مفاجأة.. أرض الصومال    البرهان: لن نقبل هدنة ما دام الدعم السريع في شبر واحد من السودان    معتصم جعفر يعقد جلسة مع المدرب وقادة المنتخب ويشدد على ضرورة تحقيق الانتصار    رونالدو بنشوة الانتصار: المشوار لا يزال طويلًا.. ولا أحد يحسم الدوري في منتصف الموسم    انطلاقًا من الأراضي الإثيوبية..الجيش السوداني يتحسّب لهجوم    الصادق الرزيقي يكتب: البرهان وحديث انقرة    الأهلي مروي يستعين بجبل البركل وعقد الفرقة يكتمل اليوم    عبدالصمد : الفريق جاهز ونراهن على جماهيرنا    المريخ بورتسودان يكسب النيل سنجة ويرتقي للوصافة.. والقوز أبوحمد والمريخ أم روابة "حبايب"    الوطن بين احداثيات عركي (بخاف) و(اضحكي)    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    شاهد بالفيديو.. (ما تمشي.. يشيلوا المدرسين كلهم ويخلوك انت بس) طلاب بمدرسة إبتدائية بالسودان يرفضون مغادرة معلمهم بعد أن قامت الوزارة بنقله ويتمسكون به في مشهد مؤثر    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الخرطوم وأنقرة: من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    الإعيسر يؤكد الدور الفاعل والاصيل للاعلام الوطني في تشكيل الوعي الجمعي وحماية الوطن    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إطلالة على إسحق القاسم شداد وكتابه: "مشوار حياة" .. بقلم: بروفيسور / مهدي أمين التوم
نشر في سودانيل يوم 28 - 10 - 2018


بسم الله الرحمن الرحيم
عندما جلست لقراءة سِفْر الأستاذ إسحق القاسم شدّاد الموسوم ب (( مشوار حياة )) والصادر عن شركة مطابع السودان للعملة عام 2018 م في طبعة انيقة من 345 صفحة ، إستحضرت ذهنياً صوراً متداولة عن جيله ، جيل الستينيات الميلادية ، الذي إستكثرعليه البعض إحداثه لثورة أكتوبر الشعبية المجيدة ، كما إستكثروا عليه طغيانه على المشهد الثقافي السوداني عبر غابات وصحراء ، وتحت مظلة تجمعات ثقافية تركت بصمات لا تنكر في المجتمع السوداني منذ ذلك الحين وحتي يوم الناس هذا . لكن سياحتي المتأنية عبر صفحات الكتاب جعلتني أتساءل بصدقٍ هل نحن أمام مشوار حياة لواحد فاعل من ذلك الجيل ، أم نحن أمام سِجِلٍ حقيقي عن إرتباك ذلك الجيل الذي كان من المفترض أن يتسلم الراية من آباء الإستقلال المؤسسين لينطلق بالبلاد نحو آفاق المستقبل ولكنه لم يفعل فضاع الوطن ، أو كاد ، بين أطماع العسكريين و مماحكات المثقفين وعبث السياسيين .
لقد كتب إسحق مشوار حياته بصدقِ و أمانة ، و بتفاصيل تنم عن ذاكرة قوية ، وعن إعتماد على وثائق شخصية وعامة زادت من مصداقية روايات الكاتب و إستشهاداته . و تنوعت سياحته بين الخاص والعام في مراحل العمر المختلفة من الطفولة وحتى الكهولة و الشيخوخة . وليس من غرض هذه الإطلالة إعطاء ملخص للكتاب ، بل هى مجرد إشارات لقليل مما ورد في الكتاب بتفاصيل مذهلة و متعددة الجوانب ولذلك فهى لا تغني عن قراءة الكتاب بكامله .
لقد تعاصرنا في جامعة الخرطوم في النصف الاول من ستينيات القرن العشرين و لهذا فإن معظم ما ذكر من أحداث و شخصيات متعلقة بجامعة الخرطوم في ذلك الحين معروف لديّ و أثار في نفسي الكثير من الذكريات ، اللهم إلا ما يتعلق بكواليس عمل إتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي كان المؤلف نشطاً فيه ولكنني لم أك مهتماً بالعمل في مؤسساته ، غير أني ، كمعظم طلاب تلك الفترة ، لم أتقاعس عن المشاركة الجادة في كل نشاطاته الميدانية من إضرابات و إعتصامات و مظاهرات مطلبية و سياسية ، بما في ذلك ندوة الجنوب المشهورة وما أدت إليه من صدامات و إغتيالات ألهبت الشارع و أدت إلى إندلاع تورة أكتوبر المجيدة .
