أَلا أَيُّها الرَكبُ اليَمانونَ عَرَّجوا عَلَينا فَقَد أَمسى هَواناً يَمانِيا أُسائِلُكُم هَل سالَ نَعمانُ بَعدَنا وَحُبَّ إِلَينا بَطنُ نَعمانَ وادِيا أَلا يا حَمامَي بَطنِ نَعمانَ هِجتُما عَلَيَّ الهَوى لَمّا تَغَنَّيتُما لِيا وَأَبكَيتُماني وَسطَ صَحبي وَلَم أَكُن أُبالي دُموعَ العَينِ لَو كُنتُ خالِيا "قيس بن الملوح" كلما قدمت مدينة الطائف تذكّرت ثلاثة أشخاص: هم عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، وهو حبر الأمة وبحر العلم الذاخر ورديف الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد توفي في مدينة الطائف، ومسجده في برحة العباس هو أحد معالم المدينة. أما عداس فهو ذلك الفتى النصراني الذي قدم من نينوى، وعندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف أمره شيبة وعتبة ابنا ربيعة أن يُقدِّم طبقاً من العنب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل عداس، ثم قال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال: "بسم الله"، ثم أكل! هذه هي اللحظة التي أسفرت فيها الهدايةُ عن وجهها المضيء، فبدت أنوارها، فما أن سمع عداس كلمة "بسم الله" حتى نظر في وجهه صلى الله عليه وسلم كأنّه يستجليه شيئًا، ويستنبئه حقيقةً، ثُمّ قال: "والله، إن هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد"! وقد ذكر أهل السِّير أنّ عداساً كان على علمٍ بالكتاب الأول، وأنّه كان ينتظر ظهور النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، حتى وجده. والسيد المحجوب، هو جد السادة المَراغنة ومسجده مَعروفٌ بالطائف. وقد كان لزاماً عليّ زيارة ابن عباس هذه المرة، إذ أوصاني أخي علي الكرار هاشم قائلاً: إذا وصلت الطائف فبلِّغ سلامي لجدي ابن عباس ففعلت! وفي طريقي إلى مكة حُظيت هذه المرة برؤية وادي نعمان أحد الأودية التي تَشتهر بها منطقة الحجاز غربي السُّعودية، حيث ذُكر اسم وادي نعمان في أكثر من مكانٍ من قصائد الشُّعراء التي كُتبت في العصر الجاهلي. وتغنّى الشُّعراء بجمال وادي نعمان؛ إذ يشتهر هذا الوادي بالأجواء الطبيعية الجميلة من حيث الهواء العَليل وكذلك المساحات الخَضراء من أشجار السّدر، والسّلم، وأشجار السّمر، وشجر الأراك. ووادي نعمان أيضاً من الأماكن التي يقصدها الصّيّادون الباحثون عن قَضاء أجمل الأوقات في البراري وكذلك مُمارسة هواية صيد الحيوانات التي يعج بها الوادي من الأرانب والوَبَر البَرِّي، ومن أبرز القبائل التي سَكنت هذا الوَادي هي قبائل هذيل.. ومن أهم عُيُون المياه التي تتدفّق في هذا الوادي هي عين زبيدة، حيث تتدفّق هذه العين من جبل الكرا، فتمر المياه من عرفة إلى مكة، إلى الفلج، وعين العابدية التي تخرج من جَبل نعمان إلى جبل عرنة.. ومن محاسن الصُّدف أنّ الشخص الذي كَانَ يقود السّيّارة ونحن نعبر ذلك الوادي الجميل هو عوض الهذلي، رجلٌ لطيفٌ، استمتعت أيّما مُتعة برفقته من الطائف إلى مكةالمكرمة، فَقَصّرَ عليّ المَسَافَة بحلو حديثه، ودماثة خُلُقه.. وفي واقع الأمر أنّ عوضاً هو الذي نَبّهَني إلى روعة وادي نعمان الذي لم أره من قبل وإن كُنت قد سَمعت بذكره في قصائد الإمام الصرصري التي شدا بها المادح الشيخ عبد السّلام مُحمّد علي رحمه الله! وبعد أن جَادت السّماء بوابل هطل على أرض الحجاز في الأيام القليلة الماضية، فقد اكتست تلك الجبال حلةً سُندسيةً خَضراء من الإذخر والأذاخر ونباتات الحجاز الأُخرى؛ حَتّى فَاحَت منها تلك النسمات العَطرة التي ظلّت تلهم الشعراء والمُحبِّين والعاشقين على مَرّ الدهور. وقد ورد في كتب السيرة أَنَّ أُصَيْلاً الْهُذَلِيَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ: "يَا أُصَيْلُ، كَيْفَ تَرَكْتَ مَكَّةَ؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: تَرَكْتُهَا وَقَدِ ابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا وَاخْضَرَّتْ مِسَلاتُهَا، يَعْنِي: شِعَابَهَا، وَأَمْشَرَ سَلَمُهَا، وَالإِمْشَارُ: ثَمَرٌ لَهُ حُمْرَةٌ، وَأَعْذَقَ إِذْخِرُهَا، وَالإِعْذَاقُ: اجْتِمَاعُ أُصُولِهِ، وَأَحْجَنَ تمامها، وَالإِحْجَانُ: تَعَقُّفُهُ. فَقَالَ: "يَا أُصَيْلُ! دَعِ الْقُلُوبَ تَقِرُّ، لا تُشَوِّقْهُمْ إِلَى مَكَّةَ". وقد روى أهل الحديث عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ، وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى، يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ: أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ". وكل هذه النصوص تدل دلالة واضحة على مدى حُب أهل مكة لها وشوقهم وحنينهم لأوديتها وجبالها مثل شامة وطفيل؛ فهي مَراتعهم ومواردهم ومحط ذكرياتهم وما نحن إلا سائرون على دربهم..! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.