وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزْمَةُ الخِطَابْ.. خِطَابُ الأَزِمَةْ :قراءة سودانية للأزمة الوطنية لمساهمات المفكر الماركسي الشهيد “مهدي عامل.. بقلم : محمد عثمان (كجراي):
نشر في حريات يوم 06 - 01 - 2012


بقلم : محمد عثمان (كجراي..
-1-
مع أنيّ ، الكاتب ، ممن يرون في المقدمات تحرجا بائسا لتبرير ما سيأتي ، أو تحذيرا يقع بعد فوات الأوان ، لما ستقع عليه عينا القاريء الحصيف ، إلا أن المقدمات في ذاتها ضرورة لأن يحدد الكاتب نفسه في إطار معرفي معين ، تجنبا للتعاميم المخلة والإسراف بلا جدوى ، وسعيا منا لوضع “فرشة” تبنى عليها قراءاتنا الآنية واللاحقة .
كسر البداهات..هو هدفنا الرئيس ، إن قراءة السودان ككائن ميثولوجي يقع خارج حركة التاريخ..”فريد عصرو” هذه الذي هو وطن عجيب ، وتعدده فريد ، لا بد من إعادة السودان إلى حقله المعرفي ، داخل حركة التاريخ هنا نقطة البداية ، وهنا يتجلى المنهج العلمي في مهمته النبيلة للنقض ، نقض كل ما هو غير علمي، ولا نبطن في معيتنا من كنانة معرفية ، سوى تراثنا الإنساني المتقدم والماركسية ، كمنهج تحليلي ، ومهما جاملنا وأخضعنا الفكر لمسائل التكتيك والمجاملات الإجتماعية ، فإن الماركسية لا يمكن أن تتحول وتنتبذ ركنا قصيا في متحف الخزف الفكري ، متحف التاريخ وخزانة الأفكار ، فأي منهج نبتغي ، ونحن نود أن نفك تعاقيدا ليست في عناصر الكل السياسي ، بل في الكل الديكارتي ذاته ، وأن نبني قراءتنا على عوامل أساسية ظاهرة وخفية ، وأن نكون علميين لأبعد الدرجات ، وبلا مراءاة ، أن نكون في ذات الوقت ، منحازين ، فما معنى الإلتزام بالمنهج العلمي دون الماركسية ، وما معنى أن نكون ماركسيين بلا إنحياز ؟
أزمة الخطاب وخطاب الأزمة ، رغم التشابه في النية اللغوية إلا أن الفرق شاسع جدا بينهما في البنى الفكرية ، وقد لايعيه الكثير ممن يجرفهم اليمين الرجعي ، أو حتى”المغامرون” في حركة اليسار ، فكلاهما ، جزء من أزمة الخطاب ، الخطاب غير العلمي ، في مواجهة خطاب في سيرورته الثورية يتجلى مدخلا لقراءة الأزمة..فيكون خطابها الطليعي الذي لا يهاب ولا يضمر مبطنا ، وليس كمثل نقيضه يجنح إلى “القول مكبوت القول “..والمعادلة هنا مختلة لا متبادلة ، فخطاب الازمة يهدف إلى حلها ، بقراءتها تفكيكها وتحليلها ، بينما الخطاب المقابل ، في أزمة إذ أنه لا يطرح نفسه بديلا ، لأنه متى ما قبل هذا الدور لغى ابديته وتوقعنه”كونه واقعا” ، وقبل بشروطه التاريخية وبالتالي دخوله حقله المعرفي القابل للنقض والهدم/البناء الجدلي ، فهو دائما مطروح في أوله ضرورة ، ضرورة لا غنى للبشر عنها ، تحول الحزب إلى سلطة طبقية ضيقة ، محروسة بخطاب “التمكين” سرعان ما تتحول الضرورة إلى مقبولية منقوصة ، منزوعة الدسم الفكري ، تجد في قطاعات عديدة من الجماهير التماهي اللازم لتمددها ..وفي سيرورتها لا تنتشر إلا وفق قوانين ” تأبيدها” ، بمنطق أن الحزب/السلطة هو الدولة /الكيان بل هو الحياة في ذاتها وبزواله تزول لأنه وفق هذا الخطاب البائس هو الأول ، أو وفق مناهج الإسلام السياسي هو المعبر والناطق بإسم ” الأول ” الخلقي .
-2-
كيف نجر هذا الخطاب المازوم إلى سوح المنازلة الفكرية التي يتهرب منها ؟ بالنقض. يقول الشهيد مهدي عامل في كتابه في الدولة الطائفية : “أول فعل للنقد اسقاط الحصانة عن النص .ليس من نص مقدس ، ولتكن اللعبة مكشوفة لكن النص يراوغ ، والنقد يراوغ حتى يضع النقدُ النصّ في موقعه ، في حقل الصراع الطبقي..”[1] . وكما أسلفنا فهذه مهمة المنهج العلمي ، والماركسية في تحليلها لما يبطن من الأمور ويضمر ، ولا يكون ذلك بقراءة التاريخ بظاهره ، إن تاريخ الصراع الطبقي في السودان ومنعكساته السياسية /الإجتماعية لا بد أن يقرأ هكذا ، بإستطلاع الأزمة وجوهرها ، لا مظاهرها المتنوعة . فلم تكن الإنقاذ وليد صدفة ولم تكن عملا منبتا قامت به الجبهة الإسلامية القومية في 30 يونيو1989 فحسب..لم تنشأ الأزمة في دارفور في 2003..لم ينفصل الجنوب في 2011..لم يكن غلاء الأسعار فقط لإنفصال الجنوب..ولا يجب وفقا لهذه الأمور ، أن ينشأ خطاب الأزمة ، خطاب التغيير ، فقط لمثل هكذا حوادث ولا لأن ربيعا عربيا ما هل بالمنطقة فلا بد من لحاق الركب..الثورة السياسية كمدخل للتغيير الإجتماعي يجب أن يتجاوز الطرح البلاغي المعمم والذي يحاكي في خطّيته شعارات على شاكلة ” الإسلام هو الحل ” ..النظر إلى الحوادث بشكل استاتيكي Static/ Stagnant هو الآفة والطامة الكبرى للفكر “المسيطر” الآن في السودان
وإذا استعرضنا مقولات سنتطرق لها في قادم النقاش ، لأركان هذا النظام ، من ناحية ومعارضيه سواء المخمليين -على كثرتهم- والثوريين -على قلتهم- ، فإن هذا الإيراد لا نهدف منه للحشو والتذكرة ، بل لإيراد نمط يأخذ “تنمذجه” شكلا واقعيا ، في الطرق على منطق “التأبيد” سباحة خارج التاريخ ..فإن كان الشهيد مهدي عامل وجه صارم نقده الملتزم ، نحو فكرة الخطاب الطائفي بلبنان المبني على قداسة فكرة “التعدد” كمبرر للمحاصصة الطائفية ، وبنينان نقده على النقد لهذا الخطاب ، فإن ذات المهمة بإختلاف الخصوصيات والمحددات ، لا بد بالبدء بالتصدي لها لمن اصطفوا بصف الخطاب الثوري ، هدما لأبدية الكيان السلطوي والأصول الإسلاموعروبية التي يسوقها عرابو النظام بنية عقلية جديدة بقبول ما يسمى ب”الجمهورية الثانية “.
