شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    مناوي: أهل دارفور يستعدون لتحرير الإقليم بأكمله وليس الفاشر فقط    آمال ليفربول في اللقب تتضاءل عند محطة وست هام    شاهد بالفيديو.. في أول حفل لها بعد عقد قرانها.. الفنانة مروة الدولية تغني لزوجها الضابط وتتغزل فيه: (منو ما بنجأ ضابط شايل الطبنجة)    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    محمد وداعة يكتب: المسيرات .. حرب دعائية    مقتل البلوغر العراقية الشهيرة أم فهد    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    هل فشل مشروع السوباط..!؟    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السفر والفضول والتفاحة .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 16 - 09 - 2018

هذا هو موسم انتهاء الإجازات الصيفية وعودة الناس من أسفارهم وفك حقائبهم ومراجعة حساباتهم وضرب أخماسهم في أسداسهم بُغية الاستقرار استعداداً لبداية عام دراسي جديد لأبنائهم وبناتهم. وبصرف النظر عن ما تحمله حقائبهم وأمتعتهم بكل ما هو جديد، فالأسفار في حد ذاتها تحمل في طياتها فوائد كثيرة أخص منها الآن شيئاً واحداً اسمه الفضول. وكما تعلمون فإن الفضول هو المحرك الرئيسي لرغباتنا في معرفة الأشياء ومن ثم الحياة. فخلال سفرك يتيح لك الفضول اكتشاف أماكن جديدة لم تكن تعرفها من قبل وكذلك الالتقاء بشخصيات مختلفة لم ترها أو لم تعهدها فيما سبق إضافة لكونه يساعدك في اكتشاف ذاتك.. ومتى ما اكتشفت ذاتك زاد تقديرك لذاتك وثقتك في نفسك للحد الذي يجعل انطلاقك نحو ما تريده من تميز ونجاح في أعمالك وأهدافك أمراً سهلاً. وعليه فالفضول صفة محورية هامة في شخصية الإنسان وهي القوة الرئيسية الدافعة لإجراء البحوث العلمية والإكتشافات والتعمق في شتى الأمور وهي تنمو أكثر لدى محبي السفر. هذا الفضول الذي أصف هو فضول علمي محمود ومشروع وهو نفس نوع الفضول الذي حمل العالم "نيوتن" على اكتشاف قانون الجاذبية عندما وقعت تفاحة من فوق الشجرة على رأسه. لكن هناك فضول من نوع آخر يستوجب العقاب على غرار قضية ابونا آدم وأُمنا حواء عندما أكلا التفاحة الممنوعة وبسببها خرجا من الجنة. ويبدو أن هنالك ثمة علاقة بين الفضول والتفاحة. وهناك فضول مذموم وهو اقتحام خصوصيات الآخرين والتدخل المباشر فيما لا يعنيهم وللأسف ظاهرياَ فهذا النوع هو السائد حيث يتكرر في كل لحظة لدرجة أنه أصبح سمة ملازمة، أو متلازمة، لبعض الأشخاص بحكم طبيعتهم البشرية وبعض فئات المجتمع بحكم طبيعة مهنهم.
