عبرت الجبهة الثورية في بيان بتاريخ 29 يوليو بتوقيع السيدين مالك عقر ومني مناوى عن قلقها العميق لتنصل قحت من اتفاقها معها في أديس أبابا. ورأت في ذلك إهانة تحتملها حرصاً منها على وحدة الصف الوطني. وإزاء هذا الموقف الذي وصفته الجبهة الثورية بالمؤسف وجهت سؤالين لقحت. واحد منهما عن مدى استعداد قحت ما يزال لإدراج وثيقة الجبهة الثورية التي تتعلق بالسلام والتحول الديمقراطي بكاملها كما جرى الاتفاق عليها في أديس أبابا. وأمهلت الثورية قحت 48 ساعة للإجابة على سؤاليها. لا أعرف لماذا احتاجت الجبهة الثورية لوثيقة أخرى عن السلام والتحول الديمقراطي. وهي مسألة خضنا فيها بالتفاصيل المملة في وثائق لم ينجو بلد أو قطر من استضافتها خلال الثلاثين عاماً من الإنقاذ. فلم يترك إعلان باريس (6 إلى 8 أغسطس 2014) فرضاً ناقصاً في المسألة. وهو الميثاق الذي اجتمعت فيه قوى المعارضة بباريس ووقع عليه كل من السيد الصادق المهدي عن حزبه والسيد مالك عقار عن الجبهة الثورية. وكان هو التعاقد الذي انتهى إلى تكوين نداء السودان لاحقاً. وبذل الموقعون الإعلان لعناية كل القوى الأخرى الراغبة في التغيير. وليس منها من لم تكن مادة الإعلان من محفوظاته الأولية من فرط ما تغنوا به. المسألة الجوهرية التي اثارتها الجبهة الثورية في ظرفنا الحالي هي وجوب تلازم الديمقراطية والسلام. فمن رأيها أن قيادات الثورات في 1964 و1985 انشغلوا باستعادة الديمقراطية على حساب استتباب السلام في الهامش. وخشيت الجبهة أن يكون هذا التفضيل سنة في ثورة ديسمبر كذلك. وقول الجبهة الثورية عن الثورتين هنا مرسل. فعقدت ثورة أكتوبر مؤتمر المائد المستديرة للسلام في منتصف مارس 1965 بعد 4 شهور من تولي حكومة الثورة الأمر. ولم تنعقد الانتخابات إلا في يونيو 1965. وإذا تركنا هذا الأمر جانباً فسنجد أن إعلان باريس قد فرغ من تقرير تلازم الديمقراطية لا يستبق واحدهما الآخر. فاتفق الطرفان فيه أنه "لا تناقض بين رغبة شعبنا في حل سلمي شامل في إطار عملية دستورية توقف الحرب وتحقق الانتقال الديمقراطي والانتفاضة السلمية كخيار مجرب". وعاد الإعلان للمسألة مرة أخرى بقوله "وأكد الطرفان أن تفادي التوجهات الإثنية يكمن في الوصول لدولة المواطنة المتساوية وتحقيق تحول ديمقراطي كامل". وخص الإعلان المناطق التي تأثرت بالحرب بذكر خاص. فهي في قول البيان "ذات طبيعة خاصة، ويرى الطرفان أن تكون الأولوية لمعالجة الأزمة الإنسانية ومخاطبة أمهات قضايا الأقاليم التي تدور فيها الحرب وعلى رأسها قضايا أمن المواطن والنزوح واللجوء والأرض وتعويض المتضررين فردياً وجماعياً والعلاقة مع المركز وإعادة بناء الدولة السودانية والتمييز الإيجابي للأقاليم المتأثرة بالحرب". لا أعرف ما الذي جاء في مذكرة الجبهة الثورية، التي أمهلت قحت 48 ساعة لإدراجها بكاملها (وصمت المُمهل عن ذكر أين تدرج)، ما لم يرد في إعلان باريس ومن لف لفه. فقد صار المطلب في السلم والديمقراطية (بل وجدلهما) مما لا يوقد له ضوء. لقد تجمر جدلهما خلال ثلاثين عاماً من التفكر في ما بعد الإنقاذ. ولو احتجنا بعد هذا كله إلى مذكرة للجبهة الثورية خاصة ( تمخضت من أسبوعين ثوريين عزيزين في أديس أبابا) لكان ما