قبل عدة أيام، قدم د. محمد جلال هاشم محاضرة موسوعية قيّمة وشيّقة في إحدى ندوات مجموعة الإحياء والتجديد تحت عنوان 'الاسلام الثقافي: فقه ما بعد الحداثة'، وقد استمعت للمحاضرة اكثر من مرة لالتقاط خيوطها وتحديد مفاصلها المختلفة. وكذلك رأيت ان أعقب على هذه الندوة ليس لانها تعزّز كثيراً، بصورة ما، ما طرحنا من قبل في عدد من المقالات في سودانايل والراكوبة بعنوان 'قضايا فكرية في الاسلام'، بل لأن د. محمد جلال يؤسس فيها لمداخل جديدة تكشف أخطر الأدوات المزيَّفة التي يعمل بها الاسلام السياسي لتزييف واختطاف الدين من غاياته، وهي الحديث والخطاب، وذلك بالتفكيك بين الصيغة الشفاهية للحديث وسياق وفحوى الحديث، وترسيخ مفهوم الدين كحالة تعبدية فردية، ثم التفريق بين الاسلام الدين والإسلام الدولة، وهو بذلك يقدم مساهمة فاعلة تفضح مكامن الخلل في طرح الاسلام كمشروع سياسي كما هو الحال في المشروع الحضاري (الاسلاموي) الذى أوصل السودان اليوم الي حالة الانهيار التام. لم تكن هذه هي المحاضرة الاولى للدكتور محمد جلال في هذا الصدد، فقد طرح نفس الموضوع من قبل في منتدى ابن رشد في عام 2012، كما هو مبذول في YouTube في جزئين بعنوان 'الاسلام الثقافي: المدخل للفكر الحداثوي'. وقد تناول موضوع الاسلام الثقافي عدد من الكتاب، منهم سعد بن سعيد العلوي في كتابه 'دولة الاسلام السياسي (وهم الدولة الاسلامية)'، وصائب عبد الحميد في كتابه 'تاريخ الاسلام الثقافي والسياسي'، والمفكر والأديب المغربي د. بنسالم حميش في كتابه 'في الاسلام الثقافي' الذى احتفى به د. مصطفى الفقى في جريدة الأهرام، ومحمد الحمامصي في جريدة العربي، ونقده بشكل لاذع محمد طيفوري. كذلك لم تختلف الخطوط العريضة للمحاضرة التي قدمها د. محمد جلال كثيراً عن ما قدمه من قبل في منتدى ابن رشد، إلا انها جاءت أكثر تشعباً وعمقاً وتماسكاً. لم يتوقف د. محمد جلال عند تعريف الاسلام الثقافي وضبط المصطلح، إلا ان السياق يفيد بان المقصود هو (الاسلام الغير مؤدلج، المتروك لحرية الفرد)، مثل الذي كان يعم السودان قبل تطبيق ما يعرف بقوانين الشريعة الاسلامية (قوانين سبتمبر 83). وهذا لا يخرج عن ما جاء في مقدمة كتاب 'دولة الاسلام السياسي (وهم الدولة الاسلامية)'، بأن ثقافة الاسلام هي تلك التي تحضر بشكل تأسيسي في قيام الدولة كما هو الحال في اسلام شبه الجزيرة العربية أو اسلام الصحراء، وان الاسلام الثقافي هو ثقافة جديدة تنتج عندما يجيئ الاسلام كثقافة دخيلة على ثقافة راسخة ويتفاعل معها، أو ما قاله بنسالم حميش في مقارنة مع الاسلام السياسي باننا مع الاسلام الثقافي «نكون إجمالاً في اجواء وسياقات ذات طبائع ووظائف مغايرة، يغلب عليها التوجه النقدي وأعمال الفكر المعمق النير وتوخي الإبداع الرافع المطور، بعيداً عن بداوة الفكر ذهنية وحساسية وادراكاً». وليس المقصود به ما جاء في بعض التعريفات المبتذلة في الويكبيديا التي تجعله مرادفاً لمصطلح مسلم الثقافة وتعرِّفه بأنه «مصطلح يشير إلى أفراد غير ملتزمين دينياً أو علمانيين أو ملحدين أو لادينيين لكنهم ما يزالون يعرفون أنفسهم كمسلمين بسبب الخلفية الثقافية والحضارية والعائلية، ....» لكن، أهم ما تخلص اليه المحاضرة هو ان الاسلام الثقافي هو الدين الصحيح، وان الاسلام الأيدولوجي (أو الاسلام السياسي حسب فهمنا) هو دين مزيّف