قد تلاحظون أن بعض الذين نصادفهم من الحلاقين وسائقي سيارات الأجرة (التاكسي) في معظم الدول العربية والإسلامية يتدخلون فيما لا يعنيهم ويلوذون بالصمت فيما يعنيهم، أي حشريون أو قل فضوليون مع زبائنهم، رغم أن تعاليم الإسلام تنهى عن هذه السلوكيات المشينة والممارسات المؤذية لأنها انتهاك للحريات وتعدٍ على الخصوصيات. ربما تكون هناك قواسم مشتركة بين ثلاثتهم – الحلاقون والسائقون والفضول.. فيا ترى ما هي هذه القواسم المشتركة؟ بالنسبة لفئة الحلاقين، فمثلاً الحلاق حقل عمله ومحور اهتمامه هو رأس الإنسان ولذلك يكون قريباً جداً من عقل الزبون وما يدور فيه أثناء أداء عمله.. وقد تكون هناك موجات تردد وذبذبات كهرومغناطيسية منبعثة من مخ الزبون إلى مخ الحلاق فتولد عند الحلاق رغبة وجاذبية لمعرفة ما يدور في الرأس الذي تحت قبضته وتصرفه - علماً أن وقت الحلاقة هو أنسب الأوقات للتفكير العميق - وقديماً قال لي أحد الأصدقاء: "إن أحسن مكان لمحاولة الغناء واختبار صوتك هو الحمام أكرمكم الله وأفضل مكان للتفكير هو عندما تكون جالساً مسترخياً عند الحلاق". وبهذه المناسبة قد يتذكر البعض منكم أو سمع عن الشخصية الفكاهية حلاق جامعة الخرطوم المعروف "حموده" الذي كان يوماً ما يحلق لطالب أصلع له شعيرات معدودة على جانبي رأسه مثله مثل عمك "تنقو" تماماً (وبالمناسبة هناك فرق بين الأصلع والأقرع). ولذلك انتهى من قص شعرتيه في أقل من دقيقة وقال له: نعيماً.. وعندما احتج الطالب على "كلفتته" بهذه السرعة رد عليه عمك حموده: " إنت أصلك خالي ذهن"، ثم واصل عمله في حلاقة الزبون التالي تاركاً هذا الطالب المسكين في حيرة من رده هذا. ربما أصاب عمك حموده أو اختلط عليه الأمر بين الذهن والشعر أو قد تدخل فيما لا يعنيه. أما عم "بشتنه"، حلاقنا في مدرسة وادي سيدنا الثانوية، فقد كان يعرف كل صغيرة وكبيرة بل أدق التفاصيل عن أي طالب حلق عنده. وكان يُعتبر موسوعة أو حاسوباً في هذا الشأن.. كان لديه حب استطلاع أكثر من ذلك الذي قتل قطة "شرودنغر".. فقد كان يسألنا كم نمرة تحصلت في امتحان الحساب؟ وكم من المصاريف ترسل لك شهرياً؟ وكم عدد أفراد أسرتك؟ وماذا يعمل والدك؟ وهكذا...كان لسانه يتحرك طوال جلسة الحلاقة أكثر من تحرك المقص الذي بين أصابعه في الفاضي والمليان لدرجة أن كثيراً من الطلاب كانوا ينفرون منه ويحلقون في سوق أم درمان بأضعاف سعر عم بشتنه الذي كان محدداً للطلاب بخمسة قروش فقط آنذاك.
أما بالنسبة لفئة السائقين، فالسائق مكان عمله هو دفة القيادة في السيارة وبالتالي فهو يتقمص شخصية القائد للركاب أو الراكب. بل ويزيّن بعضهم سياراتهم بجملة شائعة أصبحت مثل الحكمة أو القول المأثور – "دع القيادة لنا ... واستمتع بالرحلة". وبهذه الصفة القيادية المؤقتة التي دانت له يعطى الحق لنفسه في أن يعرف كل شيء عن الراكب. ولذلك تكثر أسئلته وفضوله خاصة إذا كان المشوار طويلاً. هذا الفضول بالإضافة إلى أنه صفة غير محمودة فهو أيضاً في كثير من الأحيان يعرض حياة مستخدمي الطرق والركاب للخطر لانشغال السائق في استنباط المعلومات من الراكب لإرضاء فضوله.. دون اكتراث بما كتبه – "ممنوع التحدث مع السائق أثناء القيادة"، وبالتالي عدم انتباهه التام أثناء القيادة مثله مثل خطورة استعمال السائق للهاتف الجوال أثناء أداءه لعمله- و بمناسبة الحوادث أحكى لكم قصة مضحكة بطلها سائق فضولى.. قد تلاحظون عندما يقع حادث سير في أي مكان سرعان ما تتجمهر فئة من الفضوليين حول مكان الحادث لدرجة تعوق حركة رجال الإسعاف ورجال الشرطة ومنهم من يلتقطون الصور الفوتوغرافية للتداول. وفي حادث سير مماثل إذ بسائق معروف بفضوله يترجل من سيارته ويقتحم جمهور الفضوليين منزعجاً و متظاهراً بالحزن والبكاء وصرخ فيهم قائلاً: "هذا الضحية من أقاربي".. ولذلك أفسحوا له الطريق تعاطفاً معه. وعندما وصل إلى مقربة من الضحية وجد أن الضحية حمار أعزكم الله.
