بالصورة.. "الإستكانة مهمة" ماذا قالت الفنانة إيمان الشريف عن خلافها مع مدير أعمالها وإنفصالها عنه    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    النائب الأول لرئيس الإتحاد السوداني اسامه عطا المنان يزور إسناد الدامر    إسبوعان بمدينتي عطبرة وبربر (3)..ليلة بقرية (كنور) ونادي الجلاء    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منشورات حزب الحكمة: أنواع التفكير والحالة السودانية : الحلقة الأخيرة .. بقلم: د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
نشر في سودانيل يوم 07 - 04 - 2019


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
من الناس الذي يجنح للتفكير التأملي طبيعة مثل المصطفى صلى الله عليه وسلّم، وسيدنا هارون وسيدنا سليمان الحكيم والسيد المسيح عليهم الصلاة والسلام. ومنهم الذي يفضل التفكير العلمي مثل سيدنا إبراهيم عليه السلام مستخدماً تفكيره التجريدي نقداً وتحليلاً واستنباطاً، ومنهم الذي فضّل التفكير العملي كسيدنا داوود عليه السلام.
ومنهم الانفعالي الذي تغلب عليه الحركية ومثالهم سيدنا موسى وسيدنا يونس عليهما الصلاة والسلام.
ومن الناس أيضاً من يجنح للتنظير، والأنبياء عصموا من هذا المسلك حتى لا تختلط الرسالة بأفكارهم الخاصة، والمنظّرين كثر ومنهم قارون وفرعون ومن شابههم. ومن الناس أيضاً البراغماتيون من أمثال هامان ومن شابهه.
والتنظير قد يكون نافعاً إذا اعتمد على دليل ومنطق صحيح وكان عاقبته عمل مفيد وهو لذلك نوع من العلم النافع، وهو بداية الحكمة إذا ابتدأ بالنقد والتحليل، وهي عملية الخلخلة والنقض للمفاهيم السابقة، وانتهي بالفهم والبناء للمفاهيم وربطها بصلات المنطق السليم، وهي عملية التكوين. ولذلك فالتفكير التأملي أوّله النقد والتحليل ووسطه التفكير الجانبي والإبداعي، وآخره الاستراتيجي والتكاملي. أمّا التنظير الذي يقوم على الآراء الخاصّة الذاتية من غير أصالة ولا منطق سليم فهو ضار لأنّ ظاهره العلم وباطنه الجهل ويغتر به الجهلاء من الرعاع.
وكلّما كان للمرء مقدرة تأملية، وعملية، وحركية، وتنظيرية، متوازنة كان أفضل، فلكلٍّ منهم فائدة لتحقيق الأهداف. وأوّل الخلل في سياسة جماعة الإخوان المسلمين، حسب تقديري، وقع عندما اختطف الحركيون الدعوة التربوية وحوّلوها إلى حركية سياسية تسعى للحكم فطغى عليها التفكير الانفعالي، وارتكزت على التفكير البدائي الانشقاقي التكفيري، والتفكير التذكّرى الذي يعتمد على التاريخ الإسلامي الأوّل بدون قراءة ذكية للواقع وفهمه.
وقد أنّبهم الإمام حسن البنّا عندما قال بأنّ شجرته لم تنضج ثمارها ومن أراد أن يقتطفها قبل أوانها فليعتزلهم، ولكن وفاته المبكّرة، وحماس الشباب وغلبة تفكيره الانفعالي، ثمّ الانقلاب العسكري والخط المصادم التكفيري الذي اختطّه الأستاذ سيد قطب رحمه الله أدّت إلى انسلاخها من المنهج التأملي لمؤسّسها، وإلى تشرذمها وصدامها مع الحكومات إلى اليوم.
الإمام حسن البنّا كان مكتمل الآلة وذو ذكاءٍ عاطفي عالٍ وقدر من التفكير التجريدي، تمثّلاً بالمصطفى صلى الله عليه وسلّم، بينما أتباعه تحلّوا بالذكاء العقلي دون العاطفي. ولكنّه كان قليل التجربة الحياتية والعلم خارج نطاق الدراسات الإسلامية، ولم يبلغ مقام الحكمة، وهو مقام التفكير التدبري التكاملي، فانعكس ذلك في ضعف البنيان الفكري لروح الفكرة، وقوّة البنيان التنظيمي لقوّة التفكير الاستراتيجي في بناء الجماعة وضعفه في بناء المفاهيم.
