(تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    السعودية أكثر الدول حرصا على استقرار السودان    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إطلالة على إسحق القاسم شداد وكتابه: "مشوار حياة" .. بقلم: بروفيسور / مهدي أمين التوم
نشر في سودانيل يوم 28 - 10 - 2018


بسم الله الرحمن الرحيم
عندما جلست لقراءة سِفْر الأستاذ إسحق القاسم شدّاد الموسوم ب (( مشوار حياة )) والصادر عن شركة مطابع السودان للعملة عام 2018 م في طبعة انيقة من 345 صفحة ، إستحضرت ذهنياً صوراً متداولة عن جيله ، جيل الستينيات الميلادية ، الذي إستكثرعليه البعض إحداثه لثورة أكتوبر الشعبية المجيدة ، كما إستكثروا عليه طغيانه على المشهد الثقافي السوداني عبر غابات وصحراء ، وتحت مظلة تجمعات ثقافية تركت بصمات لا تنكر في المجتمع السوداني منذ ذلك الحين وحتي يوم الناس هذا . لكن سياحتي المتأنية عبر صفحات الكتاب جعلتني أتساءل بصدقٍ هل نحن أمام مشوار حياة لواحد فاعل من ذلك الجيل ، أم نحن أمام سِجِلٍ حقيقي عن إرتباك ذلك الجيل الذي كان من المفترض أن يتسلم الراية من آباء الإستقلال المؤسسين لينطلق بالبلاد نحو آفاق المستقبل ولكنه لم يفعل فضاع الوطن ، أو كاد ، بين أطماع العسكريين و مماحكات المثقفين وعبث السياسيين .
لقد كتب إسحق مشوار حياته بصدقِ و أمانة ، و بتفاصيل تنم عن ذاكرة قوية ، وعن إعتماد على وثائق شخصية وعامة زادت من مصداقية روايات الكاتب و إستشهاداته . و تنوعت سياحته بين الخاص والعام في مراحل العمر المختلفة من الطفولة وحتى الكهولة و الشيخوخة . وليس من غرض هذه الإطلالة إعطاء ملخص للكتاب ، بل هى مجرد إشارات لقليل مما ورد في الكتاب بتفاصيل مذهلة و متعددة الجوانب ولذلك فهى لا تغني عن قراءة الكتاب بكامله .
لقد تعاصرنا في جامعة الخرطوم في النصف الاول من ستينيات القرن العشرين و لهذا فإن معظم ما ذكر من أحداث و شخصيات متعلقة بجامعة الخرطوم في ذلك الحين معروف لديّ و أثار في نفسي الكثير من الذكريات ، اللهم إلا ما يتعلق بكواليس عمل إتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي كان المؤلف نشطاً فيه ولكنني لم أك مهتماً بالعمل في مؤسساته ، غير أني ، كمعظم طلاب تلك الفترة ، لم أتقاعس عن المشاركة الجادة في كل نشاطاته الميدانية من إضرابات و إعتصامات و مظاهرات مطلبية و سياسية ، بما في ذلك ندوة الجنوب المشهورة وما أدت إليه من صدامات و إغتيالات ألهبت الشارع و أدت إلى إندلاع تورة أكتوبر المجيدة .
من أهم النقاط التي أبرزها الكاتب عن فترة الجامعة ، حديثه عن إتحاد الطلاب من حيث قوته و قوميته و تنظيمه و إلتفاف الطلاب حوله بقوة ، بالإضافة إلى نظرة المجتمع الإيجابية عن الإتحاد و عن موقعه في الساحة النضالية ضد الدكتاتورية العسكرية . و كان الإتحاد عندئذٍ يمارس نشاطاته في جامعة ذات حرم مقّدس لا تستطيع الأجهزة الأمنية تدنيسه بأقدامها ، عكس ما يحدث حالياً تحت حكم الإنقاذ التي جعلت للشرطة تواجداً دائماً في مداخل الجامعة وكافة نواحيها . كذلك يتضخ من سرد الوقائع المتعلقة بإتحاد طلاب جامعة الخرطوم ، أن نظام التمثيل النسبي ، الذي ظل يلتزمه الإتحاد منذ تأسيسه ، هو سر قوة الإتحاد و لغز تماسك كل شرائح الطلاب به و إلتزامهم الصارم بتنفيذ قراراته بقوة و صمود مهما كانت التضحيات الفردية أو الجماعية .
