صدر لي من دار المصورات بالخرطوم كتابي "من يخاف الحداثة؟" قبل أسابيع في الخرطوم. وعرض الكتاب لمسألة تفاقمت مؤخراً بين صفوة الرأي تنسب فضل ما نحن فيه من "حداثة" إلى الاستعمار الإنجليزي الذي وطأ أرضنا في 1898. وتجد مَنْ طَرِب لهذه الحداثة حتى تساءل: كيف كان سيكون حالنا لو استمرت المهدية "الأصولية" إلى يومنا؟ وهكذا رهنا خيالنا وإرادتنا وتاريخنا طوعاً واختياراً بالحداثة الغربية (حتى لو عضتنا بنابها الأزرق الاستعماري) نحن فيها المقتفون والنقلة وعارفو الفضل. ولم يطرأ لنا السؤال: ألم يكن بوسعنا بلوغ الحداثة بغير الاستعمار؟ والسبب في أننا لم نسأل هذه السؤال هو أننا جعلنا بيننا وبين مثله سداً فرحين بما في يد الغرب. بل تربت صفوتنا على أنها من غرس الاستعمار حامدة شاكرة افضاله. وعرضت في كتابي لمن سأل نيابة عنا هذا السؤال وهو المؤرخ البريطاني النبيل بازل ديفدسون في كتابه "أفريقيا الحديثة" ( 1994). تساءل ديفدسون في كتابه عما لو كان بوسع افريقيا أن تلج مضمار الحداثة بغير حاجة إلى استعمار أوربا التي نذرت نفسها لتمدين بدائيّ العالم ومتخلفيه وأنفهم راغم: بالاستعمار. وقال إن الإجابة على مثل هذا السؤال هي ضرب من الحدس. وقال إنه سيؤسس حدسه على اعتبارين: أولهما: ما كان يدور في أوساط الصفوة الأفريقية بشأن مستقبل بلادها قبل اجتياح الاستعمار لها في خواتيم القرن التاسع عشر. فقد نشأت على سواحل أفريقيا طبقة أفريقية مثقفة خلال فترة وجود الأوربيين على ذلك الساحل ممن اشتغلوا بالنخاسة منذ القرن الخامس عشر. وبلغ حس هذه الطبقة السياسي حداً دعت فيه نخبة شعب الفانتي في غانا المعاصرة إلى جمعية وطنية في 1867 أجازت دستوراً آخى بين التحديث السياسي الذي استفادوه من أوربا والتمسك بمنظومة تقاليدهم من الجهة الأخرى. ولم يطل فرح الفانتي بهذا التحديث الذاتي إذ سرعان ما غزاهم البريطانيون وقتلوا مشروعهم الحداثي في المهد. وتساءل ديفدسون مرة أخرى عن فرص النجاح التي ربما انتظرت مشروع الفانتي للحداثة بغير وسيط خارجي. ولما اعتوزه الدليل والبرهان ضرب مثلاً باليابان التي حدثت نفسها بنفسها وهي مستمسكة بالعروة الوثقى من استقلالها. بل كان دستورها الذي نهضت من فوقه قد صدر في 1867 وهو عام دستور شعب الفانتي. يا لعجائب الصدف. وقال ديفدسون لو أن اليابان مما يقاس عليه فلربما كان بوسع الأفريقيين ولوج التحديث أصالة لا جبراً. ومما يَسَر لليابان بلوغ الحداثة هو أنها لم تٌستعمر بينما لاقت أفريقيا الأمرين من استعمار أوربا. ولم تغب هذه المقارنة بين أفريقيا واليابان عن ذهن متعلمي أفريقيا الباكرين من مثل السيد منسا سارباه (1865-1910)، وهو من صفوة شعب الفانتي في غانا اليوم. وقد أظهر نبوغاً في القوانين التي درسها في إنجلترا. فقد دافع بغير هوادة عن حداثة مٌشَربة بأفريقيا، أي حداثة تأخذ ثقافة أفريقيا مأخذ الجد. فقد كتب في 1844 ينبه إلى أن توقيع