ثمة لغط كثير أُثير حول مفهومى الهامش والمركز فى السودان.وربما تكون المشكلة الحقيقية هى إخراج هذين المفهومين من سياقهما ومن أصل منشأهما. وطفق بعض القوم يسقطها على الوضع السودانى السياسى، الإقتصادى والثقافى. والملاحظ أن هذا البعض هم من العامة The mob الذين يعتمدون على التلقى وعلى الثقافة السماعية. بيد أننا نهدف فى هذا المقال إلى "نص الحديث إلى أهله فإن الوثيقة فى نصه" كما يقول الشاعر طَرَفَة بن العبد. من أين أتى مفهوم الهامش والمركز؟ Centre and Periphery?:- إرتبط صوغ مفهوم الهامش والمركز بابناء المستعمرات السابقة وبالأدب ما بعد – الكولونيالى.وبروز المفهومين عبارة عن ردة فعل على (المركزية الأُوروبية) أو هيمنة المستعمر السياسية، الإقتصادية، الفكرية والثقافية. وأصبح ذلك الأدب ينحو نحو التعبير عن الضحية. لكن ثمة ما يدحض ذلك فى الواقع العملى. فثمة مستعمراتٌ تجاوزت (دور الضحية) وتقدمت فى المناحى آنفة الذكر. ولعل أكثر النماذج وضوحاً الولاياتالمتحدة الأميريكية، التى تجاوزت المستعمر السابق الأمبراطورية البريطانية، ليس على الصعيد الإقتصادى والثقافى فحسب، بل حتى على المستوى السايكلوجى المتمثل فى تجاوز الإيرلنديين الهاربين من جحيم العنف الطائفى والإسترقاق،الإعاقة النفسية، إذ أصبح الرؤساء المنحدرين من أُصولٍ إيرلندية يُشَارُ إليهم بالبنان فى المملكة المتحدة نفسها، وأصبحوا مصدر فخر. يقول الكاتب زياد العنانى إن : "نظرية المركز والأطراف قائمة على وجود مركز قوى يهيمن على باقى أطراف الكرة الأرضية. وهذا المركز تقف فيه قوى عالمية متحالفة إستراتيجياً من أجل هدفٍ واحدٍ هو السيطرة والهيمنة على كامل دول الأطراف وعدم السماح لها بالإنضمام إلى دول المركز" أ.ه. وفيما نحن بصدده فى هذا المقام، أى إستخدام المفهومين فى السياق المحلى فى السودان، فالمركز يعنى الوسط النيلى الذى حُظِىَ بالتنمية والخدمات الأساسية ويهيمن أهله على مقاليد الحكم، الموارد، التمويل والمشاريع الرئيسة. بينما الهامش يعنى المناطق الأُخرى غير المركز التى يزيد تهميشها كلما زادت بعداً عن الوسط النيلى فى الإتجاهات المختلفة. وربما من المثير للضحك أن يتلقف كلمة الهامش متمردو دارفور وجنوب كردفان. وفى التوجيه المعنوى للمتمردين، وعلى غرارِ محاكاةٍ لما ظلت تردده الحركة الشعبية لتحرير السودان حول المناطق المحررة والمناطق المهمشة تم إصباغِ صورةٍ جديدةٍ على مفهومِ الهامشِ والمناطق المحررة كنقيضين. وتلقفت ذلك الحركات المسلحة فى دارفور من دون تمحيص،أو لأنها تعتمد على المحاكاةِ وليس لها القدرة المعرفية والتنظيرية لذلك التمحيص. لا بد لنا وفى سياقِ حديثِنا عن الهامش والمركز فى الفكر والأدبيات ما بعد- الكولونيالى، أنْ نذكر شيخ الماركسيين فى العالم العربى، فى أفريقيا والعالم الثالث، الدكتور/ سمير أمين. وسمير أمين لمن لا يعرفه، هو مفكر فرنسى وُلِدَ لأبٍ مصرى وأمٍ فرنسية. وهو مفكر سياسى، إقتصادى ومحلل سياسى للأنظمة السياسية العالمية. وكثيراً ما تحدث وأنتقد تبعية العالم الثالث أو الجنوب لأوروبا أو للشمال، حتى قبل ظهور مفهوم المركزية الأوروبية. وله عدة مؤلفات إلتزم فيها إلتزاماٍ صارماً بالتحليل الماركسى وخطابه يستدعى المدرسة الماركسية الكلاسيكية القديمة ومفرداتها وحصيلتها اللغوية من لدن:- التراكم على الصعيد العالمى التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة الأمة العربية "القومية وصراع الطبقات" قانون القيمة والمادية التاريخية أزمة الإمبريالية أزمة بنيوية يقول الكاتب أديب نعمة:- " يَعتَبِرُ سمير أمين أن لكل نظام مركزاً وأطرافاً، وأن التغيير والتجديد يتولدان عادةً من (من حيث المبدأ)، فى الأطراف لا المركز.فالمركز يملك عادةً من الديناميات الداخلية، ما يمكنه أنْ يكونَ أكثر قدرةٍ على حل مشكلاته من داخل النظام ولأنه يملك أيضاً القدرة على حل مشكلاته على حساب الآخرين، أى الأطراف – الهامش- من خلال السيطرة والإستتباع وإستغلال أو نهب الموارد بشكلٍ مباشر أو غيرِ مباشر..." أ.