ولا بأس من أن أنقل إليكم بعض الأمثلة الحية التي حصلت لي أثناء سفري الشهر الماضي وكان أبطالها من فئة السائقين. في تركيا وتحديداً في مدينة إسطنبول سألني سائق التاكسي الذي أقلني من مطار أتاتورك إلى الفندق في ميدان تقسيم المعروف: "لماذا اخترت هذا الفندق؟" وما كنت حريصاً على إجابة مثل هذا السؤال الفضولي لكنه أيضاً، ولحُسن الحظ، لم يدع لي مجالاً للإجابة على سؤاله بل واصل مسترسلاً في الشرح قائلاً: "أن معظم السودانيين يفضلون الإقامة في هذا الفندق بالتحديد لقربه من الميدان الذي تدور فيه فعاليات كثيرة في حين لو أقمت في فنادق على بعد 2 أو 3 كيلو فقط من هذا الميدان ستجد أن أسعار الفنادق أقل بكثير من هذا الفندق الذي اخترت وتكون بذلك وفرت بعضاً من مالك مقابل مشوار قريب يُمكن قطعه سيراً على الأقدام." فهمت رسالته.. فهو بطريقة غير مباشرة يود أن يلصق تهمة الكسل وحب الراحة لدى السودانيين عموماً.. للأسف أصبحت هذه الصفة غير الحميدة سمعة شائعة تلاحق السودانيين أينما حلوا خاصة للذين يعملون في دول الخليج رغم الصفات الجميلة الأخرى التي يتمتعون بها حتى في أداء أعمالهم هناك مما جعلهم محبوبين أكثر من غيرهم من الجنسيات العاملة في دول الخليج. المهم.. بعد أن أكمل السائق شرحه ونصيحته لم أجبه على سؤاله التطفلي ذلك لكن بالمقابل سألته سؤالاً مشروعاً في صميم اختصاصه وهو: "لماذا تريدني أن أسدد لك الأجرة بالدولار أو اليورو بدلاً من عملتك الليرة التركية؟" لزم الصمت ولم يجب على سؤالي و"عمل نايم" ثم توارى من أمامي. لقد قلت لكم أنهم يتدخلون فيما لا يعنيهم ويلزمون الصمت فيما يعنيهم. وبهذه المناسبة ولحال تركيا الآن أود أن أوضح أن الشعوب نفسها متورطة في تدهور عملاتها وبالتالي تدهور اقتصادياتها.. فهذا السائق يفضل في تعاملاته المالية أن يتقاضى أجره بالعملات الصعبة أياً كانت دولار أو يورو وبالتالي يقل الطلب على الليرة التركية ويزيد من عدم الثقة في العملة الوطنية فيسهم بذلك في مزيد من التدهور لعملة بلده. هذا واحد من ملايين السائقين الذين يمارسون الطريقة نفسها فيزيدون الطين بلة. ومثال حي آخر.. كنت أتجول في أسواق إسطنبول وتحديداً في السوق المصري ودخلت متجراً للعطور الزيتية. وبعد أن اخترت ما أريد، وعرف التاجر أنى سائح، سألني: "هل تريد أن تسدد فاتورتك بالدولار أم الليرة التركية؟" أجبته: "سوف أسدد بالليرة التركية".. فهمس في أذني: "إذا سددت بالدولار فسوف أعطيك سعر للدولار أكثر من سعر السوق الحالي فتستفيد أكثر"- وكان سعر الدولار في السوق الموازي حينها يساوى 4.6 ليرة تركية - وفعلاً حاسبني الدولار الواحد بخمسة ليرات تركية الشيء الذي أغراني في أن أسدد فاتورته بالدولار الأمريكي، كما أراد، رغم توفر الليرة التركية معي. هذا تاجر واحد من ملايين التجار الذين يفضلون التعامل بالدولار الأمريكي في تركيا وهكذا يزيد الطلب على الدولار الأمريكي فيرتفع سعره ويقل الطلب على الليرة التركية فينخفض سعرها وكلما قلت الثقة في الليرة التركية كلما زادت سرعة التدهور مثلما يصير الآن في تركيا فقد انخفضت قيمة عملتها أكثر من 40% في الفترة القصيرة الماضية. بالطبع هناك عوامل خارجية قوية لتدهور العملة في تركيا أو في أي بلد آخر لكن رد الفعل الطبيعي الداخلي من تجار وغيرهم يعتبر من أكبر العوامل المساعدة في مزيد من التدهور في العملة وبالتالي الاقتصاد ككل.