-3-
“..والحرب حربان:حرب لخصمك ، وحرب عليه ، وما كان للحرب يوما منطق واحد ، وما كان لها جبهة واحدة..” ، الوقوف على خط النار في جبهة الأفكار تقتضي منا أول ما تقتضي التمايز النظري عن الجبهات الأخرى ، فالإنزلاق -ولو غير الواعي - إلى مواقع فكر الخصم ولو بدواعي نقضه هو مذمة يقترفها العديد من المفكرين والكتاب في بلادنا ، فكأنك ها هنا تتملك أدوات لإصلاح دراجة نارية ، وتود إصلاح عطب بسيارة كبيرة ، فلن يفيد هذا بشيء غير عنتٍ ، للكاتِب والقَاريء، وللوَطن جميعاً . المدخلات الفكرية العلمية هي التي تخرج بمخرجات علمية ، إن أي نقاش ذو طابع إنزلاقي لفكر الخصم ، المحصن لمصالحه الطبقية ، أو نقد الأفكار بأدوات غير المنهج العلمي فإن هذا النقاش بقدر ماصدر من التقدميين ، وتحديدا الشيوعيين فإنه ليس علميا،ماديا،على الإطلاق..وبقدر ماعبروا
فإنهم وبإمتياز لم يكونوا شيوعيين.
ماذا نود من هذا النقاش ؟ القادمون إلى الحلول الجاهزة والإستهلاكية فمسعاهم خائب ، نعم للخلاص ولإسقاط النظام ، لكن هذا ال(نعم) لا بد أن تقرأ وفق قوانين باطنة محدِدة ومحدَدة( بكسر وفتح الدال) ، لا أن تتحول ذات الدعوة إلى هدف وحيد ، فإسقاط النظام ، مربوط بخطاب التغيير ، وخطاب التغيير لن يتمدد ولن يكون علميا وماديا ، إلا إذا حددنا في المقام الأول :ماذا نود أن نغير ؟
[1] .في الدولة الطائفية،مهدي عامل ،ص13-دار الفارابي،الطبعة الثالثة2003
أيّ فِكْرٍ مُسَيطِر ؟
يقولون : القوة تكمن في عقل الضعيف لا في عضلات القوي ، إن لم تكن هذه المقولة صحيحة على إطلاقها ، إلا أنها وبشكل كبير تعكس الدور الذي يمكن أن تلعبه البروبوغاندا في تشكيل البنى العقلية في المجتمعات ، بينما تتولى “عضلات القوي ” تكسير وتفتيت أي معارضة من قبل البنى السابقة في مواجهتها ..وهي مواجهة مركبة : الفكر الثوري يستلهم شرعيته من حركة الجماهير وهي دليله السياسي الواقعي ، يتحول في مواجهة سلطة متعسفة ، و في ذات الوقت تصطف قطاعات شعبية ضده تتماهى بوعي زائف مع أيدلوجيا السلطة ومصالح طبقية مختلفة عن مصالحها ! فما الذي يحدد / يرسم ملامح هذه العلاقة بين الجماهير والسلطة ، إذا طرحنا “ضرورة” التناقض الطبقي بينهما ؟
إبتداء ، هل يعني ” التناقض” الطبقي ، كملمح من ملامح الصراع الطبقي ، أنه مرادف ، أو مقترن ب”النضال الطبقي”؟ لا أرى ذلك ، إن التناقضات نمط إجتماعي ، في أي مجتمع تطور من المشاعية ، وبدأت فيه العلاقات الإنسانية تنحو فيه منحى جديدا ..منحى وجود طبقات حاكمة ومحكومة..التقسيم الإجتماعي للعمل ..كلها خلقت حدود وفواصل تذوب وتظهر بإختلاف المجتمعات ..فإن كان عصر الثورة الإجتماعية هو عصر الطبقة الوسطى بإمتياز وتحالفها مع البروليتاريا ، فإن عصر الثورة التقنية وسقوط فرضية الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية بتجذر العولمة الإستهلاكية ، لخلق مجتمعات لا منتجة ، في جنوب الأرض ، وبكل الأزمات الإقتصادية في هذا العصر ، فإن الفوارق الإجتماعية تزداد حدة بين من يملكون ومن لا يملكون. وفي كل المواقع تختلف صور التعبير عن ” السخط” و” الرفض” ..الصراع الطبقي حقيقة..لكن النضال الطبقي فعل سياسي في المقام الأول مرتبط بوجود أجسام وتنظيمات تقدمية تتملك خطابا ثوريا ، تعبر عن المصالح الإجتماعية للكادحين (كمفهوم أشمل من للبروليتاريا).إن هناك أنساق معيارية متمايزة في بناء المؤسسات والمجتمعات ، وفي ذلك ، لنصطحب في قراءتنا لمهدي عامل ، علامة بارزة أخرى في التراث البشري وهو يوجين هابرماس ، ينطلق هابرماس من طرح يستحق النظر في هذه النقطة : أن لأنساق تطور المجتمعات والعلاقات الإجتماعية منطقا خاصا في التطور متميزا عن الشكل ” الكلاسيكي” الذي كانت تطرحه أوليَات الماركسية حول دور البناء الإقتصادي التحتي في تشكيل البناء الفوقي ( رغم علمية الديالكتيك كجوهر الماركسية ، إلى أن العديد من الكلاسيكيين والمغامرين على حد سواء أفرغوا الديالكتيك من علميته واختزلوه في شكل بائس ميكانيكي ، لايسمن ولا يغني من جوع ).يرى هابرماس في نظرته حول ” العقل التواصلي ” أنّ ان العقلانية التواصلية التي ينادي بها، تنظم عملية التفاعل بينالناس وتشكل فهم الجماعة لذاتها،ويتجلى هذا النوع من العقلانية في المجالينالأخلاقي والسياسي . ويقيم هابرماس العقلانية الأداتية التواصلية على أساس