ه. وهنالك من إهتبل الفكرة وتقمصها بالطبع من دون "نص الحديث إلى أهلهِ"، وأهلُه فى السياق العربى الأفريقى هنا هو الدكتور/ سمير أمين، أحد مجترحى نظرية الهامش والمركز ضمن كثيرين من كتاب ِ ومفكرى العالم الثالث "الضحايا" "المهمشين" أو أبناء "الأطراف"، "الجنوب" مقابل "المركزية الأوروبيةِ" أو "الشمال". إن عملية إسقاط مفهومى الهامش والمركز على الحالة السودانية ما بعد الإستعمار، والإستخدام الجزافى للعامة لهما يغفل أو يجهل "العملية التاريخية" التى حدثت فى السودان عقب الثورة المهدية والغزو الصليبى لدارفور كآخر سلطنة "رسالية" كما وسمها ثيوبولد فى سفره: (السلطان على دينار آخر سلاطين الفور)، ويعنى بالرسالية "الدعوية". هدف الإستعمار الإنجليزى إلى تغيير البنية الديموغرافية الجهادية للمجموعات التى كونت قوام مقاتلى المهدية. عندما إستتب الأمر للبريطانيين عقب مقتل الخليفة عبدالله التعايشى، كان عدد سكان السودان، بحسب إحصائية المستعمرين أنفسهم، أقل من مليونى نسمة. قيض الله هروب أعدادٍ كبيرةٍ من الكنغوليين من ما عرف يومئذٍ بالكونغو الحرة أو الكنغو البلجيكى. وذلك هرباً من عسف البلجيك وعنصريتهم التى تجلُ عنِ الوصفِ. وجد الإنجليز ضالتهم فى إيواء الكنغوليين فى السودان -(قُدِّرَ عددهم بمليونين) - ورفضوا إعادتهم على الرغم من إلحاح مملكة بلجيكا على ذلك، لغرضين إثنين: أولهما إستخدامهم لتغيير البنية الديموغرافية للسكان. والهدف الثانى هو إستخدام المهاجرين كعمالة للإنتاج الزراعى. كما شجع البريطانيون الهجرات من نيجيريا ومالى (الشيخ عمر الفوتى). حيث قدر أحد الباحثين عدد المهاجرين من نيجيريا إلى الوسط النيلى بخمسة وسبعين ألفاً، استقروا فى منطقة سنار وأحد الأحياء الشهيرة فى أم درمان. كما أن الشيخ عمر الفوتى قاد خمسة وعشرين ألفاً من أتباعه الذين إنصهروا فى مكونات قبلية مشهورة. كما تم جلب المئات من الزنوج من مزارع القطن فى الولاياتالمتحدة الأميريكية إلى مشروع الزيداب الذى تم تأسيسه عام 1910م . إندمج أولئك الزنوج فى مجتمع المنطقة الصغير قليل التعداد يومئذٍ. فى ظروف إبتعاد مكونات المهدية إلى الأطراف، هرباً من ملاحقة الإنجليز، مضت بريطانيا فى إنفاذ سياساتها الإقتصادية بمن تعاون معها ممن كان لهم غبن على المهدية. وبلغت تلك السياسات أوجها بإنشاء مشروع الجزيرة وتمليك المهاجرين الأرض بلا مقابل وبلا هُوِية، لإنتاج القطن. وكانت العمالة التى يتم جلبها سنوياً "للقيط" القطن، تبقى ولا تعود إلى ديارها وخاصةً تشاد. وبعد الإستقلال منحتهم الأحزاب الجنسية مقابل أصواتهم فى الإنتخابات. وبميراث صرعة الإنتماء العربى أضحت كثيرٌ من القبائل الأفريقية فى السودان الأوسط ومن ثم الساحل (السهل) الممتد من المحيط الأطلسى حتى البحر الأحمر تدعى النسب العربى لما لذلك الإدعاء من مناقب يدرها من لدن النسب الشريف والمكانة الإجتماعية والإقتصادية. تم إدماج المهاجرين ضمن السياسة الإستعمارية فى عملية إستيعاب assimilation كاملة وسرعان ما تماهوا مع الثقافة السائدة ذات الإنتماء العربى. وهذه العملية خلقت تشويشاً غير مسبوق، وجعلت القبلية تحتل جزءاً كبيراً من تفكير السودانيين. الميزات التى حصل عليها من تم إستيعابهم فى المنظومة الإقتصادية الإستعمارية البريطانية كانت كبيرة، مقارنةً بما حصل عليه الذين قطنوا الأطراف – لنقل ظرفياً – "الهامش" أو "الضحايا" وأصبح ذلك ميراثاً بعد الإستعمار. إذاً المسألة ليست كما يحاول أنْ يصورها من أسقط مفهومى الهامش والمركز على الحالة السودانية المعاصرة. فأنت تجد فى الوسط النيلى مناطق أقل حظاً فى التعليم والخدمات ونموذج العيش، مقارنةً بمناطق "الهامش"/ "الأطراف". والأمر ينطوى على إبتزاز سياسى. وثمة ما يدل على ذلك على نحوٍ صارخ، يتمثل فى نموذج وصول الجبهة الإسلامية القومية إلى السلطة بإتخاذها الإسلام مطية توصلها إلى سدة الحكم وستاراً يذر الرماد على العيون - إخفاء المشروع القبلى- لتحقيق أهداف "لينين أفريقيا" كما كان أحد أساتذة الأنثروبيولوجيا يسم الشيخ حسن بصورةٍ ساخرة، فى تلخيصٍ "لشيطان التفاصيل". "إن وصول الجبهة الإسلامية للسلطة فى يونيو 1989م، يمثل ذروة نجاح المشروع الإستعمارى فى إحداث تغيير جذرى - فى البنية الإثنية المهدوية - غير قابل للإنتكاس. والسؤال الذى يطرح نفسه هو هل نجحت تلك الإستراتيجية فى تحييد الإسلام الجهادى؟ الإجابة قطعاً: لا. وهذا أمرٌ سنتناوله فى مقالاتٍ لاحق. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.