والمثال في شعاراته التي رفعها مثل: الإسلام دين ودولة، فهو لم يؤصل لعلاقة مفهومي الدين والدولة، ولا عن مفهوم كيفية إدارة الدولة أو علاقة المجتمع بالدولة واستراتيجية التغيير، وإنما وضع تصوراً بسيطاً يقوم على تربية الفرد المسلم ليكون سليم التدين، ومن ثمّ جمعه مع إخوانه لتكوين مجتمع صالح يدعو الباقين لطريقه أو يفرضها عليهم فرضاً. وقد غاب عنه أنّ الشخص سليم التدين قد يكون جاهلاً في شئون التواصل مع الآخرين، أو شئون إدارة الدولة، أو التخطيط لبرامجها، أو ضعيفاً في مهارة التفاوض أو حلّ المشكلات، وهو ما ظهر جلياً بعد أن جاءت الإنقاذ في السودان وحكومة الدكتور مرسي في مصر.
هذا المنهج الحركي الانفعالي ساد في البلدان ومنها السودان وكان تغلّب الحركية على التأملية بفرعيها التفكري والتدبري، واضحاً في انشقاقاتها الكثيرة ودخول أمينها العام الرشيد الطاهر بكر رحمه الله في محاولة انقلابية ثمّ انشقاقها في عام 1969 الذي تأجل حتى عام 1980 بين تيار التربية الذي ظلّ وفياً للحركة بمصر بقيادة الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد رحمه الله، وبين تيار السياسة والسعي للحكم الذي قاده الدكتور حسن الترابي، ثمّ تشرذمها لاحقاً في عهد الإنقاذ.
وإذا تأملنا في نوعي التفكير لصادق عبد الله عبد الماجد وحسن الترابي نجد غلبة التفكير التأملي عند الأول وغلبة التفكير الصلب المادي خاصة قسمه الانفعالي عند الثاني. التفكير الانفعالي محبّذ عند معظم الناس لأنّ فيه تحقيق مباشر للأهداف، والإنسان بطبعه عجول ولذا فإنّ مناصريه أكثر. والدكتور الترابي يتبنّي التفكير التجريدي ولكنه ليس ابناً شرعياً له، فهو استخدمه لخدمة أغراضه ولم يستخدمه للبحث عن الحقيقة المجرّدة، ولذلك غلب على تفكيره التفكير الانتقادي الذي ألبسه ثوب التفكير النقدي وبينهما فرق. وقد حاول أن يحذو حذو الإمام محيي الدين بن عربي ليكون إمام المجددين الذي قال:
لست ممن يقول قال ابن حزم لا ولا أحمد ولا النّعمان
ولكنَّه لم يكن مكتمل الآلة، ولم يكن مجتهداً مجدّداً مطلقاً ولكنه كان انتقائياً نفض الغبار عن بعض مفاهيم السلف الخلافية واغترّ وظنّ بنفسه أكثر مما كان في فهم أمور الدين. ولو أنّه حصر نفسه في أمور الفكر والفلسفة بعيداً عن الدين والسياسة لربما استطاع أن يترك فكراً يذكر، لو أنّه شذب أدواته ومارس التفكير التجريدي المطلق على يد معلّم.
وكذلك فعل الإمام المهدي بادعاء التجديد المطلق، ولكنّه عندما قرأ لمحيي الدين بن عربي ولتلميذه الصّدر القونوي الرّومي الذي قال: كان شيخنا ابن عربي متمكناً من الاجتماع بروح من شاء من الأنبياء والأولياء الماضين، على ثلاثة أنحاء، إن شاء الله، استنزل روحانيته في هذا العالم، وأدركه متجسداً في صورة مثالية شبيهة بصورته الحسّية العصرية، التي كانت له في حياته الدّنيا، وإن شاء الله، أحضره في نومه، وإن شاء انسلخ عن هيكله واجتمع به".
وقد وجد في ذلك ضالته واتّخذه منهجاً في دعوته بادّعاء زيارة الرسول الكريم له. وقد ساعدته ظروف سياق ذلك الزمان، وقد تفشّي الجهل وانتشر خبر ظهور المهدي المنتظر، في نجاح دعوته في الأجل القريب وفشلها في الأجل البعيد، ولو أنَّه ظهر في هذه الأيام لما وجد استجابة، ولا يستطيع حفيده اليوم أن يدّعي مثل ذلك، بل إنّنا لا نجد تحليلاً فكرياً مستقلاً لحركته على يد الحفيد ولكن تبريراً لا يبدّد عتمة الجهل. ولو أنّ المستعمر لم يبعث جماعة الأنصار لتناوئ جماعة الختمية لربما لم تكن المهدية اليوم أكثر من تاريخ يُدرّس.
