انطلقت فجأة في ديسمبر الماضي الثورة الوطنية المجيدة التي طال انتظار الشعب لها لاقتلاع قلاع الظلم والطغيان . تعتبر ثورة ديسمبر ثورةً فريدة في تاريخ شعبنا الأبي فلقد نبعت من عمق الشعب وهجاً صادقاً لمستقبل جديد و خلاصٍ فريد بإذن الله. كانت عبقرية الشعار تمثل بساطة واختصار إنسان السودان لتعقيد المشكل السوداني الجاثم على صدر الشعب عندما ردد الجميع : تسقط بسّ ! سقطت بعدها كل الأقنعة الزائفة وتكشفت للجميع حقائق خافية لم يعلمها حتى الخبراء ! يبقى أول الطريق دائماً نحو الخلاص هو العلمُ بالشيء ثمّ التنوير. جفت الأقلام بعدها ورفعت الصُحْف. نجحت الثورة في توحيد الصف الوطني فقد جمّعت كلمة الشمال ، الجنوب ، الوسط ، الشرق والغرب ووحدت كلمة السودانيين لأول مرة منذ عقود ضد نظام البغي والعدوان. شارك الصغار ، الشباب والكبار ، شاركت النساء قبل الرجال ، شارك المستقلون ، الحزبيون ، اليمينيون ، اليساريون وأهل الوسط . خلقت الثورة وعيا ً وطنياً هادفاً بحقوق الشعب رغم قيامهم بكل الواجبات. صاغ الشباب جوهر الثورة ففأجوا الجميع ليصنعوا مستقبل التغيير حلما ً ووعداً وتمني . تنبأ بهم قبل عقود شاعر الوطنية المُلْهِم محمود أبوبكر في قصيدته الوطنية الخالدة "صه ياكنارُ" عندما أنشد : وسلِ الشبابَ عند الفضيلةِ مرةً تجد النواعبَ في وخيم المرقدِ * وكأنِي به يخاطب شباب اليوم : وخذِ المآرب من زمانك عُنوةً إن المآرب في يمينِ الأمرد ** إني سألبسُ بالنجيعِ غلالةً إن لم يؤازرني الشباب بمفردي مثّل الشهداء جذوة الثورة فقدموا أرواحهم فداءً للوطن وقدموا مثالاً لا يبارى في التضحية بالنفس . فشل نظام القمع والإرهاب رغم استخدام القوة المفرطة والرصاص الحى من ردع مطالبي التغيير فلم يخافوا ولم يقنطوا فأظهروا شجاعة وبسالةً متفردة لم نشهدها في تاريخ سوداننا الحديث شبهها البعض بشجاعة وبسالة أجدادهم في كرري ضد المُسْتعمِر الطاغي . وإذا مشيت علي السيوفِ فمزّقت ساقيك فأحبُو إلي رفيعِ السُؤدد أنا لا أخافُ من المنونِ و ريبها ما دام عزمي يا كنارُ مهندي كان للمرأة حضوراً واضحاً و فعالاً : مشاركةً ، تحفيزاً وتعضيداً تعيد للأذهان شجاعة وبسالة مهيرة بت عبود ورابحة الكنانية ضد غزو المستعمر . لا تشارك جنباً فجنب فحسب بل تزغردُ فتلهبُ الحماس فكأني بها تماثل جدتها في أرض البطانةِ شغبة وهي تخوض الخطوب والمعارك: وَكتاً تَجينَا اللَّحَرَابْ بي زَرق الحَسَادَه بِنْكَمِّلْ الشَّيَابْ ونرقُد في ضَرَى دَرَقْ الجَنَا التَيَّاب كان للمغتربين والمهاجرين دوراً لا تخطئه العين ، دعماً مادياً ، معنوياً وعملياً . نجحوا في المشاركة الفاعلة لكسب المعركة الاسفيرية بسهولة ، وعرّوا نظام الظلم والطغيان وايصال رسائل الثوار للرأي العام الاقليمي و العالمي . كما كانت وسائلهم فعّالة لا سيما وقد أمتلكوا نواصي اللغات والتقنية الحديثة ووسائل الاتصال . في ظرف أيام كانت أخبار الثورة تطرق مسامع الإعلاميين والسياسيين رغم التعتيم الداخلي والإقليمي . كما كان أبناء المغتربين والمهاجرين عوناً وسنداً قوياً لذويهم لا سيما لمعرفتهم بمفاتيح التأثير في الخارج وخصوصاً في الدول الأجنبية ، كانت هذه الأحداث فرصةً طيبة لربط الأبناء برحم الوطن وإشعال جذوة التغيير و