وبقى الإتحاد متلألئاً في سماء الوطن إلى أن تمّ إلغاء نظام التمثيل النسبي و أصبح التنافس فردياً بين مجموعات الطلاب السياسية في الجامعة ، فضاعت وحدة الطلاب ، وتدهورت صورة إتحادهم ، إلى أن وصلنا اليوم إلى مرحلة تلاشى فيها الإتحاد و أصبح ممنوعاً بحكم القانون و اللوائح ، بأمر الدكتاتورية الجاثمة على الصدور وبتنفيذ الإدارات السياسية المفروضة جبراً على الجامعات ، و بالذات على رأس الحية جامعة الخرطوم مولّدة الثورات .
لقد كانت جامعة الخرطوم منارة وكانت تُعتبر من أفضل جامعات العالم علماً ، و إدارة ، و تقاليداً ، وأعرافاً . وكنت حتى قبيل قراءة هذا الكتاب ، لم أسمع بأي تلاعب في نتائج طلابها و لا أي تدخل حكومي في لوائح إمتحاناتها في عهودها الزاهرة . ولكن صدمتني حادثة ذكرها مؤلف الكتاب ، تتعلق بشخصه الكريم ، أدت إلى تراجع الجامعة عن فصله من كلية القانون بفضل تدخل مباشر و تهديد شخصي قام به الأميرألاي المقبول الأمين الحاج ، أحد صقور مجلس قيادة ثورة 17 نوفمبر ، ضد عميد كلية القانون بريطاني الجنسية . لقد تمّ تهديد عميد الكلية بالفصل من الجامعة و الطرد من البلاد إذا أصر على معاقبة إسحق القاسم شداد بفصله من الكلية . و من المؤسف أن العميد خضع للتهديد و إستكان للأمر القادم من عضو مجلس قيادة الثورة و خفف العقوبة ليبقى إسحق طالباًبالجامعة ولو متأخراًعاماً واحداًعن دفعته . ويزيد الطين بللاً ، أن تدخل المقبول كان إستجابة لوساطة أسريةٍ من عائلة إسحق ، وما كنت أحسب أنها قد تٌمارس لتغويض شؤون جامعة الخرطوم الأكاديمية و الإدارية بهذا الشكل المفضوح .
أما خارج الجامعة و بعد التخرج و الولوج إلى الحياة العملية ، و إلى دنيا السياسة و المجتمع ، فلقد قدّم الأخ إسحق نفسه كنموذج لجيل الستينيات الميلادية الذي بدأت ربكة و تذبذب مواقفه السياسية و الفكرية منذ عهد الطلب بالجامعة ، بل وحتى من المرحلة الثانوية . ولقد بدأ إسحق أولى إنتماءاته ، في مدرسة وادي سيدنا الثانوية ، مع تنظيم الإخوان المسلمين الذى تركه بعد فترة وجيزة بدون توضيح مقنع لعمليتي الإنضمام والمفارقة . و جاءت فترة الجامعة ليمارس فيها التنقل بين التنظيمات السياسية ببساطة ملفتة وبدون منطق معقول . ولم يقتصر ذلك التذبذب على مرحلة الدراسة الثانوية و الجامعية بل إمتد حتى فترة الحياة العملية . ولقد وصل الإخفاق و عدم الثبات على المبادئ ، إلى درجة التعاون العلني و المستتر مع الأنظمة الديكتاتورية التي إبتٌلى بها السودان بخاصة نظامي مايو و الإنقاذ دعك مما فعله الأميرالي المقبول . لقد تعاون إسحق مع المايويين بحجة صداقته لبعض قياداتها ولقد إعترف أنه فد أُبلغ بالتخطيط لإنقلاب مايو لكنه رفض المشاركة مع إلتزامه بالصمت و عدم التبليغ عن ما يجري التحضير له لتغويض الدستور و النظام الديمقراطي الشرعي . كما علم أيضاً بالتخطيط لإنقلاب يعده البعثيون العراقيون بالتعاون مع الشريف حسين الهندي لكنه أيضاً آثر الصمت !!