من أهم النقاط التي أبرزها الكاتب عن فترة الجامعة ، حديثه عن إتحاد الطلاب من حيث قوته و قوميته و تنظيمه و إلتفاف الطلاب حوله بقوة ، بالإضافة إلى نظرة المجتمع الإيجابية عن الإتحاد و عن موقعه في الساحة النضالية ضد الدكتاتورية العسكرية . و كان الإتحاد عندئذٍ يمارس نشاطاته في جامعة ذات حرم مقّدس لا تستطيع الأجهزة الأمنية تدنيسه بأقدامها ، عكس ما يحدث حالياً تحت حكم الإنقاذ التي جعلت للشرطة تواجداً دائماً في مداخل الجامعة وكافة نواحيها . كذلك يتضخ من سرد الوقائع المتعلقة بإتحاد طلاب جامعة الخرطوم ، أن نظام التمثيل النسبي ، الذي ظل يلتزمه الإتحاد منذ تأسيسه ، هو سر قوة الإتحاد و لغز تماسك كل شرائح الطلاب به و إلتزامهم الصارم بتنفيذ قراراته بقوة و صمود مهما كانت التضحيات الفردية أو الجماعية .
وبقى الإتحاد متلألئاً في سماء الوطن إلى أن تمّ إلغاء نظام التمثيل النسبي و أصبح التنافس فردياً بين مجموعات الطلاب السياسية في الجامعة ، فضاعت وحدة الطلاب ، وتدهورت صورة إتحادهم ، إلى أن وصلنا اليوم إلى مرحلة تلاشى فيها الإتحاد و أصبح ممنوعاً بحكم القانون و اللوائح ، بأمر الدكتاتورية الجاثمة على الصدور وبتنفيذ الإدارات السياسية المفروضة جبراً على الجامعات ، و بالذات على رأس الحية جامعة الخرطوم مولّدة الثورات .
لقد كانت جامعة الخرطوم منارة وكانت تُعتبر من أفضل جامعات العالم علماً ، و إدارة ، و تقاليداً ، وأعرافاً . وكنت حتى قبيل قراءة هذا الكتاب ، لم أسمع بأي تلاعب في نتائج طلابها و لا أي تدخل حكومي في لوائح إمتحاناتها في عهودها الزاهرة . ولكن صدمتني حادثة ذكرها مؤلف الكتاب ، تتعلق بشخصه الكريم ، أدت إلى تراجع الجامعة عن فصله من كلية القانون بفضل تدخل مباشر و تهديد شخصي قام به الأميرألاي المقبول الأمين الحاج ، أحد صقور مجلس قيادة ثورة 17 نوفمبر ، ضد عميد كلية القانون بريطاني الجنسية . لقد تمّ تهديد عميد الكلية بالفصل من الجامعة و الطرد من البلاد إذا أصر على معاقبة إسحق القاسم شداد بفصله من الكلية . و من المؤسف أن العميد خضع للتهديد و إستكان للأمر القادم من عضو مجلس قيادة الثورة و خفف العقوبة ليبقى إسحق طالباًبالجامعة ولو متأخراًعاماً واحداًعن دفعته . ويزيد الطين بللاً ، أن تدخل المقبول كان إستجابة لوساطة أسريةٍ من عائلة إسحق ، وما كنت أحسب أنها قد تٌمارس لتغويض شؤون جامعة الخرطوم الأكاديمية و الإدارية بهذا الشكل المفضوح .
