلك بالطيب مصطفي وتلميذه اسحق فضل الله في الاذاعة والتلفزيون وبرنامج في ساحات الفداء، ودعاة الفتنة الذين يحاولون الصيد في الماء العكر موجودون في كل زمان ومكان، وقد تشكي منهم بابو نمر في خطابه الي الديكا والمسيرية في مؤتمر الصلح في السبعينيات من القرن الماضي، فقد وجد الساخطون علي أوضاعهم الوطيقية في القيادة الجنوبية والخدمة المدنية ضالتهم لاطلاق الشائعات التي وجدت مناخا خصبا للتفريخ والانتشار في كل أنحاء الجنوب. المطا لبة بالفدرالية: كان من الطبيعي أن ينشط الموتورون الذين يطلقون الاشاعات للصيد قي الماء العكرلكن الاشاعة لا تنطلق من فراغ فقد أصبح الاداريون والموظفون الشماليون الذين آلت اليهم السلطة تحت الرقابة الصارمة، وكان لحزب الأحرار الجنوبي أكبر الأحزاب الجنوبية وجودا في الدوائر الحكومية والمدن والقرى لاحصاء كل صغيرة وكبيرة، ونشأت الأحزاب الجنوبية من انقسام مؤتمر الخريجين الي أحزاب طائفية لا مكان فيها لثلث السودان، لكن ذلك لا يعني ان حزب الأحرار كان يخطط للتمرد فقد أفلتت الأمور من يده مثلما أفلتت من يد حكومة الأزهرى، وفي عام 1954 عقد الحزب مؤتمره في جوبا وارتفعت أصوات تنادى بالفدرالية ولا زلت أذكر المظاهرات الغوغائية التي انطلقت في الخرطوم ضد الفدرالية بتحريض من جماعة الأزهرى ولا زلت أذكر هتافاتها بالانجليزية نو فدريشن فور ون نيشن، وفي 13 يونيو 1955 التقي سريسيو ايرو برئيس الوزراء وأخطره بأن حزبه ينوى عقد مؤتمره العام بجوبا لمناقشة موضوع الفدرالية وكانت الاجابة بأن الحكومة حكومة انتقالية مهمتها تنفيذ اتفاقية الحكم الذاتي التي تنص علي وحدة السودان ولن تتساهل في ذلك وتتضمن كلام رئيس الوزراء بعض الكلمات التي تحمل معني التهديد والوعيد، وكان ذلك كلمة حق أريد بها الباطل لأنه يعني تحريم الكلام عن الوحدة والانفصال استعدادا لانتخابات الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع الدستور وتقرير مصير السودان ولأن الفدرالية لا تعني الانفصال، ومن المؤسف جدا ان الدستور الدائم لا يزال حلما بعيد المنال بعد ستين عاما من الاستقلال، وكان يتحتم علي الأزهرى السفر الي جوبا ومخاطبة المؤتمر والتفاهم مع حزب الأحرار. اساءة استغلال الخدمة العامة: لم تفعل حكومة الأزهرى شيئا للالتقااء مع الأحزاب الجنوبية في منتصف الطريق وامتصاص التوترات والاحتقان الذى كان ينذر بالانفجار في الجتوب بل كانت تصب الزيت علي النار، وحذر رئس الوزراء في لقائه مع سرسريو ايرو بأن حكومته لن تسمح للموظفين في الجنوب بالعمل في السياسة وان أى موظف يشارك في المؤتمر العام لحزب الأحرار سيفصل من خدمة الحكومة وكان يعلم ان معظم كوادر حزب الأحرار من العاملين بالدولة في الجنوب، لكنه كان يحل لنفسه ما يحرمه علي سرسيو ايرو فقد سبق الترابي وحيرانه في تسييس الخمة العامة، فقد لجأت حكومة الأزهرى الي رجال الادارة الأهلية واستغلتهم في جمع التوقيعات وارسال البرقيات المعارضة للفدرالية وهم موظفون يتقاضون مرتبات من الحكومة، وكانت البرقيات تذاع من راديو أمدرمان وتنشرها الصحف الخرطومية، وكان ذلك صبا للزيت علي النار واستفزازا للمتعلمين من أبناء الجنوب الذين تحتاج الحكومة لثقتهم واحتكارا للاعلام وانتهاكا لقومية المؤسسات الاعلامية، وفي طمبرة جمع مفتش المركز رجال الادارة الأهلية وأرسل باسمهم برقية تأييد للحكومة في موقفها ضد الفدرالية، وأمام لجنة التحقيق اعترف رجال الدارة الأهلية بأنهم تعرضوا للتهديد بايقاف مرتباتهم اذا امتنعوا عن وضع أختامهم علي البرقية، وكانت ولا تزال قوانين الخمة العامة لا توفر للعاملين في الدولة ما يكفي من الحماية من تغولات المؤسسة السياسية، والرأى العام في الشمال والجنوب يقوده المتعلمون وليس رجال الادارة الأهلية، فقد كان من الممكن تفادى الصراع مع حزب الأحرار الذي يمثل الطبقة المستنيرة في الجنوب ومعظمها من خريجي مدارس الارساليات وتفادى تمرد القيادة الجنوبية لكن حكومة الأزهرى كانت تعمل ألف حساب لأدعياء الاسلام علي منابر المساجد وأقل اهتماما بثلث السودان. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.