الجيش في الدول الديمقراطية يعتبر مؤسسة سيادية كغيرها من المؤسسات السيادية المتعددة التي تنص عليها الدساتير كالبرلمان والقضاء ورئاسة الدولة . وهي المؤسسة التي تتمتع بالأستقلال والحياد التام تجاه النظام السياسي . والدول المدنية حقيقة لا تعرف ظاهرة الأنقلابات العسكرية أو ظاهرة تدخل الجيش في الشأن السياسي , من خلال الأنتصار لفريق سياسي ضد فريق آخر , خلال عملية التنافس السلمي علي السلطة , كون السياسة في النظام السياسي الديمقراطي مجرد لعبة مدنية صرفة ومجال مفتوح لجميع المواطنين وحق من حقوقهم المدنية التي كفلها الدستور سواء من حيث تشكيل الأحزاب السياسية والترشيح في الأنتخابات العامة وغيرها . والجيش عنصر من عناصر القوة السيادية التي يتكون منها ركن ( السيادة ) أحد أركان الدولة السيادية الثلاثة وهو ما يعني أن الجيش ليس أداة بيد السلطة الحاكمة بل هو من أدوات الدولة السيادية ولا يمارس إلا المهام المقررة له دستوريا والمحددة بحفظ كيان الوطن وسيادة الدولة من الأخطار . ولذلك إن التاريخ السياسي للدول الديمقراطية الأوربية مثلا والدول الغربية عموما لم يعرف ظاهرة الأنقلابات العسكرية أو يدخل الجيوش في الشؤون السياسية من حيث فرض حكومات أو إسقاطها , ولم يعرف ظاهرة الحزبية فيه ولا يعتمد إلا الكفاءة في العمل العسكري , وبعبارة موجزة هو جيش محترف دون ولاءات سياسية . أنني أعيش في بريطانيا منذ سبعة سنوات وقد زرت معظم المدن في بريطانيا أبتداءا من لندن العاصمة وأكسفورد وبيرمنجهام وكمبيرج ونيوكاسل ونوتنهام ومانشستر ولبربول وليدس والشيفيل وبرادفورد ورديدنق وغيرها من المدن السياحية ولكن لا تصدقوني لوقلت لكم إنني لم أري في الشارع عنصرا من الجيش البريطاني بزيه العسكري ولا آلية عسكرية ولا الدبابة , خلال كل هذه الفترة الزمنية الطويلة , وتجوالي في طول البلاد وعرضها , ماذا يعني هذا ؟ أكيد لا يعني أن المملكة المتحدة لا تملك الجيش بل بالعكس أنها الأمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس , فهي الآن أقوي من تلك الزمن وهي مقدمة الدول القوية عسكريا وصناعيا وتقنيا وأقتصاديا وثقافيا , وتملك جيوشا جرارة , ولكن الجيش يعرف دوره ومهمته الأساسية , و لذلك لا يسمح للجيش أن يتجول ويتبختر في شوارع المدن بكامل أسلحته وزيه العسكري كما يحصل عندنا في العالم الثالث , لكي لا يعطي مظهره ميزة مميزة فوق الشعب و يؤدي ذلك الي تخويف الشعب المسالم وهو تتعارض مع مبدأ الأطمئنان النفسي والأحساس بالمساواة , ولذلك يلبس العساكر ملابسهم العسكرية داخل معسكراتهم فقط . أما في طرق العامة فهم كالمواطنين تماما . وربما جارك المباشر قد يكون جنرال في الجيش وأنت لا تدري , فهم أناس في قمة التواضع ولا شيئ يوحي لك أنه مسؤول يتربع علي منصب الرفيع في الدولة , ولا يتدخلول أبدا في القضايا والخلافات السياسية مهما كانت . وفي هذا المنوال نستطيع القول بأن المدخل الأساسي لفهم الوضع الأعتباري للجيش في الدولة السيادية الديمقراطية الليبرالية هو ضرورة التمييز القاطع بين الدولة والسلطة كما جاء في الفكر السياسي الحديث . فهناك من يعرف الدولة من فلاسفة هذا الفكر بأنها الكيان السيادي الجامع لكل عناصر القوة السيادية للشعب وتمارس الحكم عبر نظام سياسي تعددي مؤسسي يعبر عن ما هية – الشعب ويحقق مبدأ سيادته علي نفسه وأرضه منافعه وبالتالي فالدولة وفق هذا المفهوم ( هي الثابت الوطني ) أما السلطة فعادة ما تعرف بأنها سلطة حكم منتخبة لأدارة الشأن العام التنفيذي في فترة زمنية محددة