وَإنّي لمُشْتاقٌ إلى ظِلّ صاحِبٍ يَرُوقُ وَيَصْفُو، إنْ كدِرْتُ علَيْهِ [email protected] في عالم الاقدار تفنى الارواح و الاجساد و لا يبقى منها الا الذكرى العطرة التي تمكث بيننا شاخصة يعتقها الزمن و يطفي عليها حلة مترعة بآثار مَنْ اِندرس عمره و انزوى محياه تحت أديم الارض . فالموت سُنة أزلية تغشي كل نفس مهما علا شأنها أو قل و لكن لله الحمد و المنة أن تنقضي أيامنا و قد تركنا خلفنا آثاراً نُشكر عليها في هذه الفانية و يوم يقوم الاشهاد. قد يفقد المرء في هذه الحياة درر بشرية كانت نبراساً تضئ دياجر الفكر و تثري الوجدان و تعمق المعاني الإنسانية بفكرها الوقاد و حضورها المتوهج . فإذا بها ترحل عنا بغتةً بعد أن أغدقت علينا من فكرها السيال ما يعجز المرء عن وصفه إلا أننا نحمد الله عليها فقد فجرت فينا ينابيع الالق الثر مما تحمله من معاني جسام ستبقى بيننا بقاء الجبال الراسيات. قبل أيام قلائل اختفى عن هذا العالم إنسان عظيم بمقاييس البشر ترك بصمات مؤثرة في حياة البشر و في عوالم اللغة قل أن يأتي مثيله ، فهو في مخيلتنا كالحلم الذي يغشاك مسرعا فتسعي أن تبقيه معك و لكن يختفي تاركاً خلفه تلك اللذة التي تعجز الكلمات عن سبرأغوارها ، فيظل أثره في الذاكرة منقوشاً. فها قد رحل عنا بجسده الذي أنحله الفكر و أسقمه الترحال و لكنه أبقى خلفه أعمالاً عظاماً بمقاييس الأدب القصصي ستظل منارات ساطعات في هذا المحيط الادبي الهادر يستدل بها التائه بين المعاني و يسترشد بها الحائر الذي يستبصر أروقة الكتابة. لقد كان من اساطين اللغة العربية بياناً وفقهاً أحب آدابها و أشعارها وفتن بها أيما إفتتاناً و أدمن سحرها فأخذت بمجامع قلبه و جوانحه فأنفق فيها جل عمره. كان يصُوغ منها صوراَ بديعة و يستل منها الفاظاً يخترق بها حجب البيان العربي فأسرنا بها فأصبحنا نبحث عن كتاباته الماتعة بحثاً دؤوباً في كل صحيفة أو مجلة سطر فيها بيراعه المتراع تلك الدرر الغوالي المترعة بأخيلة الماضي و عوالم الحاضر ، فنقف أمامها بكل حواسنا مشدوهين بتلك الفيوضات اللغوية التي تحرك فيك كل ساكناً و تطرب فيك كل حاسة ، فتحملنا بتعابيرها الساحرة و كلماتها الجزلة ولغتها السلسة الى فضاءات متباينة لم نعهدها من قبل و نعجز نحن أن نحمل أنفسنا إليها. انه السحر اللغوي و البيان المتجلي الذي يأخذ بمجامع نفسك و يطلق عنان الذاكرة فتسبح في رياض المعاني. لقد بلغ بفكره و لغته ذروة الإبداع الأدبي مما جعل تعابيره لغة صافية مميزة أضفت على لغة التعبير القصصي و الكتابة الصحفية المزجاة أسلوباً جيداً جديداً أسهم في الإرتقاء بثقافتنا الادبية. لقد كان رجلاً خلوقاً عطوفاً متواضعاً لا تغيره الأحوال و لا تكدر صفاؤه الأهوال ، مفعماً بالحياء المفرط ، فُطر على حب الخير للناس ، فأحبه الناس بمختلف مشاربهم ، لم يسع وراء حطام هذه البسيطة و أنما سعت إليه راغبة مذعنة ، فأخذ من موائدها العامرة ما يكفل له منها سبل المعاش ، و ببسطاته الساحرة كان سفيراً أميناً صادقاً لبلاده في كل محفل ، أحب الناس بلده السودان لحبهم له. فأمثال الطيب الصالح بدماثته و طيب معشره حلمه في دنيا البشر قليل ، قد يُفنى عمرك بين الناس و لن تظفر بمثله كأنما النساء عُقمن أن يلدن إنساناً تجتمع فيه كل هذه المحامد. كان جل ولائه المفرط لبلده العربي الإسلامي الأفريقي الذي ذاد عنه بقلمه الصائب و صوته البين ، فلم تضعفه عاديات الزمان و لم يشر نفسه بثمن بخسٍ في أسوقة الأفرنجة كما فعلها بعض رصفائه بل كانت له مواقف سديدة يشهد له بها أهل عصره. وقد كان رجلاً أميناً من أمناء أمته ، صدوقاً في كل محفل لم تشوبه شائبة تقدح في دينه أو وطنيته فهو لم يتوان أن يظهر مبادئه الكريمة التي كان يعظمها أيما إعظاماً في كل كتاباته. مثلاً لقد أفرد في أجزاءٍ كثيرة من مقالاته عن الإسلام و رسوله العظيم صلى الله عليه و سلم و الركب الكريم من صحابته الغر الميامين رضى الله عنهم أجمعين الذين غرسوا دوحة الإسلام الإيمانية الظليلة التي نتفيأ نحن الآن ثمارها الروحية البهية ، إضافة الى ذلك لم ينس بلده السودان فكتب عن رجالاته الأشاوس الذين أسهموا إسهاماً طيباً في بناء حاضره المشرق. و الطيب كعادته لا يغمط الناس حقهم و إن كانوا ليسوا من بني جلدته و لا يدينون بهذا الدين الخاتم ، فلقد ًسطر بقلمه أسفاراً عدة عن رجالات الغرب و الشرق و إسهاماتهم النيرة في دنيا العلم و المعرفة. أن الحديث عن الطيب صالح يفرح النفس و يثري العقل و يقودك الى الإبحار في أعماقه باحثاًً عن النصوص الأدبية التي شيد بها سرحه الشامخ في دنيا الأدب. و بهذه الكلمات المقتضبة أنهي ترحالي لأن عباب بحره الهادر لا يمتطيه الا الحزقة الذين ألان الله لهم أعنة المعاني ، و لكن مثلي بعلمه الكليل و جهده القليل لا يقوى على مواصلة الإبحار بهذه البضاعة المزجاة. في الختام الله نسأل أن يتغمده بواسع رحمته و أن يغفر له كل سيئاته دقها و جلها وأن يكرم نزله و يبدله دارا خيرا من داره و أهلا خيرا من أهله و يغسله من الذنوب بالماء و الثلج و البرد و ينقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.