فهمه لطبيعة النشاط الإنساني . فبينما فهم ماركس الممارسة الإنسانية ا(لبراآكسيس) على انها عمل فقط، فهم هابرماس ذلك على انه عمل وتفاعل في الوقت نفسه . والفرق بين الفهمين كبير جدا، فمقولة العمل تحدد علاقة الإنسان بالمادة والعالم الخارجي، بينما مقولة التفاعل تحدد طبيعة علاقة الناس بعضهم ببعض. إذا إعتمدنا هذه القراءة مدخلا ( وصحة تحديد المداخل هي خيارات تتعلق بقناعات الكاتب ) ، لمعرفة الطبيعة الطبقية للفكر المسيطر للسودان والذي هو ليس بالضرورة فكر السلطة ، فالسلطة الحاكمة في السودان كسلطة شمولية تعبر عن تحالف الرأسمالية الطفيلية ، والجيش في مصالح إجتماعية معينة تتلاقى فيها بعض قوى اليمين وتتغلف بغطاء ديني وقبلي ، هو نظام لا عقلاني ، وبالتالي هو كيان غير مفكر ، في سياق قراءة العملية التفكيرية كعملية عقلانية وفق رؤى الحداثة المرتبطة ب”الأنسنة ” لكن التحالف بشكله الواسع سواء في الحكومة والمعارضة وأشباه المواقف المعتادة من أشباه الرجال المعتادين يشكل عظم الظهر للفكر المسيطر ، فكر اليمين الرجعي والتخلف في بلادنا ..والذي كما حذرنا في أول النقاش ، ألا نعتقل الأحداث التاريخية خارج سياقها ، فالفكر المسيطر هذا لم يأت بدبابة الإنقلاب الإسلاموي ، بل كان مبكرا ، ودشن باكورته مع فجر الإستقلال ” السياسي” من الإستعمار البريطاني ..ولا بد من ربط تطور ونمو هذا الفكر من كنفه ” الإستعماري” مرورا بمهادنته الشموليات كلما كان هواها “يمينا” رجعيا ، خلوصا إلى الهدنة /المعارضة المخملية مع السلطة الحالية ، والتي وصلت حين كتابة هذا النقاش إلى المشاركة في السلطة في ظل تصاعد الخطاب الثوري والمطالب بالتغيير .
ظلت القوى السياسية المعبرة عن الحركة الطائفية : الأمة والإتحادي ، ومنذ إستقلال السودان معبرة عن مصالح طبقية وإجتماعية ، كلما تناقضت كانت المشاكسة سبيلا ، يؤئد حركة الديمقراطية ، ويقف عقبة كؤود أمام إنجاز أهداف التغيير سواء في أكتوبر 1964 ، أو مارس أبريل 1985 . ولنبدأ بسرعة لا تخل بالعلمية ولا بالإلتزام ، في هدم بداهات أولى :
(1) تسود مقولات وسط عدد من متوسطي التثقيف والتثاقف ، أن السودان لم ينل إستقلاله بالسلاح ،أي بالنضال ، وحينا يبخسون الأمر بأن السودان استقل “مبكرا “..في حركة التاريخ حين تقرأ بإستمراريتها حركيا ، فإن ” المبكر” و” المتأخر” مقاييس ظرفية ، فالرغبة لا تصنع الأحداث ، وبالتالي تحليل العواطف لن يفيد ، ماذا يفيد إذن ؟ أن نقرأ العوامل التي صنعت الأحداث ، أن تعرف نوع الشجرة ، وطبيعة الأرض ، وكمية الماء التي تحتاج إليه هي عوامل تفيد في معرفة الثمر ، لكن مجرد مراى الشجرة لن يكشف لنا بأية حال حقيقتها ، وإن تصادفت ، فستكون معرفة لا علمية ( إن كان هنالك معرفة من ذلك القبيل ) . هناك عدد من التوثيقات للحركة الوطنية بالسودان ، قد تكون منصفة أو غير منصفة ، لكن بشكل عام ، هناك اتفاق أن طبيعة العمل السياسي في السودان في ظل الإستعمار البريطاني كانت قابلة للتصنيف إلى صنفين:
(ا) حركة سياسية ولدت في كنف الإستعمار ، بتحول الطوائف ، أو للدقة قيادتها ، إلى تشكيل أحزاب سياسية ذات علاقة بدرجة أو بأخرى بالتكوين الطائفي ، نشأ الحزب الإتحادي برعاية المستعمر ..وهنا يورد غالب المؤرخين وصف ” النكاية” و”المكايدة” السياسية في مواجهة حزب الأمة وطائفة الأنصار ، هذه المناورة البائسة من التحليل الطبقي لتكون الحركة الإتحادية برعاية قادة الختمية السادة المراغنة ساهم بشكل أصيل في تراكمات العقل البدهي السوداني الواجب التفتيت / البناء ، لم يكن في ظني أن عقل المستعمر البريطاني به سذاجة تجعله يضع خططه من باب ” المكايدات” ، إن تشكل الحركة الإتحادية كحركة سياسية ينطبق عليه ذات قانون النمو لتحول قيادة طائفة الأنصار لتشكيل حزب الأمة ، نمو الرأسمال ، وبالتالي تعدد الإحتياجات والمصالح في ظل مشاركة في إدارة العملية الإنتاجية ..إستمرارية هذه المشاركة كانت تتطلب التطور من نمط إنتاج معين سائد في تلك الفترة ( شبه إقطاعي في رأيي وليس إقطاعي كامل ، إذ أرى أن دخول الإستعمار أدى لنقل التطور الطبيعي للمجتمعات السوداني من شبه الإقطاع إلى الرأسمالية بشكلها الإستعماري )، والتطور في نمط الإنتاج نحو الرأسمالية يعني تغير أدوات الإنتاج ، مساحة كبيرة من الأراضي ، وبالتالي لا يمكن أن يتم كل هذا دون الموافقة أو رضا السلطة البريطانية ، وفي هذا الصدد يورد د.صفوت فانوس في مقاله ” دور بريطانيا في قيام وتطور الأحزاب السياسية “:شرعت الحكومة البريطانية في عملية تنمية اقتصادية رأسمالية في أواسط السودان، وذلك بغرض جعل السودان مكتفيا ذاتيا من الناحية الاقتصادية، ولضمان تزويد مصانع الغزل والنسيج البريطانية بالقطن. وصاحبت تلك التنمية الرأسمالية – كما يحدث دائما- تطور في جوانب متعددة شملت إنشاء خط للسكة الحديد وموانئ وطرق معبدة ومصادر للطاقة ومؤسسات تعليمية. تفضي التنمية الاقتصادية دوما إلى تفاوت (تفاضل) طبقي، وأهم طبقتين في المجتمعات الرأسمالية هما الطبقة المالكة للثروة، والطبقة العاملة، وبين الطبقتين توجد قوى اجتماعية أخرى مثل البيروقراطيين والمهنيين.عادة ما يقوم النظام الرأسمالي في مراحل تطوره الأولي بالتعايش والعمل مع الأنظمة غير الرأسمالية التي سبقته. بيد أن الأمر الهام الذي ينبغي تذكره هو أنه ما أن تثبت الرأسمالية أقدامها، وتنمو وتكبر في وسط المجتمع حتى تفرض القطاعات الرأسمالية قوانين حركة التغيير الاجتماعي والاقتصادي الرأسمالي على قطاعات ما قبل الرأسمالية، وتتوسع على حسابها…وهذا هو ما حدث في السودان.”