يسعى الى الهيمنة على الدولة لإحتكار إستخدام العنف ضد المعارضين لتحقيق أغراض دنيوية. ومن أجل ذلك فهو يستخدم أدوات مزيّفة لكنها جذّابة. وأهم هذه الأدوات المزوَّرة التي يستخدمها الاسلام الأيدلوجي هو الحديث، وهو، سواء كان صحيحاً أو غير صحيح، قد تم اعادة انتاجه داخل صيغ شفاهية محددة لاسياق لها أو مبتورة السياق، ولا تعكس عين ما نطق به النبي (ص)، وقد وُضِع الحديث على مقاس هوى سلاطين بني أمية والعباسيين وعلى حسب حوجتهم له في قمع المعارضين السياسيين. ولتكون هذه الاداة نافذة فقد تم ترفيع الحديث فوق القرآن كما عند الالباني، وأصبح مدخلاً نحو تزييف الواقع وصناعة الهوس الديني. وما ساعد على سهولة تزوير الأحاديث وتأليفها هو انها تأتي في قالب ونسق لغوي معروف متى ما صُبَّ فيه الكلام، بغض النظر عن محتواه، يصبح حديثاً أو ياخذ شكله فيدخل قلب المستمع. ولذا يقول د. محمد جلال ان الحديث يستمد قيمته من متنه لا من سنده، وان علم التجريح والتعديل لا يعتد به (على الإطلاق) في صحة الحديث من عدمه. وليدلل على ما قال، ضرب د. محمد جلال مثلاً لا يخلو من المباشرة وقال: «قال رسول الله (ص) إن المؤمن لا يكذب. دة حديث صحيح. رواه منو؟ أنا دة (يقصد نفسه)». وانا أقول ان هذا الحديث فعلاً صحيح و متفق عليه. اتفق معاك فيه منو؟ أنا دة. اما الأداة الثانية التي لا تقل خطورة عن الحديث فهو الخطاب الديني (الجذٌاب)، الذي يشكّل واجهة للايدلوجيا، وهي الشريعة. والشريعة هي مجموعة قوانين، كحد الردة والحرابة والرجم، لا تطبق الا استثنائياً لحماية السلطة من الأشخاص الذين يشكلون خطورة عليها. وكان هذا حالها على مر التاريخ الاسلامي، ولم تطبقها بحذافيرها الى طالبان والدواعش، وهذا عين ما يحدث في سودان الإنقاذ اليوم بواسطة قوانين الشريعة الاسلامية وقانون النظام العام. أما الأداة الثالثة، فهي فرض الدين كحالة تعبدية للمجتمع، فيعيش المجتمع حالة من النفاق والتكاذب الجمعي، ويقود ذلك لافساد الدين والمجتمع على السواء، ويوفر تربة خصبة للاسلامويين الفاسدين لاحكام السطرة على موارد الدولة وتجنيبها لأنفسهم لإشباع رغباتهم الدنيوية. وهنا نود ان نشير الى ما قلنا في في عدد من مقالات 'قضايا فكرية في الاسلام' نشرناها في سودانايل والراكوبة. ففيما يخص الحديث، والفقه، ورجال الدين فقد أشرنا في 'قضايا فكرية في الاسلام (4)' وقلنا «إذن، لاسبيل إلى نهضة الأمة الاسلامية دون حركة اصلاحية تماثل ثورة مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية في عصر النهضة الأوربية، وهذه النهضة لن تكون إلا بتحرير الاسلام من الأحاديث (التي تعلّي من شأن الشعائر على حساب القيم الجوهرية)، ومن الفقه (الذي أغرق الأمة في توافه الأمور)، ومن رجال الدين (الذين اسقطوا عاهاتهم النفسية على تفسير الدين). إن رجال الدين قد استخدموا هذه الأحاديث وهذا الفقه لارضاء السلاطين وإشغال الناس بتفاصيل شعائر شكلية حرفت الدين عن جوهره وشغلت الناس عن غايته....» أما في موضوع الشريعة فقد أشرنا في مقال 'قضايا فكرية في الاسلام (5)' وقلنا ««وهكذا كان لا بد لقادة الاسلام السياسي ومفكريهم أن يعترفوا بهذا المسخ والتشوّه في فكرهم ،والضبابية في رؤيتهم، وبالفشل المرير في تجربتهم، ويفيقوا من أحلامهم الوردية لقيادة العالم كما صوّرها لهم سيد قطب ...