أما تعاونه مع نظام الإنقاذ الجاثم فوق صدورنا منذ ثلاثة عقود ، فهو الآخر وطيد و متنوع و مستمر حتى يوم الناس هذا . ولقد وصل تعاونه مع ديكتاتورية الإنقاذ إلى درجة قبول عضوية مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني بعد إعلان رسمي بإنضمامه لهذا الحزب الفاشيستي . ليس هذا فقط ، بل يتحدث الكاتب بأريحية عن عضويته لكثير من لجان و مؤسسات هذا النظام الباغي ذات الطبيعة السياسية و الدستورية و القانونية . ومضحك جداً إدعاء الكاتب بأن تعاونه الوثيق مع الإنقاذيين ينطلق من إستقلاليته في الفكر و السياسة بالإضافة إلى مهنيته ، بينما الكل يعرف أنه ليس للإستقلالية مكان من الإعراب في مثل هذه الانظمة الديكتاتورية . ويضاف إلى هذا الإدعاء ، إدعاء آخر وهو أنه ضعيف أمام أصدقائه و معارفه ولا يستطيع أن يرد لهم طلباً حتى و إن كان مناقضاً لأفكاره و مبادئه الخاصة . فالمجاملة حسب قوله ، هي التي تجعله يبدو متناقضاً مع نفسه و مرتبكاً في مواقفه العامة . و أنصع مثال هنا هو قبوله منصباً متقدماً جداً في حزب البعث ( العراقي ) ، رغم تكرار قوله في الكتاب أنه ليس بعثياً و لكنه عمل تحت مظلة البعث إستجابة و مجاملة لأشخاص يعزّهم و لا يستطيع أن يرد لهم طلباً . لكنه عموماً إعترف أنه عومل في العراق كقائد قومي بعثي !!.
إن تذبذب إنتماءات الأخ إسحق السياسية ، والتي لم يخف عنها شيئاً في كتابه ، تعبّر عن قلق جيل الستينيات الميلادية الذي أعقب جيل آباء الإستقلال ، بأحزابهم التقليدية و طوائفهم الدينية . لم يجد جيل إسحق مواقعاً تلبي طموحاتهم تحت مظلة الأحزاب التقليدية التي كانت تسيطر على الساحة السياسية ، كما لم يجد ذلك الجيل المقدرة على تكوين أحزاب بديلة وطنية تنافس الأحزاب التقليدية ، ولا الأحزاب العقائدية التي كانت تمثل اذرعاً لأنظمة و أحزاب عقائدية إقليمية أو دولية . ولهذا مارسوا الحياة السياسية خبط عشواء لدرجة القبول بالتعاون مع ديكتاتوريات باطشة و تنظيمات لا تعرف ولاءً لا للسودان و لا لأهله ، مدفوعين بطمع أو رهبة غير مبررة او مجاملات غير منطقية .
وفي حالة الأخ إسحق بالذات و علاقته بالإنقاذ فيمكن تفسيرها جزئياً بوقوعه مبكراً في حبائل بعض أساطين الإخوان المسلمين و بالذات الأستاذ محمد يوسف المحامي . إن عمل إسحق و علاقته المهنية الوطيدة مع الأستاذ محمد يوسف أتاحت له الإتصال المباشر و التقرٌب من قيادات هذه العصابة وعلى رأسهم علي عثمان محمد طه الذي يبدو أنه وجد في الأخ إسحق وكثيرين غيره من جيل الستينيات المضطرب ، وجد فيهم إستعداداً فطرياً أو مكتسباً للوقوف مع الأنظمة الديكتاتورية لأسباب قد تختلف من شخص إلى آخر و لكنها في النهاية تؤدي إلى تبني مواقف تتناقض مع الفطرة السليمة و تبتعد عن مطالب الشعب و تساهم في توطيد مواقع الأنظمة الديكتاتورية . ويبقى السؤال المحيّر كيف يمكن لرجال و نساء خرّجتهم جامعة الخرطوم في عهدها الزاهر ، يختارون التعاون مع نظام قاهر و يشاركون في لجان قانونية مشبوهة كتلك التي تناهض سعي المحكمة الجنائية الدولية للإقتصاص لضحايا مجازر دارفور و جبال النوبة و النيل الأزرق و السدود و ضحايا الإحتجاجات المدنية في سبتمبر وغيرها من هبات الغضب الشعبية .