بالظبط هذا هو التفاعل الذي نتحدث عنه ، والذي يغيب عمدا في القراءات غير العلمية وتداريه في عناد ، هذا الظرف ساهم في خلق الشروط التاريخية لتكون طبقة متماسكة من البورجوازية أقوى مما كان عليه الأمر قديما ( نشوء البورجوازية في ظل الرخاء الإقتصادي بمملكة الفونج)، البورجوازية التي شكلت ضرورات توسعها الإقتصادي بتراكم رأس المال النقدي والبضاعي ، عاملا أساسيا في التطور والمضي في طريق النمو الرأسمالي الإستعماري ، وبذلك بنيت اللبنة الأولى لنشوء وتمدد هذا ” الفكر المسيطر “.إذن الأمر بعيد كل البعض عن النكاية ، تشكل الحركة الإتحادية كحركة مناوئة ، هي “صفة” سياسية ذات ملمح استراتيجي من سياسات الإستعمار ، تهدف إلى ضبط ” التوازن” و “التناقضات” بين البورجوازية الناشئة في طلائع الطائفتين .كما أوضح الإقتباس أعلاه ، بأن تفرض الإدارة الإستعمارية قوانينها الرأسمالية بتتبيع عجلة الإنتاج ” الوطني” إلى مصدر للإمبراطورية ” التي لا تغيب عنها الشمس ” ، والمحافظة على معدل نمو يسمح أول ما يسمح ، بديمومة الوجود الإستعماري ، وتركيز مواقع ” التخلف ” ، في مواجهة مواقع ” التقدم ” التي ما لبثت أن نشأت في الطبقات الوسطى من المهنيين والحرفيين والمتعلمين ، معبرة عن مصالحها في حركة تقدمية ” معادية للإستعمار ” ومنادية بالتحرر الوطني..فبذات المنهجية ” الفطيرة” في التحليل التاريخي غير السابر لغور التحولات الطبقية ، فيمكن تصنيف تكونات أجسام منظمة بمثل هذه الإتجاهات ، بأنها أيضا “مكاواة” – بالعامية – أو ربما مجرد ردة فعل ، وهو إتجاه تحديدا يدعمه ” الفكر المسيطر ” ، بجعل الأفكار المناقضة له تنحدر من نسله بإعتباره ” الأول” و” الأبدي” ، وكل ما هو خارجه ، فهو تمظهر أو تنمذج له ، ولو بشكل مقابل ..فتجد كثيرا من الأفكار المناقضة والمعبرة عن نفسها في تيارات سياسية معارضة ( إذا تحدثنا عن فترة الإنقاذ) ، فهي ترفض النظام لا من حيث شروط تكونه ، بل من حيث التناقض في ” المصالح” ، وفي ذلك دلالة كبرى على توحد المنهج والمشرب لتيارات اليمين الرجعي في السودان ، وما الإنقاذ إلا أثر جانبي متى ما تفلت تتم معالجته بالشراكة مع الطائفية ، ومهادنة الإستعمار والإمبريالية . إذن كان وجود الأحزاب الطائفية عاملا مهما للرأسمالية الإستعمارية ومصالحها في البلاد ، وكان بالتالي ضرورة محاصرة الفكر المناقض بشتى الذرائع بقوانين مثل قوانين منع النشاط الهدام والذي استمر حتى فترة عبود ، بالسماح لقوى التخلف بالتمدد بشدة ، وتمليكها العامل الرئيس في التحكم بوعي الجماهير : وسائل الإنتاج ، التملك الهائل للأراضي وبالتالي جيوش هائلة من العاملين في هذه الأراضي بشروط أسوأ من الإقطاع،ولهذا كان من الطبيعي أن ترفض هذه القوى نشوء حركة وطنية من المتعلمين خارجها ، ثم أدركت بفطنة ضرورة إحتوائها واستقطابها لا محاصرتها ( وهذا شأن آخر يطول فيه الحديث ) ،
ولضرورات ، ترتبط باطارية هذا النقاش ، لا يمكننا الغوص بتعمق في قراءة تاريخية علمية ، مسهبة ، في تطور المجتمعات البشرية في السودان ، حيث أننا نسعى لضبط السقف التاريخي لتطور ” الفكر المسيطر “، من حيث تكون السودان بحدوده الجغرافية والسياسية في ظل الفترة الإستعمارية وحتى بعد إنفصال جنوب السودان . والقراءة لتمدد هذا الفكر يسوقنا لا محالة ، إلى اللغة ، كوعاء معبر عن السياقات التاريخية والإجتماعية لأي مجتمع ، فاللغة هي لسان الشعوب ، لا من حيث التراكيب الأبجدية ، بل البنى العقلية التي بنيت عليها اللغة ، فبمجيء الإنقاذ اتسع فقه التبرير ليشكل له قاموسا لغويا منفردا ، من حيث تبرير “الضرورات” ، فقه من الحيل المفتولة من لحى علماء السلطان ..فعندما تصير “الرشوة” و”الفساد” في عرف هذا القاموس ” تساهيل” و”مشايات”، يعكس هذا الأمر تحول الفساد من سلوك سلطوي مرتبط بطبيعة جهاز الدولة ، إلى سلوك مجتمعي مركب ، إيجابا( وإن كان لا إيجاب في الموضوع) بممارسة السلوك ، سلبا بعدم رفضه وشجبه ..اللغة أيضا ليست كائنا جامدا ، وتطور الشعوب يقرأ من تراثها الأدبي والفكري ، لنقف قليلا عند هذه النقطة.ونناقشها بنوع من التفصيل في النقطة الثانية التي نسعى عبرها لهدم “أبدية” الفكر المسيطر.