فالتفكير الانتقادي هو تفكير انشقاقي في أصله يتقصّى أخطاء الغير ولا ينشد الحقيقة المجردة بغير هوي وغرض، فينتهي من الحكم بتبخيس الرأي الآخر وتثبيت رأيه قبل أن يبدأ التحليل، بينما التفكير النقدي غرضه التحقّق من الافتراضات والأفكار، ومدي حقيقة محتواها وسلامة منطقها، ولذلك يجب على المفكر أن يتقبل الرأي الآخر وعدم التعصب لرأي دون آخر، بما فيهم رأيه؛ أي أنّه في عملية دائرية لنقد الأفكار الخارجية وأيضاً الداخلية، والبعد عن السطحية والاستعداد لمناقشة المسلمات. وهو ما يعرف بالتفكّر أثناء الأداء وبعد الأداء بالوعي بالعوامل الخارجية والداخلية التي تؤثر في عملية التفكير وخلاصة التفكير وهي المفاهيم الناتجة.
وبمعني آخر فعملية التفكير نفسها تثير غباراً فكرياً كثيفاً مثلما تثير الأرض لتفلحها ويجب على المفكر أن ينتظر حتى يستقر الغبار وتنجلي الصورة الكاملة ففي ظلّ الغبار الفكري قد يظنّ المرء أنَّه يمتطي حصاناً وهو يمتطي حماراً كما قال الإمام محيي الدين بن عربي:
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار؟، وكم من الناس ظنّوا أنهم أتوا بما لم تستطعه الأوائل ثمّ اكتشفوا أو اكتشف الناس أنّهم امتطوا حماراً؟
إذا أردنا أن نري الفرق بين المفكر المجتهد المجدد المطلق الذي يملك طلاقة التفكير التجريدي ونهايته بحيث تعجز الكلمات عن نقل المفاهيم وتظهر أصالة الفكر، وبين المفكر المجتهد المجدد المحدود الذي يملك بعضاً من التفكير التجريدي ووسطه ويظهر ترقية التقليد، وبين المفكر المجتهد المجدد الذي يعوزه التفكير التجريدي ويظهر إعادة التقليد، فلنتأمّل الإمام محيي الدين بن عربي يمثل الأول، والإمام حسن البنا يمثل الثاني، والشيخ محمد بن عبد الوهاب يمثل الثالث. وفي السودان لا نجد مثالاً للأول ولكن نجد مثالاً للثاني من أمثال الدكتور حسن الترابي، والأستاذ محمود محمد طه، والأستاذ عبد الخالق محجوب، والدكتور منصور خالد، ونجد مثالاً للثالث يمثله الإمام المهدي وجماعة أنصار السنة المحمدية.
أمّا الحركات اليسارية لا تختلف عن اليمينية في طريقة تفكيرها فهي الوجه الآخر للعملة. فهي تحبّذ، مثل الحركات اليمينية، البناء الحركي على البناء الفكري وتجنح للتفكير الانفعالي على حساب التأملي ولذا فوسائلها للتغيير مشابهة وهي بناء القواعد الجماهيرية، والتغيير بوسيلة الثورة وهي أيضاً فوقية مثل غيرها في برامجها تجعل من نفسها وصية على الناس ولذا فهي غير صبورة على التغيير الديموقراطي البطيء.
هذا التفكير الانفعالي والانشقاقي أدّى إلى سلسلة الحكومات المتعاقبة من شبه ديموقراطية إلى عسكرية شمولية، فكّلها كان تركيزها على حيازة السلطة كأنّ السلطة عصاً سحرياً بمجرد تحريكها ستحل المشاكل تلقائيّاً.
وهو يتنافى مع التفكير التأملي بأقسامه كلّها والاستراتيجي السليم خاصّة لأنّه يرسم خارطة الطريق باستخدام النموذج الذي يسأل الأسئلة الذكية عن: كيفية التغيير ومرحليته؟ ومن سيقوم به؟ وما هو دور ومكان للمخالفين؟ ومن الذي سيقوم بالتخطيط المتأني القائم على الدليل العلمي؟
ولذلك لم يكن لأي من المجموعات السياسية ثراء فكري يقدم برامجاً اجتماعية واضحة ومدروسة وعلمية عن كيفية التنمية، ولكن كان لها برامج سياسية لبناء العضوية واستلام السلطة، وقد بان تخبّطها وتقلّبها وتناقضها في قراراتها وأفعالها لأنّ الرؤية لم تتجاوز استلام الحكم. وإلى هذه اللحظة لا تجد لأىّ حزب سياسي حكومة ظل لها برامج علمية مطروحة، أو حضور اجتماعي مؤثّر يلبى حاجة المواطن في احتياجاته اليومية، أو جماهير واعية لا تابعة تؤمن بالأفكار لا بالأشخاص، ونجد شعارات معادة وانتقادات للآخرين مما يدل على بدائية التفكير وانعدام التفكير التأملي.