انفقناه من وقت لنقاش ذلك الجدل لعقود ثلاثة نقشاً على الماء أو الرمل. من جهته حذر ياسر عرمان القيادي بالجبهة الثورية من عدم التزام قحت بنتائج اجتماع أديس أبابا بهم. فمن شأن ذلك في قوله أن يساهم في "تمزيق السودان والوجدان الوطني" وبطريقته المهجسة ب"أسماء في حياتنا" جعل اجتماع أديس رجع صدى ل"لصوت علي عبد اللطيف المجلجل، وصوت عبد الفضيل ألماظ المخضب بالدماء، وصوت عبيد حاج الأمين من مرقده في مدينة واو، وأعاد الاجتماع احتجاجات استانسلاوس بيساما، وفرانكو ويل قرنق، وبوث ديو، وجوزيف أوكيل قرنق، وبنجامين لوكي العميقة، على غياب المواطنة التي أدت إلى غياب الجنوب". ووصف الاجتماع مع قحت كحدث فريد. فمن رأيه أنه أعاد "إلى واجهة الحوار قضايا السودان الجديد، وشعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة، وضرورة أن يتحدث الناطقين والمفاوضين (؟) باسم الثورة بلسان فصيح وطليق عن السلام العادل والشامل وعن دولة المواطنة" سخر ياسر ممن أخذوا على الجبهة الثورية جنوحها للمحاصصة في وظائف الدولة الجديدة. وقال إن من أخذوا عليهم طلبهم المحاصصة هم المحاصصون. وذكر طرفة تُراجع في موضعها. وأراد من ذلك أن من اتهموا الجبهة الثورية بالمحاصصة إنما يريدون الاستئثار بتلك الوظائف دون الشباب والنساء وقوى الهامش التي لعبت دوراً طليعياُ في مقاومة الإنقاذ لثلاثين عاماً حسوما بينما احتل "رأس هرم الثورة (القائمة) مجموعات النخب السياسية ذات المحدودية السياسية والجغرافية في أغلب الأحيان . . . وأضحت قيادة الثورة ذات محدودية لا تعكس تنوع الفئات التي شاركت في الثورة". ويكاد المحاصص أن يقول خذوني. فذكر ياسر هذا النقص المعيب في مادة الشباب والنساء والهامش في الثورة أربع مرات في كلمة قصيرة: 1-" غياب الهامش والنساء والشباب يشكل خطر (؟) على مستقبل الثورة" 2-وضرورة ألا يغيب الهامش والنساء والشباب عن الوثائق المبرمة" 3-الثورة قامت ل"تكمل مكارم الوطنية وتحطم قوانين الماضي التي استبعدت الهامش والنساء والشباب من العملية السياسية" 4-"إن توحيد قوى الثورة يمر ببوابة التمثيل الحقيقي للنساء والهامش والشباب في مراحل إعداد الوثائق والتفاوض والتوقيع والتنفيذ ومؤسسات السلطة الانتقالية". لا غلاط أن قضية السلام والديمقراطية مما أوسعتها الحركات المسلحة والأحزاب نقاشاً كما رأينا في إعلان باريس (2017). وصارت المسألة من المعروف بالضرورة لا ينبغي لها أن تشغل قوى ثورة يحدق بها خصم شديد ولضيض لمدة أسبوعين عن واجباتها. كان اجتماع أديس أبابا زائداً عن الحاجة جداً. فإذا اتفق لنا أنه كان من فضول القول لم يبق للاجتماع من هدف سوى المحاصصة. وكان ذلك مطلباً للجبهة الثورية ذاع في الوسائط وخاضت في تفاصيله من جهة حظوظ الثورية في دست حكم. ولم تقبل قحت بذلك. وقارئ ياسر عرمان لن يخطئ تكريسه للمطلب بإلحاح عجيب عن وجوب تمثيل النساء والشباب . . . والهامش. وفي عمومية ذكية. وفي كلمة أخرى سنتطرق للطريقة المؤسفة التي حملت الجبهة الثورية بها الخلافات الشخصية التي ضربتها منذ تأسيسها في 2012 إلى حرم الثورة وأدت إلى انعقاد اجتماع أديس أبابا بغير حاجة ملجئة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.