قسم النقاد تطور الإتجاهات الفكرية بالمدارس الشعرية فيما يتعلق بموضوع ” الهوية” بالسودان ( وليس الهوية السودانية فهذه العبارة خاطلة إذ أن طرحها بهذا الشكل يعكس لحد ما حسم موضوع هوية واحدة ، مرتبطة بالسودان ، تذهب إلى “السودان” السياسي ذو المشارب الإسلاموعروبية ، لا “السودانوية” كمفهوم مجتمعي لا إحالي ) إلى ثلاث إتجاهات رئيسة:
الإتجاه الأول ، وهو الإتجاه الناح إلى تأصيل الإنتماء العربي الأصيل ، بعامل اللغة ، إلى الثقافة العربية ، بإعتباره لغة التخاطب وهي بالتالي معبر الهوية
الإتجاه الثاني ، هو إتجاه تأثر بالأول إذ نمى وفق شروطه التاريخية ، وخلق معارضته ونقضه وفق ذات الشروط لا خارجها ، يوازن بين الإنتماء العربي والأفريقي ، وهي ما عرفت بمدرسة ” الغابة والصحراء” إن صحت تسميتها وظيفيا بمدرسة ، إذ أن الكتابة وفق شروط هذا الإتجاه لم يكن وليدة منتدى فكري أو سياسي أو ميثاق متعارف عليه ، بل تحققت في ظلها الكتابات وقام النقاد بوضعها في هذا التصنيف . من رواد هذه المدرسة: النور عثمان أبكر ، محمد عبد الحي ، ومحمد المكي إبراهيم . من أكثر الأعمال المعبرة عن هذا الإتجاه هو نص ” العودة إلى سنار ” للشاعر الراحل محمد عبد الحي بكل ما يحمله ذلك من استدعاء لنموذج طرح ك”تصاهر” دوما ، لا ” تعايش” ، أي إختفاء ثقافات ، وبروز إتجاه واحد أصيل يظهر ضمنا حينا وصراحة أحيانا: النموذج الإسلاموعروبي ذاته ، وإن تسامح مع أفريقيانيته ، التي ربما تقرأ في هذا الصدد ك”شيزرفرينيا” حادة للأنا السوداني ، أو كما عبر الشاعر محمد المهدي المجذوب بأننا قوم : ” نصلي بلسان ونغني وبلسان ” . والذي عبر أيضا عن هذا ” التأزم” من ” الأفريقانية” التي فينا بالقول
فليتِي في الزنوج ولي ربابٌ تميلُ به خطاي وتستقيمُ
أُجشِّمه فيجفلُ وهو يشكو كما يشكو من الحُمَةِ السليم
وفي حِقْوَيَّ من خرزٍ حزامٌ وفي صَدُغَيّ من وَدَعٍ نظيم
وأجترع المريسةَ في الحواني وأهْذِرُ لا أُلام ولا ألوم
طليقٌ لا تقيّدني قريشٌ بأحساب الكرام ولا تميم
وأُصرعُ في الطريق وفي عيوني ضبابُ السُّكْرِ والطّربِ الغَشوم
وهذا الإتجاه ، مساوم ، ربما يرجع ذلك لإتسامه ” بالأكاديمية” رغم ضعف المدخلات الفكرية وتفاعله مع المجتمع من حيث معالجة إشكال الهوية ،ويمكن في هذا الصدد إيراد قول د.عبد الله علي إبراهيم:” وصفوة القول إن الآفروعروبية هي صورة أخرى للخطاب العربي الإسلامي الغالب في السودان”.[1] ولا غلو في أن صاحب هذا القول ذاته ، ممن يروجون لهذه ” الصورة الأخرى” وإن لم يدركوا ذلك حتى
الإتجاه الثالث ، وهو على ضعفه النسبي ، كان في الموقع المناقض ، وجد في ظروف التغيير السياسي بثورة أكتوبر 1964 مدخلا حيويا لطرح مشروع تغيير إجتماعي فيما يتعلق بالهوية ، إتجاه عبر عن نفسه في مجموعات مثل ” أباداماك ” أو ” طلائع الهدهد” وهي اتجاهات أدبية إبداعية إرتبطت بالتزامها بحركة اليسار ، والحزب الشيوعي السوداني بشكل خاص ، إذ يشير إسم ” أباداماك” ذاك الإله السوداني الأول ، خصوصية أساسية : وجود حضارات لا إسلاموعروبية قبل سنار وبالتالي منع طمس التاريخ وتزييفه . وهذا الإتجاه على تقدميته إلا أن ما ساهم في إضعافه هو إختفائه في ظل المشروع السياسي ، وافتقد استراتيجيته ومدرسانيته ، فتحول الإبداع التقدمي إلى خطاب تكتيكي ، يومي ، ضد السلطة الشمولية ، والدعوة للحرية والديمقراطية وهي قيم نبيلة لا مراء في ذلك، لكن لم يتمدد الخطاب إلى تحسس مواطن العطب الأصيلة ومخاطبة “جذور المشكلة “
صعود خطاب الأنا الإسلاموعروبية وبالتالي الآخر غير المنتمي ، الهامش ، الجغرافي والسياسي ، كان ملمحا أساسيا نهضت عليه السلطة الطبقية للجبهة الإسلامية في إنقلابها المشئوم . لالإقصاء هنا مركب : إقصاء السلطة ، وإقصاء اللغة كل يتماهى مع الآخر ، ويقبل بوجوده ، والرافضون إقصاء السلطة من حيث تضرر مصالحهم ، يتسامحون مع إقصاء اللغة بإعتبارهم قابلين للشروط العامة وليسوا ضدها م يكن هذا الصعود ليتم إلا بنضوج عوامل وظروف معينة ، بتحقق شروط ، تراكمت ، فالنظام الشمولي ، من حيث توجهاته ، إقصائي ، لكن هذه التوجهات غير عقلانية وغير مقبولة ، فكيف يتأتى قبولها ؟ بالتبرير ..وكيف يبرر ” التبرير” ويعبر ؟ باللغة..إذن اللغة ذاتها تخلق بأنساق معرفية معينة يخلقها الفكر المسيطر ، بداهاتها ” الأبدية” ، فتطرح خطابها ” الإقصائي” بشكل ناعم ومضمن ..فإذا سألت أحد سكان الأقاليم بالعاصمة أين سيذهب في العيد ، فلن يقول لك في الغالب أنه ذاهب إلى قريته أو مدينته ، بل سيقول “راجع البلد”..إن فكرة “البلد” و”وود البلد” ليست مجرد عبارات تأتي من فراغ ، بل هي مرتبطة بالممارسة الإجتماعيىة وتوارث الخطاب المأزوم ، فمثلما تقصي السلطة الهامش ، وتقوم بسياسات إستعلاء ثقافي وعرقي ممنهجة ، تؤدي اللغة ذات الدور ، لكن على المستوى الإجتماعي . وبالتالي تأتي ممارسات السلطة على درجة من ” الإتساق” و” المقبولية” ، ويتحول الرفض لممارسة بعينها ، رفضا لا لشروط وجودها ، بل وبطبيعة الفكر اليومي واللا علمي ، رفضا مرتبطا بموقف سياسي أو إجتماعي معين ، قابل في نهاية المطاف ، بشروط التكون الأساسية للأزمة ، أي بوجود هامش – مركز.