أعود إلى موضوع فضول السائقين.. في مصر وتحديداً في القاهرة التي زرتها مؤخراً. فبعد أن تناولت وجبة الغداء في مطعم "قدورة"، وهو مطعم إسكندراني مشهور بوجبات السمك الشهية، خرجت من المطعم إلى الشارع، أحمل في يدي "عود أسنان"، أنتظر المواصلات راجعاً إلى الفندق. وسرعان ما وقف عندي سائق تاكسي، وقبل أن أتفق معه على المشوار والوجهة والأجرة، سألني والدهشة بادية في تقاطيع وجهه: "هل أكلت في هذا المطعم؟" وكأنني ارتكبت جريمة كبرى لا تغتفر.. ولما أدركت أن سؤاله ينمُّ على أن من يتناول وجبة في هذا المطعم لمن الأغنياء أو القطط السمان عرفت نواياهُ الخفية تجاهي ورأساً أجبته بالنفي القاطع إلا أنه كان سريع البديهة كعادة كل المصريين فرد على فوراً ويتملكه الغيظ: "أمال بتسلّك أسنانك ليه؟" بالله هل هناك فضول أكثر من ذلك !! يريد أن يعرف أين ولماذا وماذا أكلت.. ليصنفني في أي من فئات المجتمع لغرض في نفس يعقوب.
لكن بالتجارب الكثيرة اكتشفت بعض الطرق للتخلص من ثرثرة سائقي التاكسي.. منها أن أضع سماعة الهاتف المحمول على الأذنين أو أن انشغل بكتاب أو صحيفة أو أن أظهر له النعاس أو كما يقولون طنش تنتعش.
بالمقابل إذا كنت في لندن أو دول أوربا الغربية أو حتى الشرقية فستلاحظ أن سائق سيارة الأجرة بطبعه لا يتحدث مع الراكب حتى لو كانت هناك لغة تخاطب مشتركة وهذه من أدبيات المهنة. كما أنه يتعامل بجهاز العداد لحساب الأجرة ذاتياً تفادياً للتحدث مع الراكب ولمسائل أمنية أيضاً. وإذا دعته الضرورة للتحدث مع الراكب لموضوع يتعلق بالمشوار فقط فهو يتحدث معه من وراء حجاب.. فكما تعلمون هناك حاجز زجاجي أمني في التاكسي بين كرسي القيادة وكابينة الركاب في منتصفه طاقة أو شباك صغير للتحدث مع الراكب إذا دعت الضرورة.
الفضول سلاح ذو حدين إيجابي وسلبي. فالفضول وحده كان مبعث الرحلات الاستكشافية للفضاء والمغامرات الناجحة لرجال الفضاء (مثل يورى قاقارين، نيل أرمسترونق، وأنوشة أنصاري والأمير سلطان بن سلمان) للوصول إلى القمر وكوكب المريخ لمعرفة إمكانية وجود حياة مستقبلاً على سطح هذه الكواكب. وكذلك الحال بالنسبة لكثير من الرحالة (منهم إبن بطوطة وماجلان وكرستوفر كولمبس وفاسكو دى جاما) الذين إكتشفوا العالم لفضولهم وبترحالهم وأسفارهم . وذات الفضول أدى إلى مصرع المخرج السينمائي المصري محمد رمضان وثلاثة من رفاقه الشبان فى عام 2014 بينما كانوا في رحلتهم الاستكشافية إلى جبال "سانت كاترين" في جنوب سيناء بعد أن تجمدوا بسبب العاصفة الثلجية والانخفاض المفاجئ الشديد في حرارة الجو قبل وصولهم إلى قمة الجبل واستكشافه.
أعود إلى موضوع السفر، فخلال شهر أغسطس الماضي زرت عدداً من المدن في تركيا لأول مرة في رحلة سياحية مع الأسرة؛ زوجتي وبناتي وأزواجهن والأحفاد. وبعد العودة من تركيا وفي إجازة عيد الأضحى المبارك قمت بزيارة خاصة للقاهرة التي لم أزرها منذ الستينيات من القرن الماضي. وسوف أنقل لكم لمحات من تلك الزيارات لكل من مدن تركيا التي زرتها والقاهرة. بالطبع ليست هي مقارنة بقدر ما هي انطباعات عن بعض مشاهداتي في البلدين في فترات قصيرة قضيتها هناك.