، فها هو رئيسهم عمر البشير يخبرنا بعد أكثر من عشرين عام من من تطبيق الشريعة أن شريعتهم «مدغمسة» (أي غير مفهومة). وهاهو حسين خوجلي، احد أهم قادتهم الاعلاميين، يتحسّر ويقول عن قادتهم: «وصّلونا لأسوأ درك ممكن، لا لقينا بلدنا، لا لقينا دينّا، لا لقينا إقتصادنا». وهاهو المحبوب عبد السلام، أحد قادتهم البارزين، يؤكد ضعف رؤيتهم الاستراتيجية ويقول بدون مواربة: «إن تيار الاسلام السياسي الذي يحوي هذه الحركات جميعها، وقد يمتد حتى من الغنوشي الى البغدادي، هذا التيار قد استنفذ أغراضه. لا بد من بروز أفكار جديدة ورؤى جديدة متعلقة بطبيعة هذه الحركات، لانه اتضح ان هذه الحركات لا تستطيع أُطر الدولة الحديثة أن تستوعبها»» وبعد أن تجلى فشل المشاريع الاسلاموية، راجع أحد اهم قادة الاسلام السياسي، راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة في تونس، نفسه، ليقول في احدى لقاءاته بقناة الجزيرة: «نحن لا نعتبر ان من مهمة الدولة ان تفرض الاسلام. ليس من مهمة الدولة ان تفرض اي نمط معين على المجتمع. مهمة الدولة تحفظ الأمن العام، تحفظ العدل، تقدم الخدمات للناس. اما الناس تصلّي ما تصلّيش، تتحجّب ما تتحجّبش، تسكر ما تسكرش، هذا متروك للناس» ومن الملاحظات الجديرة بالاهتمام والبحث في محاضرة د. محمد جلال هي أن أزهى فترات الشعوب الاسلامية في التاريخ هي تلك التي كان فيها حال الناس كمن تَرَكُوا الدين وابتعدوا عنه «مرة يصلّوا مرة ما يصلّوا»، وأكثرها انحطاطاً هي تلك التي يفرض فيها الدين كحالة تعبدية للمجتمع. وهنا يؤكد الدكتور بان الاسلام الدين (الذي يكون فيه الامر متروكاً للضمير، كتحريم لحم الخنزير) أقوى أثراً من الاسلام الدولة (الذي يكون له عقوبة مادية، كتحريم الزنا). وهذا ينطبق على حال السودان الذي الذي صار بؤرة فساد وإفساد في ظل المشروع الاسلاموي الذي يتشدق بتحريم الخمر، بينما كان السودان مركز إشعاع فكري وروحي عندما كان الخمر مباحاً والنَّاس ترتاد مجالسه بعفة اسمى من كل صلاة وصيام وحج الإسلامويين. ولهذه المفارقة كنّا قد كتبنا هذه الأبيات مجاراة لقصيدة 'كسلا'، للشاعر الفذ توفيق صالح جِبْرِيل، والتي يقول في مطلعها: «نضّر الله وجه ذاك الساقي انه بالرحيق حلّ وثاقي»: كان صبحاً جهم المحيَا كئيبا *** إذ تركنا حديقة العُشَّاق نأتِ الغيدٌ والقواريرُ عنها *** والأباريقُ بتن في إشفاق قبَّح الله وجه ذاك السّاقي *** ليس فيما لديه حلُّ وثاقي أين سان جيمس العريق طليقاً *** و دخان الشِّواءِ في الآفاق يا ابنة القاش قد أتى الحكم قسراً *** واعتلى الدين كاذباً فكيف التلاقي بين كوزٍ في نهبه متلاشي *** وانتهازي مستغرقٍ في نفاق سرقونا بشرعهم أفلسونا *** ما لنا في خزينةٍ من باقي والغواني الحسان بين يديهم *** ويدينا تنوء بالإملاق وقضايا الفساد صارت جهاراً *** سافراتٍ أما لها من واق؟ والشبابُ الغريرُ أضحى طريداً *** لشتاتٍ وغربةٍ منساق كيف بالله حين كنا ندامى *** كل شيئ ببلدنا في اتساق؟ وهكذا نرى ان د. محمد جلال هاشم يقدم اضاءات مهمة وجديدة تكشف زيف أدوات الاسلام الأيدلوجي المتمثلة في الحديث، والشريعة، والتعبد الجماعي. ويطرح في المقابل الاسلام الثقافي كمشروع يقوم على الاسلام الدين الذي يكون فيه الامر متروكاً للضمير وحرية الفرد. 15/12/2018 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.