لكن علي الرغم من هذه الجوانب المؤلمة و المحيّرة في مشوار حياة الأخ إسحق ، فإن الكتاب يحتوي على معلومات تاريخية و مجتمعية مهمة جداً بخاصة ما يتعلق منها بتاريخ و مساهمات آل شداد في مجتمع مدينة بارا بشكل خاص و السودان بشكل عام . إنها مساهمات إمتدت منذ ما قبل المهدية وأثناءها و بعدها حتى زمان الناس هذا . ولقد أعطت هذه الأسرة الكثير و لازالت تعطي على المستوى المحلي و القومي و العالمي مما يعتبر مساهمات إيجابية بكل المقاييس ، ولكنها كطبيعة البشر لا تخلو من إنكسارات أو سلبيات فردية ، ولو أنها محسوبة على الأسرة الممتدة ، ويأتي من بينها الهروب أو التهريب المخطط من معركة كرري , وما تلاه من تعاون وطيد مع الإستعمار في إطار الإدارة الأهليه وفي أروقة الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان لما يزيد على نصف قرن .
أما في رحاب العمل المهني فإن الكتاب يمثل سجلاً ناصعاً لمساهمة الكاتب في تطوير و ممارسة مهنة المحاماة التي فضّل الإنتماء إليها منذ تخرجه من الجامعة . لقد تحدث بإسهاب عن تجاربه في دنيا المحاكم في شتى بقاع السودان مع التركيز على الجوانب المدنية و التجارية – لقد كان ولا يزال نجماً و مرجعاً في دنيا المنازعات التجارية و تنظيم الشئون القانونية للشركات و المؤسسات الإقتصادية الكبرى . لقد عمل دون كلل أو ملل في خدمة المظلومين بدوافع مهنية و إنسانية بحته ولهذا لم تكن المكاسب المادية تشغل باله أو تحول دون دفاعه عن المظلوم ، وكان دائماً يعف عند المغنم الذي يتكالب عليه الآخرون . لكن من المؤسف أنه يعترف بواقعتين تتناقضان مع مجمل مهنيته و نقائه . فلقد إعترف أنه قد توسط عن طريق الإتصال الشخصي لدى قضاة ينظرون في قضايا بعض موكليه مما جعل أولئك القضاة يغلّبون المجاملة على حكم القانون في قضية خطيرة تتعلق بالمتاجرة بالمخدرات . لقد كان ذلك تدخلاً لا يليق في سير العدالة من رجل قانون من جيل الستينيات .
كذلك إستفاد المؤلف شخصياً من مثل هذه التدخلات غير القانونية في سير العدالة بإعترافه بأن أحد أقربائه من كبار ضباط الشرطة سحب أو أخفى عن عين العدالة صوراً فوتوغرافية إلتقطت في المظاهرات التي خرجت مرحبة و مؤيدة لإنقلاب الشيوعيين بقيادة الرائد هاشم العطا . كانت الصور تظهره في قيادة المظاهرة بجانب الشفيع أحمد الشيخ وكانت بذلك تمثل إثباتاً كافياً لإرساله مع الآخرين إلى حبل المشنقة في تلك الهوجة النميرية . لكن سحب و إخفاء الصور في خزنة ذلك الضابط الكبير أنقذت إسحق من الإعدام فبقى في السجن لفترة وجيزة ثم أُطلق سراحه . الحمد لله على نجاته لكنها صورة أخرى من تدخلٍ في سير العدالة .