هذا ملمح من مهام يقع عاتق التصدي لها على المثقفين والمختصين بهذا الحقل المعرفي المخصوص ، والذين لابد أن يكون لهم مصلحة في إتخاذ النقض سبيلا لهم ، وعدم ” إستيحاشه لقلة سالكيه” كما يقول الإمام علي -كرم الله وجهه – وهذه المهمة مركبة فبجانب البنى العقلية المطروحة لغويا كمشروع إستقطابي – إستيعابي assimilating للفكر المسيطر ، تتشكل صعوبة أخرى في كيفية طرح خطاب مجابه للأزمة قابل على كسر البداهات وفي ذات الوقت ، يكون مقبول جماهيريا ؟ أي بمعى آخر خطاب لا نخبوي يستعرض عضلاته بالمصطلحات العلمية والأكاديمية المفرغة من شحناتها المعرفية لصالح إستعراض عضلات فج في بلد ما زال يتصدر همومه الفقر والأمية والبطالة ، وبالتالي هذا الخطاب ذاته مهما تذرع بأنه نقيض ، تقدمي ، بل وعلمي ، فإنه على المستوى الأكاديمي قد يكون سليما ، لكنه على المحك الجماهيري ، خطاب لا تواصلي ، سيكولاستكي”مدرساني “بل ويستمتع بلا تواصليته هذه ، ولذلك تفسير يرجع إلى الذات / الكاتب ، وليس الموضوع / الكتابة : التفكير برد الفعل ، حالة اليباس النظري والكسل الذهني العام ، نتيجتها الطبيعية ، أن تخلق لنا طبقة من ” المثقفين” ممن أوهمهم هذا النقص ، بتطاول قاماتهم الثقافية ، كمعادل موضوعي لتقاصر الإدراك والإنتماء إلى مصالح إجتماعية وطبقية معينة ، فهم بذلك ” مثقفون” من حيث إدراكهم ، وليسوا ” عضويين” بمن حيث إنتمائهم بالمفهوم الغرامشي . ولو أتوا من أكثر الطبقات سحقا ومعاناة ، فالجدل يكمن في كيف يتحرر المثقف من سجون ذاته ، الأسوار المتوهمة التي يحاصر بها عقله ، والتي تجعله يفكر وفق ما ينتمي له ، وليس فيما ينتمي إليه الأمر الذي قد يقود إلى “تنمذج” واقعي لشخصية الطيب صالح الأشهر ” مصطفى سعيد” :الذي يعيش منقسما بين قريته ، و المدفأة الإنجليزية المخبأة .قد يكون أحد المعيقات في ختام هذه النقطة ، أن المثقف إذا أطلقنا عليه وصف ” عضوي” ، لا بد له أن ينتمي إلى مجتمع أو طبقة حتى يعبر عن همومها ، فالتحدي هنا في كيف نستكشف المجتمع أو الطبقة في المقام الأول ، في ظل ” الطشاش” والضبابية في تبين ملامح التمايز المجتمعي .فهم جدلية العلاقة بين السلطة واللغة في حقلها المعرفي المميز ، بتحليل الأوضاع الطبقية مدخل لا بد منه لكسر البداهات التي تُشحن بها اللغة .
[1] .لمزيد من التفاصيل الرجاء قراءة “السودانوعروبية أو تحالف الهاربين:”المشروع الثقافي لعبد الله علي إبراهيم في السودان”د.محمد جلال هاشم
البداهة الثالثة: هي السودان ، ذاك الكيان الفريد ، الذي لوحده يشقى ولوحده يفرح ، هو المتعدد ، اللا منفتح على تعدده ، الوطن ” السمح” و “الشين “..إن كلا الموقعين ، تبوأ مقاعدهما عنوة ، ولم يتبوأ مقاعد سمع أو عقل ، فكلاهما يتساوى في أنهما يقرأن السودان خارج شروط التاريخ وحركته ، ولا يقرأ في هذه التناقضات البينة سبيلا كي يصل إلى تحديد الأزمة ، وأن يطرح ذاته ، يتوقعن في حقله المعرفي المخصوص القابل للنقد ..إن إعادة الكيان السوداني بكل مكوناته لهذا الحقل ، يعني وضعه في خانة القراءة العلمية والتاريخية ، والتي بالضرورة تجعل الموضوع نسبيا ، يزحزح تابوهات المطلق والأبدي ..وهو ما لايوده الفكر المسيطر . فحين نقرأ تصريحا لمستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان اسماعيل في ندوة يقول فيها ” أن الشعب السوداني كان مثل الشحاذين” وليست العبرة في الإساءة ، ولا في الجهل الضارب جذوره في خطل الحديث بأن ” الشحاذين” ليسوا ظاهرة منبتة بل هي ناتج أصيل لطبيعة عملية الإنتاج والسياسات الإقتصادية لجهاز الدولة … لكن مربط الفرس في ” كان” التي “تؤبد” النظام الإنقاذي بأن ما قبله ” كان” استاتيكي ، لا مستمر ، وايضا لا مقروء ، هو فقط هكذا ماض سيء وإنتهى وبدأ التاريخ المتحرك المستمر منذ 30 يونيو1989 …ولا أدري إن كان كلام المستشار مبنيا على قراءة رسمية للحزب الحاكم أو هو إجتهاد شخصي ضال ومضلل ، لكن هذه الفترة التاريخية التي قطعا عاصرها وكان على قيد الحياة آنذاك ، بيولوجيا على الأقل وليس فكريا ، فمهما بلغ سوء الأوضاع الإقتصادية فإنه لم يفق أبدا مقدار المعاناة التي يصطرع في نارها شعبنا ، ولا المزالق التي هوينا له يتخبطنا مس الإحباط والفشل . لنقرأ هذا التصريح مع خطاب البشير في القضارف حول الحدود في عيد الحصاد بالعام الفائت وهو يتحدث عن تطبيق الشريعة بأنهم ” سيطبقون الشريعة” وسيكون الدستور ” إسلاميا” هنا نقطة تناقض ، فإذا كان التصريح الأول يسير في منهجية التأبيد “المستمر” منذ الإنقلاب ، فإن الثاني ” تأبيد” منقطع ، أي أن الفترة بعد إتفاقية السلام 2005 وإلى الإنفصال ، هي مقطوعة وغير محسوبة بالنسبة للكيان الإنقاذي الحاكم ، لوجود عامل التكتيك في التنازل عن قضايا معينة تعتبر هي ركن أصيل في مشروعهم ” الرسالي” وبالتالي فترة التوقف هذه ” ما محسوبة” ! وبالتالي يميل الخطاب المسيطر بشكل عام إلى أن ” الأبدية” عنده مرتبطة ب”الغلبة” ، فلا أحد من إسلامويي ” القصر” – تمايزا عن الذين تفاصلوا – يرجع أو يشجع تاريخ ما قبل الإنقلاب ولو كان فيه من جوانب نيرة نسبيا من وجهتهم ، فهو عندهم حينا جزء من الماضي ” اللا مستمر” الذي انتهى خطيا بالوصول للسلطة وبدأ زمن جديد ، ومنهم من به أشجان ، فيسترجع ، ولكن هو هنا ” انتقائي” عنده الزمن خطوط متوازية يصل نقاط بعينها فيخلق زمانا مختلفا ، مختلقا في ذات الوقت ، وكلاهما يشترك في لا علميته إذ ينشدان التأبيد والبقاء خارج شروط التاريخ / النقض .
