ربما تباينت الآراء حول الحكمة من الصيام. واولا احب ان انوه الى ضرورة التمييز بين مفردتين: الاولى (الحكمة) والثانية (العلة)... اما العلة في علم الاصول فهي وصف ظاهر منضبط يقوم عليه الحكم وقد يطلق على العلة تعريفات اخرى لكن فرقها المميز عن الحكمة انها وصف ظاهر منضبط. اما الحكمة فلكل فقيه ان يؤول الحكم ليستنبط منه الحكمة ولا يؤثر ذلك على الحكم وجودا وعدما ولا على المشتركات الاخرى ؛ ومثال العلة الا يكون المال دولة بين الاغنياء فهذه علة (منصوصة) لحكم توزيع الفيء والباعث على التشريع. اما الحكمة فهي وصف غير ظاهر وغير منضبط. فجواز الافطار للمسافر علته السفر .. فمتى ما سافر المرء جاز له الافطار حتى ولو لم يكن سفره شاقا.. اما المشقة في السفر فهي قد تكون حكمة التشريع لكن لا يتوقف عليها الحكم وجودا وعدما فهي ليست مناطا للحكم. ولذلك عندما يتحدث الكثيرون حول الحكمة من الصيام ، يختلفون في التأويل ؛ والسائد ان الصيام حكمته الشعور بالفقراء ، ومع ذلك فالفقر نفسه ليس مبيحا للافطار كالمرض مثلا. بل قد يكون الفقير اكثر قدرة على الصيام من الغني لأن الفقير اعتاد على الجوع والتقشف خلافا للغني. ولذلك فالشعور بالفقراء لا يصلح كحكمة للصيام. والحكمة من الصيام اولا وأخيرا من علم الله ، وما البحث عنها الا اجتهاد بشري ، لا يلزم بشيء ، وكما قلنا فالحكمة ليست مناطا للحكم الشرعي ولا ضرر من التأويل المختلف استكناها لها. وما اراه ان الحكمة من الصيام تعرف من خلال ما درج عليه العباد والزهاد والنساك منذ الازل ، وفي اغلب الاديان والمعتقدات ، فهناك صوم في البوذية والهندوسية والجينية والمسيحية وخلافه. وان تباينت متطلبات ومضامين هذا الصيام. والصوم عامة هو ملجأ المتصوفة ، لأن هناك اعتقاد لديهم بأن الصيام يؤدي الى خفة الجسد وتخففه من الحوايا ، فبالصيام يقترب الصائم من خفة المخلوقات الروحانية الرشيقة كالجن والملائكة ، وهو ان لم يبلغ كامل خفتها محتفظا بمكونه المادي من الجسد الا انه يبلغ منطقة وسطى بين الروح الخالص والجسد الخالص ، فيسمو عن المادة وعالم الشهادة ليتلمس العالم النوراني ؛ اي عالم الغيب. والصيام هو مخ الرياضة الروحية عند المتصوفة في جميع الاديان والمعتقدات ، ولدى اؤلئك رؤية لا يراها الا هم ومفاهيم لا يفهمها الا من سلك مسالكهم ، ولا يحتويها عقل من لم يعتد على التفكير بذات الجبلة. فلا يمكن لعبدة المادة ان يفهموا خطابات الروح اللا متجسدة ، فلا هذا سيستطيع شرحها ولا ذاك سيستطيع تخيلها. فهما كالسماء والأرض. والنار والماء ، والموت والحياة. ان هذه الرؤية لحكمة الصيام قابلتني في كتب عدة تعلقت بالتصوف تارة والسحر تارة أخرى ، ولكنها اجتمعت فاجمعت على ان الصيام هو تخفف الجسد لانكشاف الغطاء عن البصر واسموها بالرياضة الروحية ، وهي رؤية ادهشتني كثيرا ، ووجدت فيها حكمة مثيرة للانتباه ومن الضروري دراستها بعمق اكبر. ربما كثير ممن يمارسون الصيام كأحد الشعائر في اديانهم ومعتقداتهم لا يعلمون الحكمة العميقة من الصوم ، لكنهم يؤدونه كالتزام وواجب فرض ، لذلك فنادرا ما يتوصلوا به الى ما يتوصل اليه العارفون باسراره والمنجذبون اشتياقا الى انكشاف المشاهد عبره. وهذه مفاهيم رأيناها لدى اهم شخصيتين صوفيتين في التاريخ الاسلامي وهما الحلاج وابن عربي ، وفي اديان اخرى كبوذا في البوذية . وعدم فهمي انا شخصيا لهذه الحكمة التي يقولون بها لا يعني نفيها كحقيقة ، فما اقوله دائما هو ان لكل انسان حقيقته الخاصة ، تلك التي يؤسس عليها سكونه او نشاطه المادي والذهني . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.