أما خارج الجامعة و بعد التخرج و الولوج إلى الحياة العملية ، و إلى دنيا السياسة و المجتمع ، فلقد قدّم الأخ إسحق نفسه كنموذج لجيل الستينيات الميلادية الذي بدأت ربكة و تذبذب مواقفه السياسية و الفكرية منذ عهد الطلب بالجامعة ، بل وحتى من المرحلة الثانوية . ولقد بدأ إسحق أولى إنتماءاته ، في مدرسة وادي سيدنا الثانوية ، مع تنظيم الإخوان المسلمين الذى تركه بعد فترة وجيزة بدون توضيح مقنع لعمليتي الإنضمام والمفارقة . و جاءت فترة الجامعة ليمارس فيها التنقل بين التنظيمات السياسية ببساطة ملفتة وبدون منطق معقول . ولم يقتصر ذلك التذبذب على مرحلة الدراسة الثانوية و الجامعية بل إمتد حتى فترة الحياة العملية . ولقد وصل الإخفاق و عدم الثبات على المبادئ ، إلى درجة التعاون العلني و المستتر مع الأنظمة الديكتاتورية التي إبتٌلى بها السودان بخاصة نظامي مايو و الإنقاذ دعك مما فعله الأميرالي المقبول . لقد تعاون إسحق مع المايويين بحجة صداقته لبعض قياداتها ولقد إعترف أنه فد أُبلغ بالتخطيط لإنقلاب مايو لكنه رفض المشاركة مع إلتزامه بالصمت و عدم التبليغ عن ما يجري التحضير له لتغويض الدستور و النظام الديمقراطي الشرعي . كما علم أيضاً بالتخطيط لإنقلاب يعده البعثيون العراقيون بالتعاون مع الشريف حسين الهندي لكنه أيضاً آثر الصمت !!
أما تعاونه مع نظام الإنقاذ الجاثم فوق صدورنا منذ ثلاثة عقود ، فهو الآخر وطيد و متنوع و مستمر حتى يوم الناس هذا . ولقد وصل تعاونه مع ديكتاتورية الإنقاذ إلى درجة قبول عضوية مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني بعد إعلان رسمي بإنضمامه لهذا الحزب الفاشيستي . ليس هذا فقط ، بل يتحدث الكاتب بأريحية عن عضويته لكثير من لجان و مؤسسات هذا النظام الباغي ذات الطبيعة السياسية و الدستورية و القانونية . ومضحك جداً إدعاء الكاتب بأن تعاونه الوثيق مع الإنقاذيين ينطلق من إستقلاليته في الفكر و السياسة بالإضافة إلى مهنيته ، بينما الكل يعرف أنه ليس للإستقلالية مكان من الإعراب في مثل هذه الانظمة الديكتاتورية . ويضاف إلى هذا الإدعاء ، إدعاء آخر وهو أنه ضعيف أمام أصدقائه و معارفه ولا يستطيع أن يرد لهم طلباً حتى و إن كان مناقضاً لأفكاره و مبادئه الخاصة . فالمجاملة حسب قوله ، هي التي تجعله يبدو متناقضاً مع نفسه و مرتبكاً في مواقفه العامة . و أنصع مثال هنا هو قبوله منصباً متقدماً جداً في حزب البعث ( العراقي ) ، رغم تكرار قوله في الكتاب أنه ليس بعثياً و لكنه عمل تحت مظلة البعث إستجابة و مجاملة لأشخاص يعزّهم و لا يستطيع أن يرد لهم طلباً . لكنه عموماً إعترف أنه عومل في العراق كقائد قومي بعثي !!.
إن تذبذب إنتماءات الأخ إسحق السياسية ، والتي لم يخف عنها شيئاً في كتابه ، تعبّر عن قلق جيل الستينيات الميلادية الذي أعقب جيل آباء الإستقلال ، بأحزابهم التقليدية و طوائفهم الدينية . لم يجد جيل إسحق مواقعاً تلبي طموحاتهم تحت مظلة الأحزاب التقليدية التي كانت تسيطر على الساحة السياسية ، كما لم يجد ذلك الجيل المقدرة على تكوين أحزاب بديلة وطنية تنافس الأحزاب التقليدية ، ولا الأحزاب العقائدية التي كانت تمثل اذرعاً لأنظمة و أحزاب عقائدية إقليمية أو دولية . ولهذا مارسوا الحياة السياسية خبط عشواء لدرجة القبول بالتعاون مع ديكتاتوريات باطشة و تنظيمات لا تعرف ولاءً لا للسودان و لا لأهله ، مدفوعين بطمع أو رهبة غير مبررة او مجاملات غير منطقية .