إحياءِ قيّمنا السودانية الرفيعة في المؤازرة ، المشاركة ، التكافل ودفع الضرر . هذه القيّم التي نحاول بها صياغة إنسان السودان كما يجبُ أن تكون . يحلمُ المغتربون والمهاجرون ترك عيشةِ الذلّ والهوان في بلادٍ لم ينصهروا فيها بينما يراودهم الحنين مراراً لوطنٍ عملاقٍ يحكمه الأقزام ، يرددون تجربةِ جبران : في هجرةٍ لا أنس فيها للغريب ولا صفاء تتقاذف الآفاق بي قذفُ العواصف للهباء وتحيط بي لجج الصروف فمن بلاءٍ في بلاءِ ساعدت الثورة بالسمو بالحس القومي ليسع الوطن الجميع . عندما حاول النظام كعادته تعليق المظاهرات والاحتجاجات في شماعة العنصرية البغيضة باتهام الحركات المسلحة في دارفور ، جاء رد الشعب الحصيف : " ياعسكري ومغرور كل البلد دارفور" ترياقاً فعالاً ضد سمّ التعالي والعنصرية . لم أجد ما يماثل ذلك نجاعةً من كل مفاوضات السلام التي ما فتئت تعقد لتنفض ! ليعلم أهل دارفور أن النظام العنصري البغيض هو سبب كل المشاكل في دارفور لا بقية أهل السودان ، وأن دولة الوطن والمواطنة هي أساس مستقبل السودان . أرجو أن يعّوا جيّدا الدرس القديم الذي صاغه العباسي في مقبل الأيام : لو درى القوم بالسودانِ أين همُ من الشعوبِ قَضْوا حزناً وإشفاقا جهلٌ وفقرٌ وأحزابٌ تعيث به هدّت قوى الصبر إرعاداً وإبراقا إن التحزّب سُمٌّ فأجعلوا أبداً ياقومُ منكم لهذا السُمُّ ترياقا يخرجُ الابداعُ من رحمِ المعاناة : مهّدت الثورة لروح الابداع كما لم يكون من قبل بصورةٍ غير مسبوقة . استلهم المبدعون أفكار ورؤى الثورة من كل حدبٍ وصوب . كانت يد وقبضة التصميم تعبر عن الشجاعة والبسالة ، مثّل الفجر المشرق مستقبل التغيير ، مشاركة المرأة رمزاً لدورها الطليعي في المجتمع الذي سبقت به كل الدول العربية والأفريقية ، إحترام وحماية إنسان السودان للمرأة مثلتها تعبيرية الشاب الذي أفرد ظهره لها لتَسْلم ، فأصبحت أيقونة الثورة . مشاركة المعاقين في الاحتجاجات رمزاً لقوة التصميم والإرادة . كان كل أهل الثقافةِ والفنون حاضرون : نثراً ، شعراً فصيحاً و شعبياً ، غناءاً بكل الإيقاعات من كل أطراف السودان ، ورسماً وتلويناً كما لم نَرْهُ من قبل واستخدام التقنيات الحديثة بكل ألق .كانت فسيفساء ( موسيك) الصورة التي يعبر عنها فتى الثورة الثوري ملهمةً وهي تحوي بداخلها كل صور الشهداء ، خالدين في نفوسنا إن شاء الله . استلهموا روح الدسوقي : الناسُ أروعَ ما فيهم بساطتهم لكن معدنهم أغلى من الذهب "و الحلمُ" أروع ما في الكون نغزله خيطاً من الشمس أو قطراً من السحبِ ينشدُ أبناءُ وبنات السودان فجراً جديداً لسودان جديد يقوم على نهج الحرية ، السلام ، العدالة ، المواطنة ، سيادة القانون ، احترام حقوق الإنسان ، التعبير السلمي لإختلاف الرأي والرأي الأخر ، تقديم الكفاءات وإرساء دعائم الروح الوطنية. لنبني أمةً تخطو واثقةً نحو المستقبل كما تمناها جمّاع : أمةٌ للمجد والمجد لها وثبْت تنشدُ مستقبلها أيّها الحادي إنطلق و اصعد بنا وتخيّر في الذُرى أطولها * يعني بالنواعب الإبل السريعة التي تنطلق فتفأجك بعد أن كانت ، ترقد طوالاً في دعةٍ وخمول ** ويعني بالأمرد جيل الشباب *** السؤدد : المجد والشرف ، المنون : الموت عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.