بجانب الصور التاريخية والقانونية و السياسية تمتلئ صفحات الكتاب بالعديد من الجوانب الإنسانية و العاطفية التي تدل على طبيعة بشرية راقية و على عواطف جياشة و حب جارف نحو الآخرين . ويبرز هذا الأمر بشكل واضح و كبير كلما جاء الأخ إسحق على ذكر إسم شقيقته بروفيسور فاطمة القاسم شداد رحمها الله . لقد ورد إسمها كثيراً في صفحات الكتاب . إختار الله بروفيسور فاطمة باكراً إلى جواره فذهبت مبكياً على شبابها و كأنها شهاب أضاء سماء جامعة أم درمان الإسلامية ثم تلاشى في لمح البصر . لقد كانت شعلة من النشاط و من الأدب و من الإجتهاد العلمي و من المقدرات الإدارية ، وكل ذلك تحيط به شخصية كاريزمية و ثقة عالية بالنفس ، جعلتني ، وأنا مدير لجامعة أم درمان الإسلامية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين ، جعلتني أعهد لها بإدارة الجامعة خلال فترة غيابي خارج السودان في مهمة رسمية ، علماً بأنها كانت الأنثى الوحيدة بين عمداء كليات الجامعة . لقد كان ذلك التكليف بمثابة إنقلاب في سماء و دنيا جامعة متزمتة ، حاولت ، مع آخرين من أمثال البروفيسور فاطمة ، الخروج بها من التقليدية العمياء إلى آفاق العصرنة و التحديث . ولقد أدت البروفيسور فاطمة أمانة التكليف بفاعلية و كفاءة أذهلت كل مَن فَغَر فاهه مندهشاً من قرار وضع أنثى في قمة إدارة جامعة إسلامية !!- لكنها ، وأشهد الله على ذلك ، كانت نِعْم الممثل لشخصي الضعيف و نِعْم الواجهة المشرفة للجامعة . رحم الله بروفيسور فاطمة ، و من حق الأستاذ إسحق أن يبكي عليها مدى الدهر ، وأن تغلب العاطفة عليه كلما جاء ذكرها .
أما الجانب العاطفي الأساسي في الكتاب فهو المتعلق بالشيخ شدّاد الذي تمتلئ صفحات الكتاب بالإشارة إليه . إنه عم الكاتب و مربيه و أبوه الروحي الذي لعب أدواراً أساسية في تربية ونشأة مؤلف الكتاب و في رعايته هو و أخواته حتى بعد أن شبوا عن الطوق و أصبحوا رموزاً إجتماعية يشار إليها بالبنان . إن الحديث عن الشيخ شدّاد و دوره التاريخي و الإجتماعي و التربوي ، لا يجزيه إلا الإطلاع على كامل صفحات الكتاب، سطوراً وما بين السطور .
وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن الكتاب قد صدر في طبعة أنيقة و بغلاف معبّر لكنه يحتوي على أخطاء طباعية ولغوية كثيرة يمكن مراجعتها في طبعات قادمة إن شاء الله . كذلك تمتلئ صفحات الكتاب بتنويهات و إشارات كثيرة لموضوعات يقول الكاتب أنه سيتحدث عنها لاحقاً ، ولكن بكل أسف نسبة كبيرة من تلك الموضوعات المؤجلة لم تظهر في الكتاب . كذلك فإن الكاتب يشير أحياناً إلى موضوعات يقول أنه قد تحدث عنها في صفحات سابقة و لكنها غير موجودة و كأنها سقطت في مراجعة لاحقة للمسودة قبل دفعها إلى المطبعة .
لكن عموماً يمثل الكتاب سِفراً مهماً كُتب بعناية وصدق و صراحة و يحتوي بين جنباته على ثروة من المعلومات و التفاصيل الجديرة بالتوثيق و النشر ، وكل ذلك مكتوب بأسلوب رصين و جاذب . إنه وثيقة تمثل جزءً من تاريخ جيل ، و تطور دولة نتشرف بالإنتماء إليها ، وتحيرنا مآلاتها !!!
إنه دون شك كتاب جدير بالإقتناء و التأمل بعقل مفتوح ، و من ثم التساؤل معي : هل هو مشوار حياة ، أم سِجِلٌ لإرتباك جيل !!!
**********
*******
****
بروفيسور / مهدي أمين التوم
هاتف : 0991198017
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.