ويبدو جليّاً الفقر والإفلاس الفكري عندما ننظر إلى الجماعات في السودان فنجد أنّ الحركة الإسلامية واليسارية والحركة الشعبية ولكنّنا نجدها أكثرها تنظيماً لأنّها قامت على فكرة ولكنّها جمّدتها وسارت في درب السياسة البراغماتي. لقد بذلت الكثير لحشد الأعضاء والبناء التنظيمي ولكنّها أغفلت المحتوى الفكري إلا من عطاء القائد.
الدكتور حسن الترابي أوّل من فرّغ حركته من الاجتهاد الفكري باحتكاره له، وإقصاء مخالفيه وكذلك فعل الدكتور جون قرنق، والإمام الصادق المهدى، والسيد محمد عثمان الميرغني، والأستاذ عبد الخالق محجوب؛ وإن كان الأخير قد حاول حقن أوردة حزبه بالجانب الفكري بتفريغ بعض أعضائه للعمل الفكري، الذي وجد صدوداً وتبخيساً من الحركيين، فابتعد أمثال هؤلاء من الوعاء الحزبي واحتفظوا بالمبدأ. ولذلك ما إن غاب الأستاذ عبد الخالق محجوب حتى اضمحلّ العطاء الفكري وكذلك في حالة الدكتور جون قرنق وبعد انشقاق الدكتور حسن الترابي.
وغلبة المفكرين البدائيين الانفعاليين تمتد في كلّ الأحزاب حكومية أو معارضة إذ أنّ أعلى الناس صوتاً، وأكثرهم استفزازاً ورعونة أكثرهم جذباً للانتباه، وغلبة في الساحة، وطغياناً في المنهج والسياسات لأنّها لا ترى إلا المعارك أو الهروب وسيلة لقضاء الحوائج.
مع الأسف طغيان العاطفة وانحسار العقل وضمور الذكاء العاطفي لهم القدح المعلّى في الفوز بالسلطة والتمسّك بها على حساب التفكير التأملي. ومن الأمثلة الأخيرة الواضحة التي تغني عن إثبات الأمر تصريحات رئيس قطاع الفكر والثقافة بحزب المؤتمر الوطني الذي يمثّل القمّة الفكرية فيه من أمثال تهديد المواطنين بقطع الرقاب أو حلّ مشكلة الاقتصاد بطباعة المزيد من النقود. فهو مثال صارخ للمفكر الصلب المادي البدائي المفلس فكرياً لا يفهم معني كلمة فكر ولا يملك فكراً يقدمه.
وقس على هذا المثال. من هو المفكر لحزب الاتحادي الديموقراطي؟ وجميع الحركات المسلحة؟ ومن هو مفكّر حزب الأمّة؟ سيقول البعض الإمام الصادق المهدي، ولكنّّه ليس مفكراً تجريدياً متأملاً وإنما هو مفكر صلب انفعالي وتردّدي تضطرب المفاهيم في ذهنه، ولذلك يغير من مواقفه وقراراته استجابة لما تتطلب المرحلة من فعل فيه مصلحة حزب الأمّة وأسرته خاصّة.
وكيف لمفكّر يخلط المفاهيم والمواقف فهو مثلاً زعيم لحزب وطني يسمّي نفسه بحزب الأمّة وفي ذات الوقت إمام طائفة الأنصار؟ وهو رئيس الوزراء الشرعي الذي يعمل ولده مساعداً للشخص الذي اغتصب منه السلطة، والذي يجب أن يكون عدوّه لأنّه زعيم المعارضة ثمّ يجعل هذا الرئيس وكيلاً لولده في زواجه ويجلس معه يضحك والناس تموت جوعاً؟ هذا مثال للفوضى الفكرية نتيجة التفكير الترددي البدائي لشخص لا يفهم نفسه المتناقضة، ولا يدري ماذا يريد من الحياة ويظنّ أنّه الطبيب المعالج لكلِّ علل العالم.