إن السلطة ، كمكون يجمع بين القوة الجسدية والعقلية ، تهيمن وخطابها كلما قمع الحرية بقى متوهما وحدته وعلويته ، لذا أول ما يصطرع في حوار المعرفة ، ونسبية الأشياء يصيبه الجزع ، وتراه هناك في صحراء قاحلة منبتا يعاني كلالة الجدب وبلالة الندى وسرعان ما تأتي رياح التغيير تلقيه هشيما منثورا ، هذا ليس محض بلاغة ولا رومانسية ثورية ، بل هي قراءة متأنية لتجربة الشعب السوداني (في ظروف إجتماعية وتاريخية مختلفة) في صرع الأنظمة الشمولية ، بل ومحاججة الأنظمة الديمقراطية وهكذا التاريخ يقرأ “في قهقة التاريخ المتقدم ، عبر الإمكانات المتضاربة ، يحتضر عالم بأكمله ، ويتهيأ للولادة آخر . تتفكك نظم من الفكر الإقتصاد والسياسة يصعب عليها الموت بغير عنف ، تتصدى لجديد ينهض في حشرجة الحاضر وتقاوم في أشكال تتجدد بتجدد ضرورة إنقراضها ، تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات هي فيها مع الموت على موعد يتأجل ، إذن فليدخل الفكر المناضل في صراع يستحث الخطى في طريق الضرورة الضاحكة . فهو اليانع أبدا ، وهو اليقظ الدائم ، في الحركة الثورية ينغرس ويتجذر . يستبق التجربة بعين النظرية ..يتوثب على المعرفة ويعيد النظر في ترتيب عناصره ليؤمن للنظرية قدرتها على التشامل..”
يموت عالم ، نسجت خيوطه شبكة معقدة من المصالح الطبقية الإجتماعية ، وخلق وعيه ضرورة البقاء ، وتطلب بقاؤه تزييف الوعي، فالنظام القمعي في وجوده مقبول ، من قبل وعي زائف ، وبالتي هو موجود بذاته لا بموضوعه ، وهذا الأمر يتكشف في حركات التظاهر في المنطقة العربية ، شعوب ال99% تؤيد ، الآن ترفض ، تبدأ بقلة ، ومطالب محدودة سرعان ما يتكشف لها بشكل جلي ، أن مطالبهم المحدودة ،قبول بشروط خلق الأزمة وإعادة إنتاجها ، فيتوصل تفكير الجماهير الوثاب ، إلى ضرورة عناق الحرية ولو كان العناق للمشانق وللرصاص ، ويخلق من هذا الركام ، عالم مشرئب الآفاق ، يبدأ في نسج الخيوط الجديدة ، وفق هوى الأصابع ، والمصالح ، لكن متى ما فارق التغيير السياسي هدفه الإجتماعي الشامل ، ظل التغيير فوقيا ، وظلت ذات المصالح التي تنتج الأزمة موجودة وهو أمر بين في الحالة المصرية الآن ، وهو أمر ، لا بد أن تستصحبه القوى ذات المصلحة في التغيير ، وهو في ذات الوقت من صميم مهام الفكر المناضل حيث يتحد السياسي بالإجتماعي ، ويطرح خطابه لحل الأزمة في عنفوان و أنفة .
الفكر المناضل : أين تقع الماركسية؟
فالفكر المناضل ليس واحد المسير ، ولا واحد المصب ، لكنه في العام تقدمي ، وفيما يخصنا بالخاص: علمي ماركسي ، وكلاهما يقع كثيره في دائرة الخطاب المأزوم حين ينزلق لمواقع تفكير الخصم ، ويحاول نقده من داخل شروط لعبته ، فيتحول لخطاب انتخابي ، إنتهازي ، مفرط البراغماتية ( فالبراغماتية أداة من ادوات المعرفة) . والماركسية هنا ، هي الماركسية وفق الخطاب الفكري للحزب الشيوعي السوداني ، كملح خاص ، يطعم الحياة العامة ، ويتطعم منها ، ولا يخلق “رغم علات كثيرة” من النموذج “واقعا” ، فالماركسية مثلها مثل أي فكر إنساني تخضع لمحددات الواقع والمنجزات المعرفية ، ولا تنفصل عن القراءة الكليانية للتراث البشري ، وليس لها ان تخلق القطيعة المطلقة مع التاريخ ، فليست الماركسية بداية للفكر المناضل ولا نهاية له ، ومتى ما ادركنا الوظيفة الحقيقية للماركسية السودانية أدركنا موقعها من /في الفكر المناضل.