في البداية زرت تركيا وهي تعد بلداً سياحياً من الدرجة الأولى وحسب تجربتي فهي من أكثر الدول التي يؤمها السُيَّاح من كل أرجاء العالم. مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول الذي يقع في الشطر الأوربي في قائمة المطارات الأكثر ازدحاماً في أوربا حيث يستقبل أكثر من 70 مليون راكباً في العام. أما مطار"صبيحة كوجن" فهو يقع في الشطر الآسيوي من إسطنبول ويستعمل أكثر في الرحلات الداخلية علماً أن هناك مطار ثالث يقع في الشطر الأوربي من إسطنبول تحت الإنشاء بل أوشك على الانتهاء ليقدم خدماته ل 90 مليون مسافراً في المرحلة الأولى ليصل 200 مليون مسافراً في المرحلة الثالثة.. أما مطار أتاتورك الحالي، فحسب أوامر الرئيس أردوغان، فسوف يتم تحويله إلى حديقة خضراء عامة عقب إفتاح مطار إسطنبول الثالث في 29 أكتوبر القادم بالتزامن مع العيد الوطني لتركيا - علماً بأن أرض مطار الخرطوم الحالي بيعت إلى رجال حكومة الإنقاذ خلسةً كما نسمع - تهتم تركيا بمطاراتها وخدماتها، فأكثر الدول السياحية تعتبر المطارات من نقاط جذب السُيَّاح إليها ولذلك اهتمت تركيا بمطاراتها وتصميمها الانسيابي وتوفير الخدمات السريعة للمسافرين. كما تتعدد وسائل المواصلات من وإلى المطار من مترو وحافلات وقوارب وسيارات التاكسي. هذه الحقائق والخدمات السريعة لمستها في كل من المطارين رغم الزحام الحاصل فيهما فأعطتني انطباعاً إيجابياً عن تركيا منذ الوهلة الأولى.. فالمطارات دائماً تمثل واجهة البلد المقصود.
إسطنبول مدينة جميلة وتعد من أكبر المدن في أوربا، فيها مستوىً عالٍ من النظام والنظافة وحضور أجهزة الدولة على أرض الواقع. هي ليست مدينة مسطحة كبقية المدن في العالم، فتضاريسها مختلفة حيث أن المنازل والعمارات مبنية على ارتفاعات مختلفة لأن الأرض غير مسطحة فتعطيك انطباعاً ومنظراً مختلفاً عن المألوف كما تلبى رغبات هواة رياضة المشي والصعود. الشوارع فسيحة ومسفلتة ومنظمة بإشارات المرور المختلفة والأسواق مقسمة في المناطق وتجد المطاعم المختلفة في كل مكان. مضيق البوسفور يقسم مدينة إسطنبول إلى قسمين الجزء الأوربي والجزء الآسيوي وتربط بين الجزءين ثلاثة جسور ضخمة معلقة كما أن مدينة إسطنبول بها آلاف من الجسور والأنفاق الطويلة بتصاميم معمارية وهندسية جميلة تسهل انسياب حركة المرور في كل الأوقات. تركيا بلدٌ اقتصاده حر يتعامل بكل عملات العالم بدون تحديد. فيمكن أن تسحب العملات الأجنبية من دولار وإسترليني ويورو... إلخ من مكنات الصراف الآلي المنتشرة بدون قيود. وتعتبر اللغة الإنجليزية والعربية الأكثر تداولاً بعد اللغة التركية. عموماً هناك شتى أنواع السياحة في تركيا منها السياحة التاريخية والسياحة البحرية والسياحة الدينية وسياحة بيئية وطبيعية والسياحة العلاجية والسياحة الرياضية... الخ. وللحقيقة فقد أدركت أن هناك مقومات بشرية وعقول مميزة في تركيا استطاعت أن تطوع الإمكانات من أجل بناء دولة فريدة تمتاز بالرقى السياحي. فقد زرت في إسطنبول مسجد أياصوفيا (مكان الحكمة المقدسة) المشهور في منطقة السلطان أحمد ويعتبر صرحاً فنياً ومعمارياً فريداً من نوعه حيث تحول المبنى من كاتدرائية إلى مسجد ثم إلى متحف عام 1934 كما يقع بجانبه مسجد السلطان أحمد الذي بنى في عام 1616 وهو مسجد تاريخي يعرف شعبياً باسم المسجد الأزرق نسبة إلى البلاط الأزرق الذي يزين جدرانه وأصبح نقطة جذب سياحية شهيرة.. وحقيقة منطقة السلطان أحمد كلها منطقة سياحية وربما هي أفضل مكان لمشاهدة أغلب الأماكن السياحية في المدينة وأقدمها في منطقة السلطان أحمد. ففيها الكنائس والمساجد القديمة والمتاحف والحدائق والمطاعم والسوق المصري والميناء والسوق المغلق وقصر توبكابى. أما أماكن الترفيه والمطاعم فهي كثيرة جداً. وهناك مطاعم مشهورة للسُيَّاح فقد تناولنا وجبة عشاء فاخرة في أحد المطاعم المشهورة في تركيا وهو "مطعم نُصرت" في إسطنبول، بتوصية من زميل مجرب، وهذا المطعم له فروع كثيرة داخل تركيا وخارجها. عموماً هناك أماكن سياحية كثيرة في مدينة إسطنبول أذكر منها على سبيل المثال جزر الأميرات وبورصة ومسجد الفاتح والبازار الكبير وحديقة الفراشات والكثير المثير. ولا داعي لأدخل في تفاصيل ذلك فمن السهولة بمكان أن تعرف الأماكن السياحية في تركيا وتصلها، فوكالات السياحة كثيرة ومنتشرة في كل ركن من مدن تركيا ولديهم كل البرامج والمعالم وحتى الأسعار مكتوبة بكل تفاصيلها يوزعونها في الطرقات والأماكن العامة فضلاً عن وجودها بمكاتبهم وأيضاً في كل الفنادق والمجمعات والأسواق.
وقبل أن نغادر مطار أتاتورك في إسطنبول وأثناء وقوفنا في صفوف الجوازات رأيت عدداً من الأشخاص رجالاً ونساءً من مختلف الجنسيات يقفون أمامي وخلفي وعلى اليمين والشمال في الصف، بعضهم يضعون ضمادات (لصقات طبية) على أنوفهم وبعضهم يضعونها على أفواههم والبعض الآخر أجزاء من رؤوسهم محلوقة جزئياً ومجروحة ونازفة. فاحترت لهذا المنظر الدامي وكأننا نقف في قسم الطوارئ بالمستشفى وليس في صالة المطار. وبينما أنا في حيرة من أمر هؤلاء القوم الجرحى نبهتني ابنتي بأنهم جميعاً قد خضعوا لعمليات جراحية لتجميل الأنف أو نفخ الشفاه أو عمليات شد الجلد والبطن ومنهم من أجروا عمليات زراعة الشعر. وهذه من ضمن السياحة العلاجية التي راجت مؤخراً في تركيا باعتبار أن التكلفة معقولة نسبياً.
زرت مدينة أنطاليا عروس الساحل التركي التي تقع على شاطئ البحر المتوسط وهي مدينة جميلة من ناحية الطبيعة والجو والاستمتاع بشواطئ البحر المتوسط وفنادقها ومنتجعاتها. كما زرت مدينة بودروم (المعروفة بلؤلؤة تركيا) الساحلية التي تقع على بحر إيجة وتتميز هذه المدينة بالبحر واليخوت والرحلات البحرية والألعاب المائية وببيوتها البيضاء المحفورة داخل الجبال الخضراء الخلابة لدرجة أن حفيدتي الصغيرة "أليسا" طلبت من حبوبتها أن تمتلك بيتاً من تلك البيوت التي فوق الجبال الخضراء – وبالمناسبة الأحفاد عندهم اعتقاد لا يساوره شك أن الحبوبات هم الأغنياء - بودروم لها سحر خاص ويقال عنها أيضاً مدينة الأحلام.