وهب أنّنا اتفقنا جدلاً مع مناصريه على صفة المفكر التجريدي فمن الذي سيخلفه وهو قد احتكر الوظيفة الفكرية كما احتكرها جدّه الإمام المهدي فخلف بعده الخليفة عبد الله التعايشي بتفكيره البدائي الصلب والتذكرى فأورد البلاد المهالك؟
وما أمر الدكتور الترابي والمشير البشير ببعيد عن مماثلة الإمام المهدي والخليفة عبد الله التعايشي. رجال الأمن والمليشيات يماثلون الجهادية في عنفهم وظلمهم وتعديهم على الحرمات مما لا يتفق مع عرف أو دين أو قانون. الخليفة عبد الله التعايشي ولّي أهله مقاليد الحكم لثقته بهم والبشير ولّي العسكر. الخليفة عبد الله التعايشي أدخل البلاد في حروب عبثية أكثرها ضدّ قبائل السودان وقتلهم بغير شفقة فقادت للمجاعة، والمشير البشير فعل مثل ذلك وهكذا.
وقد يظنّ البعض أنّ حزب المؤتمر السوداني يقوم على فكر ولكنّه يقوم على شعارات أكثر من فكر، أو على شذرات فكرية مشوّشة لا انسجام بينها، ولا نظرية شاملة ذات صلات منطقية تفسّر خطابها، وإنّما هي تنادي بالحرية والديموقراطية وما شابه من غير فكر تأسيسي، أو خطط استراتيجية واضحة أو حتى حكومة ظل بديلة.
لا شكّ أنّهم حاولوا الانعتاق من الأيديلوجية ولكنّهم وقعوا في شركها بالدعوة لعلمانية الدولة بطريقة غائمة، ولا شكّ أنّ حظّهم لبناء فكر متكامل أكبر فهم يطبقون بعضاً من شعاراتهم في أروقة حزبهم ولا يوجد عندهم مفكر أوحد، ولكن لا يوجد لديهم حاضنة فكرية أو دار بحوث، أو دار نشر.
كلّ هذه الحركات والأحزاب تتحدّث عن أهداف عليا واستراتيجية اجتماعية طويلة المدى تقضى على الفقر والمرض، وتبثّ الأمن وتثبّت دعائم الحريّة والعدل والشورى، ولكنّ فكرها غائم وقليل، ومنهجها غير واضح، ونتائج جهودها متواضعة في أفضل الأحوال، وانشغالها بالتمسّك بالسلطة أو السعي لها يطغى على كلّ نشاطها.
ولذلك انشغلت القوى السياسية بالانفراد بالرأي وإقصاء الآخرين مستخدمة الفكر البدائي الانشقاقي: (من ليس معي فهو ضدي، ومن هو ضدي فهو جاهل أو خائن أو معوّق لأنّ المعرفة محصورة فيما أعرف)، وأيضا باستخدام التفكير الانفعالي كمثال التهديد بالعودة لدائرة الحرب، أو التخويف بانعدام الأمن، أو الثورة الشعبية أو الانسحاب من الحكومة، أو ضرب المتظاهرين والتهديد بعقاب المخالفين بدعوى تهديد الأمن القومي.
كلّها انشغلت بمعالجة الكوارث بتفكير انفعالي متسرّع أفرخ كوارث أخرى حتى صار الديدن المعالجة المزمنة للكوارث، ولم يكن ذلك لانعدام الموارد ولكن لعدم وضوح الرؤية بانعدام أنواع التفكير التأملي كالاستراتيجي، وخلط الأولويّات، وعدم الاعتماد على الدليل والعمل الجماعي، أو تقليد أهل الخبرة والكفاءة.
هذا الضمور الفكري ناشئ من يفاعة الأمة السودانية، فهي كالطفل في صباه تتحكّم فيه الأهواء، ويعوزه الذكاء العاطفي والإبداعي والروحي والاجتماعي والثقافي، لأنّه يرى مصلحته المباشرة هي الأهم حتى وإن أدّت إلى ضرر لاحق للوطن، كالصبي المراهق الذي يضع هواه أمام منفعة أمّه التي تأويه، ممّا يؤدّى إلى تقلّص فرصته من التعلّم من أخطائه حتى يكبر.
لهذا فمن المتوقّع لهذه الأمّة أن تتجرّع من نفس الكأس المر لما يقرب من خمسين سنة قادمة، قبل أن تنتبه لمرضية التفكير الصلب المادي البدائي، وتتبنّى التفكير التأملي بأفرعه وأقسامه، وتتّحد على أسس المصالح المشتركة والمواطنة بعد أن يمر على السودان ثلاثة أجيال أخري. ولكن قبل ذلك فهي في طرقها للتشرذم بانفصال الجنوب أولاً ثمّ تكريره لنفس مأساة الشمال بالدخول في نفق الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، والحكومات الشمولية، ومطالبة بعض القبائل بالانفصال بدعوى التهميش.
).2009(هذه الخاتمة كُتبت في نهاية هذه الحلقات عندما نشرتها لأول مرّة عام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.