تأمل أن تنجلي الامور سريعاً وتبدأ مسيرة العهد الجديد للسودان الذي نريد ، ولكن ينبغي أن لا نغالي في أحلامنا بعهد وردي دون تحديات ، إذ تنتظر البلاد عقبات ومشكلات داخلية وخارجية تحبس الانفاس ، دونها عسر وعثرات الاتفاق على شكل مقبول لحكم البلاد بسبب الريبة وعدم الثقة التي سادت العلاقة بين المجلس العسكري وبين مفاوضيهم من ممثلي قوى الحرية والتغيير وأيضاً بسبب تداخلات أطراف داخلية وخارجية معادية مرئية وغير مرئية. في كل الاحوال ينبغي وبالضرورة أن تركز حكومة الكفاءات القادمة على التنمية والانتاج في كل القطاعات وسوف تتوفر الامكانيات بإذن الله من مواردنا إذا صدقت النوايا لإعادة بناء الدولة بمؤسسات ونظم عمل حديثة تعكس آخر ما وصلت إليه البشرية ، وإلا فما فائدة حكومة كفاءات. تكاد الرؤية تكون واضحة لما ينبغي عمله من حيث آليات ونظم العمل في كل الوزارات الاساسية التقليدية مثل التعليم والصحة والزراعة والداخلية والخارجية وغيرها من الوزارات في القطاعات الاقتصادية والخدمية. تقترح هذه الورقة استحداث وزارة جديدة بمسمى "وزارة التنمية السياسية " وهي لا تقل أهمية عن الوزارات الاساسية ، بل هي ضرورية للسودان الجديد وتختص بالتنمية البشرية في جوانب ترتبط في الاساس بترسيخ مفهوم الوطنية ومعنى أن يكون الفرد مواطناً عليه إلتزامات وواجبات ينبغي أن يؤديها باتقان ؛ وهذا تصور عام للأهداف التي يمكن أن تحققها الوزارة الجديدة: 1 - أولاً : تنظيم وضبط الممارسة السياسية داخل الاحزاب الاهلية الفاعلة وخصوصاً مراقبة أدائها والتزاماتها نحو عضويتها. لقد كانت الممارسة السياسية وما تزال منفلتة وسائبة في جميع الاحزاب طوال فترات الحكم الوطني، والسبب في ذلك هو جهل المجتمع بوظيفة الاحزاب وتداخل هذا الجهل مع الولاء الأعمى لرموز وقادة الاحزاب كأشخاص مما أدى الى أخطاء ومظالم كثيرة في حق جمهور الاحزاب وفي حق الوطن وترتبط هذه الاخطاء يقيناً بدوائر فساد. ولا مجال هنا لمناقشتها ونكتفي بالقول إنها أخطاء تنظيمية تنتهك لوائح الحزب نفسه وأخطاء دستورية أحياناً ، وتتساوى في تلك الاخطاء كافة الاحزاب الطائفية والعقائدية وغيرها. اليوم ونحن على عتبة عهد جديد بحاجة الى أن تضطلع "وزارة التنمية السياسية" المقترحة بتوعية وتثقيف المواطنين عن دور الاحزاب كمؤسسات أهلية هدفها الاساسي هو السعي لتولي السلطة لإدارة شؤون الدولة ( المصطلح عليها عموماً بكلمة "الحكم" ، هذه الكلمة التي طمست حقيقة أن السلطة إنما هي لإدارة شؤون الناس وليس للتحكم في رقابهم). إن إدارة شؤون الدولة هو أمر خطير ومصيري يفرض على الحزب أن يلتزم بقيم العدالة والحرية والديمقراطية والشفافية داخل الحزب في كافة أنشطتها بالاضافة إلى وجوب أن تكون لها خطط وبرامج مفصلة وواضحة لإدارة كل شأن من شؤون الدولة. ولكي لا يترك أي مجال لخداع الشعب بالشعارات وبالهالات التي تحاط بالاشخاص عن عمد ينبغي سوف يكون من المهام الرئيسية لوزارة التنمية السياسية مراقبة وضبط وتوجيه أفعال وتصرفات الاحزاب والسياسيين لكي لا يتعدون الخطوط الحمر للمصالح الوطنية العليا. 