بعد تركيا زرت القاهرة وهي بلا شك مدينة عريقة لا تقل عن إسطنبول في عراقتها وحجمها وتاريخها. تعداد سكان مصر الآن تجاوز 104 مليون نسمة منهم حوالي 10 مليون يعيشون في مدينة القاهرة وأكثر من 20 مليون يعيشون فى القاهرة الكبرى بينما سكان تركيا يزيد عن 82 مليون نسمة وأكثر من 15 مليون يعيشون في مدينة إسطنبول. ولما كانت زيارتي لغرض معين وفترة محددة بإجازة العيد لم تتح لي الفرصة للسياحة والتجوال أو حتى معاودة زيارة المعالم الرئيسية التي زرناها من قبل منذ سنوات طويلة مضت إلا أن مصر هي مصر... الحضارة والنيل والعلماء والكتاب والممثلون والشعب المرح وهي "أم الدنيا". ما لاحظته في هذه الزيارة مساحة مطار القاهرة الجديد وتصميمه الحديث المواكب للمطارات الكبيرة وسرعة الإجراءات فيه أكثر من ذي قبل حتى الطريق المؤدى من المطار إلى قلب المدينة لم يأخذ وقتاً طويلاً كما عهدناه فى سابق الزيارات.. ربما لبناء الجسور والشوارع الجديدة التي أدت إلى انسياب حركة المرور. كزائر لاحظت أن هناك طفرة معمارية في البلاد فهناك امتدادات جديدة للقاهرة كلها بنايات زجاجية شاهقة وحديثة وفلل فاخرة ومجمعات سكنية حديثة وأسواق مقفولة ودور سينما حديثة وأماكن ترفيه وألعاب للأطفال. إجمالاَ شعرت بأن هناك مال يصرف في البذخ والفسح والشراء والمتعة والسفر إلى الأماكن السياحية مثل الغردقة والعريش وشرم الشيخ والإسكندرية رغم تضاعف إيجارات الشقق والشاليهات وأسعار الفنادق فيها. ورغم هذا الصرف البذخي الذي لاحظته في جهة إلا أن معظم الذين قابلتهم وجهاً لوجه من عامة الشعب في الشارع وفي التاكسي والمتاجر يشكون مر الشكوى من الغلاء ويتذمرون من سياسة التقشف المعلنة ونية الحكومة إدخال ضرائب جديدة. رؤيتي المتواضعة أن هناك في مصر الآن ثلاث طبقات؛ طبقة غنية جداً وهي الطبقة الرأسمالية. وهذه الطبقة هي التي تملك المال وتصرف مثل من لا يخشى الفقر. وهناك طبقة فقيرة جداً تشكو الفاقة في الشوارع والطرقات لكنهم لم ولن يموتوا جوعاً. ثم هناك الطبقة المتوسطة وهم عامة الشعب الذين يعملون في الدواوين الحكومية وموظفو وعمال الشركات والبنوك والبياعون وإجمالاً هي الطبقة الكادحة التي تعمل طوال اليوم لتأمين لقمة العيش. في مصر زادت الأسعار في كل شيء منذ تحرير سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري لكن من المحاسن أن سعر الدولار ما يزال ثابتاً لفترة طويلة كما أن الجنيه المصري ما تزال له قيمه عندما تشترى خبزاَ. الشارع أصبح فيه انضباط وأمن وعدد السُيَّاح من الخارج والداخل في ازدياد كما لاحظته في نسبة إشغال الفنادق وحركة الطيران و زحام المزارات. عموماً مصر ما تزال تحتفظ بسحرها ورونقها وجمالها ولياليها ونيلها الراقص وشعبيتها وسهولتها. وهذا السحر هو الذي يجذب الناس إلى زيارتها أكثر من مرة. وقد رأيت أعداداً كبيرة من السودانيين في الشارع وفي كل منطقة من مناطق القاهرة قادتني الضرورة إلى زيارتها. منهم من قدم للعلاج، وهم أكثرية، ومنهم من هاجر إليها لتعليم الأبناء ومنهم من امتلك العقارات للاستثمار ومنهم من يستثمر في تجارة ومنهم من يحتفظ بماله وبثروته فيها ومنهم من هرب ليبحث عن متنفس بعيداً عن مضايقات السودان الكثيرة سواء من الدولة أو الطبيعة أو البنوك أو نقص الخدمات الأساسية.
قد تلاحظون أن السفر والفضول والتفاحة بينها علاقة قديمة قِدم أبونا آدم وأمنا حواء فأكثروا من الأسفار لإكتشاف مآثر العالم وكنوزه وجواهره الكامنة والأهم من ذلك إكتشاف الذات... اللهم هوّن علينا سفرنا فأنت الصاحب في السفر وأحفظنا في حلنا وترحالنا فأنت الحفيظ المقتدر.
شوقى محى الدين أبوالريش
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.