وفي حالة الأخ إسحق بالذات و علاقته بالإنقاذ فيمكن تفسيرها جزئياً بوقوعه مبكراً في حبائل بعض أساطين الإخوان المسلمين و بالذات الأستاذ محمد يوسف المحامي . إن عمل إسحق و علاقته المهنية الوطيدة مع الأستاذ محمد يوسف أتاحت له الإتصال المباشر و التقرٌب من قيادات هذه العصابة وعلى رأسهم علي عثمان محمد طه الذي يبدو أنه وجد في الأخ إسحق وكثيرين غيره من جيل الستينيات المضطرب ، وجد فيهم إستعداداً فطرياً أو مكتسباً للوقوف مع الأنظمة الديكتاتورية لأسباب قد تختلف من شخص إلى آخر و لكنها في النهاية تؤدي إلى تبني مواقف تتناقض مع الفطرة السليمة و تبتعد عن مطالب الشعب و تساهم في توطيد مواقع الأنظمة الديكتاتورية . ويبقى السؤال المحيّر كيف يمكن لرجال و نساء خرّجتهم جامعة الخرطوم في عهدها الزاهر ، يختارون التعاون مع نظام قاهر و يشاركون في لجان قانونية مشبوهة كتلك التي تناهض سعي المحكمة الجنائية الدولية للإقتصاص لضحايا مجازر دارفور و جبال النوبة و النيل الأزرق و السدود و ضحايا الإحتجاجات المدنية في سبتمبر وغيرها من هبات الغضب الشعبية .
لكن علي الرغم من هذه الجوانب المؤلمة و المحيّرة في مشوار حياة الأخ إسحق ، فإن الكتاب يحتوي على معلومات تاريخية و مجتمعية مهمة جداً بخاصة ما يتعلق منها بتاريخ و مساهمات آل شداد في مجتمع مدينة بارا بشكل خاص و السودان بشكل عام . إنها مساهمات إمتدت منذ ما قبل المهدية وأثناءها و بعدها حتى زمان الناس هذا . ولقد أعطت هذه الأسرة الكثير و لازالت تعطي على المستوى المحلي و القومي و العالمي مما يعتبر مساهمات إيجابية بكل المقاييس ، ولكنها كطبيعة البشر لا تخلو من إنكسارات أو سلبيات فردية ، ولو أنها محسوبة على الأسرة الممتدة ، ويأتي من بينها الهروب أو التهريب المخطط من معركة كرري , وما تلاه من تعاون وطيد مع الإستعمار في إطار الإدارة الأهليه وفي أروقة الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان لما يزيد على نصف قرن .
أما في رحاب العمل المهني فإن الكتاب يمثل سجلاً ناصعاً لمساهمة الكاتب في تطوير و ممارسة مهنة المحاماة التي فضّل الإنتماء إليها منذ تخرجه من الجامعة . لقد تحدث بإسهاب عن تجاربه في دنيا المحاكم في شتى بقاع السودان مع التركيز على الجوانب المدنية و التجارية – لقد كان ولا يزال نجماً و مرجعاً في دنيا المنازعات التجارية و تنظيم الشئون القانونية للشركات و المؤسسات الإقتصادية الكبرى . لقد عمل دون كلل أو ملل في خدمة المظلومين بدوافع مهنية و إنسانية بحته ولهذا لم تكن المكاسب المادية تشغل باله أو تحول دون دفاعه عن المظلوم ، وكان دائماً يعف عند المغنم الذي يتكالب عليه الآخرون . لكن من المؤسف أنه يعترف بواقعتين تتناقضان مع مجمل مهنيته و نقائه . فلقد إعترف أنه قد توسط عن طريق الإتصال الشخصي لدى قضاة ينظرون في قضايا بعض موكليه مما جعل أولئك القضاة يغلّبون المجاملة على حكم القانون في قضية خطيرة تتعلق بالمتاجرة بالمخدرات . لقد كان ذلك تدخلاً لا يليق في سير العدالة من رجل قانون من جيل الستينيات .
كذلك إستفاد المؤلف شخصياً من مثل هذه التدخلات غير القانونية في سير العدالة بإعترافه بأن أحد أقربائه من كبار ضباط الشرطة سحب أو أخفى عن عين العدالة صوراً فوتوغرافية إلتقطت في المظاهرات التي خرجت مرحبة و مؤيدة لإنقلاب الشيوعيين بقيادة الرائد هاشم العطا . كانت الصور تظهره في قيادة المظاهرة بجانب الشفيع أحمد الشيخ وكانت بذلك تمثل إثباتاً كافياً لإرساله مع الآخرين إلى حبل المشنقة في تلك الهوجة النميرية . لكن سحب و إخفاء الصور في خزنة ذلك الضابط الكبير أنقذت إسحق من الإعدام فبقى في السجن لفترة وجيزة ثم أُطلق سراحه . الحمد لله على نجاته لكنها صورة أخرى من تدخلٍ في سير العدالة .