2 - ثانياً من المهام الحيوية المتصورة أن تقوم الوزارة بدور تدريبي لتوعية وتثقيف الشباب والنشء في الجامعات والمدارس بالمبادي الصحيحة والسليمة للمواطنة. هل يمكنكم تخيل كمية المعلومات الخاطئة التي ترسخت طوال ثلاثين سنة في أذهان الشباب الذي ولد وتربى في ظل حكم رسخ ثقافة الانفراد بالحكم استعلاء على الاحزاب والمكونات الاخرى في الوطن وما تبع ذلك من ثقافة التمكين الاجرامية، إضافة الى الجهوية المقيتة التي قضت على مفهوم وحدة البلاد ، فضلاً عن واقع الفساد الذي استشرى بين الناس وقضى على اقتصاد البلاد وصار يهدد بالقضاء على أخلاق الناس. هذه التركة الثقيلة النتنة والمضلة تحتاح الى جهد كبير من وزارة التنمية السياسية لتصحيح المفاهيم خلال خطط وبرامج تعليمية وتربوية مدروسة تضطلع بها الوزارة بالتنسيق مع الجامعات ووزارة التربية والجهات الاخرى ذات الصلة ويتم بثها بقدر معقول ضمن البرامج الدراسية والبحثية في الجامعات وكمعلومات مركزة تحبب فضائل الوطن والمواطنة في مناهج المدارس الابتدائية إلى الثانوية وما يرافق ذلك من أنشطة تربوية ورياضية ورحلات داخلية. 3 - ثالثاً ، لقد تطور العمل المؤسسي شكلاً وموضوعاً من حيث الأدوات والمعدات بفضل التطور التكنولوجي ، ويعرف المتخصصون أحدث هذه الادوات والمعدات معرفة جيدة كل في مجاله. - ولكن العمل اليومي الحكومي (الخدمة العامة) بحاجة ماسة لإعادة بناء بعد ثلاثين سنة من التدمير المتعمد لنظم وأصول العمل المؤسسي. خلال هذه الفترة استحدث العالم آلية لتخطيط وتنفيذ العمل اليومي في المؤسسات الحكومية والخاصة تحمل إسماً مركباً هو " السياسات والإجراءات " وتتلخص في وجود سياسات بمعنى خطط عمل مكتوبة لكل وظيفة تحدد الاهداف المطلوب إنجازها مع اجراءات تفصيلية تحدد الواجبات والمسؤوليات المنوطة بكل وظيفة وهي تمثل لوائح العمل اليومي في كل وزارة وكل مؤسسة وهيئة وكل جهاز بالدولة. ليس هذا بالامر الجديد فقد كانت الخدمة المدنية في السودان تغطي كافة محتويات ومضامين هذه "السياسات والإجراءات" ولكن ما استجد هو أن التطور التكنولوجي أدخل تحسينات عليها من حيث تفصيلاتها وأشكالها وطرق العمل بها بما في ذلك النظم الإدارية التكنولوجية بالغة الاهمية في عالم اليوم. وسيكون دور وزارة التنمية السياسية الجديدة في هذه التطورات هو أن توفر الخبراء المتخصصين الذين لديهم المعرفة والخبرة العالية لتدريب الموظفين في الوزارات والمؤسسات ووحدات العمل العام المختلفة على تطبيق هذه السياسات والاجراءات بمعنى إسقاطها وتنزيلها على كل مجال من مجالات العمل العام باختلاف أنواعها. على سبيل المثال لا الحصر توجد سياسات واجراءات لعمليات المختبرات والعلاج الطبي والزراعة والتعليم والضرائب والجمارك والمحاكم ومسك الحسابات والمشتريات والمخازن والخزينة وإعداد الميزانية ، وسياسات واجراءات لادارة شؤون الافراد ، وهكذا كل في عمل حكومي. والجدير بالملاحظة أن فترة الثلاثين عاماً أفرغت الوزارات من الموظفين ذوي المعرفة والخبرة وحل محلهم الموالون للسلطة الحاكمة تطبيقاً لسياسة التمكين دون معرفة بأصول العمل المؤسسي السليم ودون تدريب. - هذا الدور التدريبي الذي تقوم به الوزارة الجديدة سوف يؤدي الى خلق جيل جديد من الموظفين متشرب بسياسات العمل السليمة المؤدية حتماً إلى وضع استراتيجيات وخطط الانتاج والتنمية في مختلف المجالات وإلى ترسيخ أسس الدولة العميقة التي لا تتأثر بتداول سلطة الحكم وبتداول المناصب الدستورية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.