زعماء أفريقيا على معاهدات الحماية الأوربية، التي احتاجت لها قوى أوربا المتصارعة في أفريقيا لدعم حجتها في تملك أراض أفريقية، ينبغي ألا تفهم بصورة اعتباطية. فقد فهم الأوربيون منها أن هؤلاء الزعماء تنازلوا طوعاً عن سيادتهم الوطنية. ووصف سارباه مثل هذا الفهم الاعتباطي ومترتباته بأنه فرض عشوائي للحكم الاستعمارى لا سند قانونياً له. وقد أزعجه كثيراً القوانين والإجراءات التي سنتها بريطانيا للمستعمرات وقال إنها منبتة الجذور عن أعراف الأفريقيين. وزاد بأنه مهما كان رأي الأوربيين عن الأفريقيين-- سواء ظنوا بهم البدائية الكاملة أو الناقصة-- فهم أهل نظم مستقرة للحكم القبلي تشتمل على مفهوم للسيادة وممارسة رشيدة له. وأوقف سارباه حياته مدافعاً عن المؤسسات الأفريقية التقليدية يسأل الأوربيين بإلحاف وبطريقة ذرائعية أن يلطفوا استعمارهم بمنح الصفوة الأفريقية درجة أرحب من الحكم الذاتي حتى تلعب دوراً مرموقاً في ترقية حياة أهلها. وقد ساقه هذا التفرغ للمسألتين ليقوم بمباحث شتى حول القانون العرفي الأفريقي نشرها في سلسلة مجلدات. وكتب مرة يقول: "إن الوطنيين الفانتي وإمبراطور اليابان وساسته معاً كانا يكدحان كدحاً لترقية بلديهما بالتعليم المناسب والتدريب الكفء لشعبيهما. وكان ذلك الهدف الأسمى متاحاً لليابانيين والأفارقة معاً على قدم المساواة. وتحدثت اليابان وخابت أفريقيا. فقد هدم الاستعمار محاولتها للتحديث بغير رحمة وبعثر مشروعها للنهضة "في كل واد." وسمى ديفدسون مثل حدسه بما ربما كان وقع للأفريقيين من حداثة (أو تعذرها) بغير استعمار ب "سؤال ولو". وهو سؤال غير مستحب عند المؤرخين لأنه يسأل عما لم يقع بينما يقتصر تدريب المؤرخ على دراسة ما وقع وتحليله. وغير خاف أن ديفدسون قد نظر في "سؤال لو" عن أفريقيا وفرصتها التاريخية للتمدن الذاتي إلى كتابات منسا سارباه. وبدا لي أن سؤال ديفدسون لم يكن من باب لو التي تفتح عمل الشيطان. ولم تكن إجابته رجماً. فقد رأى سارباه، الذي قبل أفكار أوربا وتمرس فيها، فرصة أن تُحدث افريقيا نفسها بنفسها، وجاهد بقلمه ليجعل من هذا التحديث الذاتي واقعاً. غير أن أوربا لم تصبر على أفكارها تدعو لها بالحكمة والموعظة الحسنة وتكسب لها رجالاً في ألمعية سارباه أو الطهطاوي وجيله من عصر الأنوار العربي. فركبتها الرأسمالية الملعونة وجنون بقر مهمة الرجل الأبيض. فاستعمرت مصر في 1882 وهدمت نظامها البرلماني الوليد ومكنت لخديوي مصر من ثورة عرابي والحركة الوطنية. ثم استولت على شعوب غانا الحالية في 1900 وجلس البريطاني الغازي على كرسي ملك الأشانتي. وهَول تدنيس ككر الملك عند الأشانتي كمثل هول الأنصار وهم يرون قبة المهدي تلوث بقنابل كتشنر. فحتى تشرشل استنكر ذلك من كتشنر قائلاً يالبؤس حكومة جديدة تبدأ عهدها بقصف البرج الوحيد الأعلى نسبياً فوق بيوت الطين المتناقصة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.