بجانب الصور التاريخية والقانونية و السياسية تمتلئ صفحات الكتاب بالعديد من الجوانب الإنسانية و العاطفية التي تدل على طبيعة بشرية راقية و على عواطف جياشة و حب جارف نحو الآخرين . ويبرز هذا الأمر بشكل واضح و كبير كلما جاء الأخ إسحق على ذكر إسم شقيقته بروفيسور فاطمة القاسم شداد رحمها الله . لقد ورد إسمها كثيراً في صفحات الكتاب . إختار الله بروفيسور فاطمة باكراً إلى جواره فذهبت مبكياً على شبابها و كأنها شهاب أضاء سماء جامعة أم درمان الإسلامية ثم تلاشى في لمح البصر . لقد كانت شعلة من النشاط و من الأدب و من الإجتهاد العلمي و من المقدرات الإدارية ، وكل ذلك تحيط به شخصية كاريزمية و ثقة عالية بالنفس ، جعلتني ، وأنا مدير لجامعة أم درمان الإسلامية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين ، جعلتني أعهد لها بإدارة الجامعة خلال فترة غيابي خارج السودان في مهمة رسمية ، علماً بأنها كانت الأنثى الوحيدة بين عمداء كليات الجامعة . لقد كان ذلك التكليف بمثابة إنقلاب في سماء و دنيا جامعة متزمتة ، حاولت ، مع آخرين من أمثال البروفيسور فاطمة ، الخروج بها من التقليدية العمياء إلى آفاق العصرنة و التحديث . ولقد أدت البروفيسور فاطمة أمانة التكليف بفاعلية و كفاءة أذهلت كل مَن فَغَر فاهه مندهشاً من قرار وضع أنثى في قمة إدارة جامعة إسلامية !!- لكنها ، وأشهد الله على ذلك ، كانت نِعْم الممثل لشخصي الضعيف و نِعْم الواجهة المشرفة للجامعة . رحم الله بروفيسور فاطمة ، و من حق الأستاذ إسحق أن يبكي عليها مدى الدهر ، وأن تغلب العاطفة عليه كلما جاء ذكرها .
أما الجانب العاطفي الأساسي في الكتاب فهو المتعلق بالشيخ شدّاد الذي تمتلئ صفحات الكتاب بالإشارة إليه . إنه عم الكاتب و مربيه و أبوه الروحي الذي لعب أدواراً أساسية في تربية ونشأة مؤلف الكتاب و في رعايته هو و أخواته حتى بعد أن شبوا عن الطوق و أصبحوا رموزاً إجتماعية يشار إليها بالبنان . إن الحديث عن الشيخ شدّاد و دوره التاريخي و الإجتماعي و التربوي ، لا يجزيه إلا الإطلاع على كامل صفحات الكتاب، سطوراً وما بين السطور .
وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن الكتاب قد صدر في طبعة أنيقة و بغلاف معبّر لكنه يحتوي على أخطاء طباعية ولغوية كثيرة يمكن مراجعتها في طبعات قادمة إن شاء الله . كذلك تمتلئ صفحات الكتاب بتنويهات و إشارات كثيرة لموضوعات يقول الكاتب أنه سيتحدث عنها لاحقاً ، ولكن بكل أسف نسبة كبيرة من تلك الموضوعات المؤجلة لم تظهر في الكتاب . كذلك فإن الكاتب يشير أحياناً إلى موضوعات يقول أنه قد تحدث عنها في صفحات سابقة و لكنها غير موجودة و كأنها سقطت في مراجعة لاحقة للمسودة قبل دفعها إلى المطبعة .
لكن عموماً يمثل الكتاب سِفراً مهماً كُتب بعناية وصدق و صراحة و يحتوي بين جنباته على ثروة من المعلومات و التفاصيل الجديرة بالتوثيق و النشر ، وكل ذلك مكتوب بأسلوب رصين و جاذب . إنه وثيقة تمثل جزءً من تاريخ جيل ، و تطور دولة نتشرف بالإنتماء إليها ، وتحيرنا مآلاتها !!!
إنه دون شك كتاب جدير بالإقتناء و التأمل بعقل مفتوح ، و من ثم التساؤل معي : هل هو مشوار حياة ، أم سِجِلٌ لإرتباك جيل !!!
**********
*******
****
بروفيسور / مهدي أمين التوم
هاتف : 0991198017
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.