والمنتمية الي حقل الممارسات السياسية وبالتالي هي ( المتغير الوطني ) وفقا لهذين التعريفين لكل من السلطة والدولة من المهم الأشارة الي ضرورة التمييز القاطع أيضا بين ( السيادة ) و( السياسة ) فالسيادة هي مجال التعبير عن كيان الأمة والدولة ككل والتي يشارك المواطنون جميعا في صنعها من خلال الأتفاق علي العهد الأجتماعي وأقرار الدستور وشكل النظام السياسي الحاكم والأنتخابات العامة كوسيلة لتداول السلطة , وهي الأمور التي لا تخضع للمنافسة السياسية , بعد أقرارها وأنما تخضع للأجماع الشعبي العام . أما السياسة فهي التي يتحقق فيها مبدأ المشاركة السياسية من خلال المساهمة في إدارة الشأن العام وصنع القرار وإدارة السلطة ومراقبتها . وعلي هذا الأساس وبناء علي أستقلال الموضوع ( السيادي الكياني ) عن الموضوع ( السياسي التافسي ) فإنه يحظر علي السيادي التدخل في السياسي أو العكس , وهذا ما يفرض علي الجيش ألتزام موقف الحياد تجاه الصراع السياسي بإعتباره مؤسسة سيادية طبقا للعقد الأجتماعي الدستوري , ودوره الأساسي حماية الوطن من المخاطر الخارجية التي تهدد وحدة الوطن والمجتمع . ولكن ياتري ما مضمون شكل الدولة السيادية ؟ الدولة السيادية في هذه الدول كغيرها من دول العالم تتكون بحسب توصيف القانوني لدول من ثلاثة أركان وهي : 1 – الشعب . 2 – الأرض . 3 – السيادة , بما فيها سلطة النظام السياسي الحاكم أو النظام السياسي التعددي بشقيه ( السلطة + المعارضة ) كون المعارضة تمثل أحد مكونات الدولة السيادية مثلها مثل السلطة ويمكن التفصيل لمضمون هذه الأركان وفقا لما يلي : الركن الأول ( الشعب ) هو الشعب الذي يمتلك السيادة ويمارسها علي أرضه بكامل حريته إذ لا سيادة لشعب لا يملك حريته ولا إرادته . الركن الثاني ( االأرض ) هي الأرض التي يملكها الشعب ملكية تاريخية , برها وبحرها وجوها وكامل خيراتها وثرواتها الباطنية والظاهرة بدون منازع والتي يمارس عليها سيادته بحدودها السيادية المعلومة إذ لا سيادة لشعب خارج حدود أرضه الركن الثالث ( السيادة ) وهي السلطة السيادية العليا أو ما تسمي ب ( شرعية الولاية العامة ) أو سلطة الأمر والنهي الذي تمارسه الدولة بإسم الشعب ويتكون هذا الركن من عدد من عناصر القوة السيادية يختلف عددها من بلد الي آخر بحسب القوام الأستراتيجي السيادي الموجود في كل بلد , وفي معظم الدول التي تحترم هذه النظم يمكن تحديد عناصر هذه القوة السيادية بصورة جدية من ستة عناصر رئيسية وهي كما يلي : العنصر الأول ( القوة السياسية ) العنصر الثاني ( القوة المدنية والشعبية ) والعنصر الثالث ( قوة الثروة ) العنصر الرابع ( قوة المبادئ العليا ) العنصر الخامس ( قوة العلاقات الدولية ) العنصر السادس ( القوة العسكرية ) إن المؤسسة العسكرية هي أهم مكونات الركن السيادي للدولة السيادية وعلي هذا الأساس فإن المؤسسة العسكرية تمليه الأرادة القيادية الجماعية للجيش , وإرادة قيادة الجيش محكومة بمجمل الأرادات الأخري لعناصر القوة السيادية للدولة مجتمعة التي تعبر بشكل جمعي عن الأرادة السيادية للشعب والتي يمثلها رئيس الدولة السيادية الذي هو القائد الأعلي للقوات المسلحة ولهذا فإن كل دساتير الدول تنص بأن الجيش ملك للشعب وبالتالي فهو جزء من قوام الدولة السيادية وليس لسلطة الحاكم , وكما لايجوز للجيش أن يتجاوز سيادة الشعب ولا أستيلاء علي سلطته مهما كانت الظروف , ولهذا السبب لا نجد الأنقلابات العسكرية في الدول الغربية الديمقراطية ابدا . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.