والماركسية جزء من الفكر السوداني بمكوناته المختلفة : الدينية ، والأفريقية ، أو المستعربة الوافدة (وليس في لفظ الإستعراب خصومة بل هو تدليل الإستفعال أي الإختلاط الآتي في واقع يسبقه ) ، ورغم تأثر كل هذه المكونات جميعا بمشارب أخرى إلا مظاهر الإستقلال نجحت في الظهور مبكرا ، فالإله أباداماك كأول إله محلي ، وظهور ابجدية اللغة المروية والنوبية، والتميز على مستوى الحضارات(نبتة ، كرمة ،سنار،..)[1]. وبالمثل تمايزت الماركسية ، فلم تأتي وافدة غريبة ، بل وجدت لها جذورا في الثقافات السودانية والقيم المجتمعية ، ونشأت في كنف الحركة الوطنية بل وتفاعلت فيها أيما تفاعل( عدد من المراجع يشير إلى وجود شيوعيين وسط حركة اللواء الأبيض ، وأن البطل علي عبد اللطيف كان يستلم منشورات شيوعية مطبوعة باستكوكهولم)ونحن لاندلل لهذا تسولا لوطنية ، فالشيوعيون والتقدميون بوجه عام ، لهم اسهاماتهم في النضال ضد المستعمر قبل ميلاد الحزب الشيوعي ، وعلى الرغم من أن عدد من القراءات التاريخية تشير إلى أن المؤلفات الأولى للماركسية غلبت عليها كتابات ستالين باختزالها المخل إلا أن العقل الجمعي للشيوعيين السودانيين ساهم في تكوين رؤية لمشروع تقدمي واسع ، تجاوز الكتابات و الخطب الجافة والإختزال ، بل أدرك بوعي تام ، دور الجماهير ، وبنى رؤيته للماركسية على هذا الأساس ، فكثير من عضوية الحزب قد تكون ولجت إليه ليس إيمانا بالماركسية ، بل بقيم الديمقراطية والحرية والإشتراكية والتقدم الإجتماعي فيما يختص بحقول الواقع السوداني وهذا إن كان له إيجاب ، فله الآثار السالبة في ضعف البنى الفكرية اللاحقة لتطوير المشروع الوطني الديمقراطية وتوهان الماركسية عن موقعها بين متشبث أعمى بكليتها وشمولها ، وبين متنازل مستكين يود التخلي عنها بذات الكلية .. وإذا تحدثنا عن قضية محورية مثل قضية الديمقراطية فلم يكن العقل الجمعي للشيوعيين السودانيين ثابتا على أمر فيها ، بل تطور “قد طور الشيوعيون نظرية للديمقراطية تكاد ان تكون نظرية كاملة، وتعتبر ثورة فكرية عظيمة وتطورا نوعيا لما كان مطروحا من قبلهم ومن الحركة الشيوعية في المنطقة الافريقية والعربية. وما نحتاجه الآن هو ان نصوغ تلك النظرية بشكلها المتكامل وان نخرجها من بطون وثائق اللجنة المركزية والبيانات الجماهيرية والاحاديث المتفرقة لقادة الحزب لتصبح خطابا ايديولوجيا وبرنامجيا واضحا، حينئذ ستطرح امامنا مهام جديدة اكثر تحديدا”[2] ، والعجز عن الصياغة ، عجز القادرين على التمام ، لكن ليس سببا ذاتيا ، فطبيعة الصراع السياسي في السودان أدخلت الشيوعيين السودانيين في معارك اليومي من السياسة وضنك الحياة ، فتحول الخطاب المتشرف الآفاق الجديدة إلى خطاب يومي ، أقرب لرد الفعل ، من الفعل ، وكل هذا في ظل ضعف حقيقي في الرؤى الفكرية إما لأن هذه الرؤى فوقية ، نخبوية أو لأن قطاعات عريضة ترى الفصل ” الواجب” بين السياسي والفكري ، وكلاهما باطل حنتريب.
[1] .لمزيد من القراءة في هذا الموضوع ، قراءة مقال الأستاذ تاج السر عثمان، موقع الماركسية في خريطة الفكر السوداني
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=156262
[2] د.صدقي كبلو ، حول الثورة السودانية
دور المثقفين
من هو المثقف؟ إن غرامشي لا ينطلق من تعريف المثقف، من التصنيفات والمراتب التي تحددها الرؤيه الأكاديمية الصرفه، والسوسيولوجيه للمثقفين، والتي تعتمد على معايير التخصص الدقيق والتقنيه في التعليم، والمهنه ووظيفتها التكنوقراطية والبيروقراطية، ومستوى المعيشة، ونمط الاستهلاك، وأسلوب الحياة، وعلى معايير سياسية، ونظرة ايديولوجية وثقافية، في إطار تعدد مستويات الانتساب، التي نجدها عند المثقفين، في المجالات المتعددة الاقتصادية والبحث العلمي والتقني، والتعليم والسياسية، والايديولوجيا والثقافة، ضمن إطار التقسيم الاجتماعي السائد. غير أن غرامشي في تحديده لمفهوم المثقف نجده يتخطى جدلياً وتاريخياً المفهوم، الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر الأوروبي، والذي يتسم بالتمييز بين العمل الفكري والذهني، والعمل اليدوي والساعد، بتوجيه “ضربه قاضيه للأفكار المسبقه حول المثقفين بوصفهم طبقة وراثية مغلقه”، حين قال أن كل البشر مثقفون، مستدركاً في الوقت عينه، “ولكن ليس لكل البشر وظيفة المثقفين في المجتمع”. والحال هذه، فهو يعتبر كل إنسان يمارس مهنة، وحتى خارج مجال مهنته، إنسان “يمارس نوعاً ما من النشاط الثقافي، أي أنه “فيلسوف” فنان، إنسان متذوق، يشارك في تصوره عن العالم، لديه خط واع لمسلك أخلاقي، ومن ثم فإنه يسهم في دعم أو تعديل تصور ما عن العالم، أي يثير سبلاً جديدة في التفكير” والمثقفين العضويين هم وليدو الطبقات الجديدة ، بينما يظل هناك ” مثقفون تقليديون” موجودون تاريخيا بإستمرار ، في كافة مناحي الإنتاج إلا أن هيمنة الطبقات الجديدة تنجح في احتوائهم في إطارها.
وفي السودان ، ظلت سهام من الإتهام للمثقفين بأنهم على الدوام نخبويون وهي نظرة تعميمية أخرى مرتبطة بشدة بالفكر المسيطر الذي حدد مبكرا وظيفة المثقفين داخل إطاره وهيمنته ، وعمل على نشر أفكاره وتمددها لشرعنة وجوده ، لكن ليس بشكل مطلق فقد ساهم في هذا التمدد / الهيمنة القوة العسكرية والأمنية مما جعل دور المثقف ثانويا من جانب السلطة ، وبالضفة الأخرى المقابلة ، كان انزلاق القوى المعارضة بشكلها العام إلى السياسي دون الإجتماعي ، مشابها في ثانوية دور المثقف في طرح الخطاب المعارض المعبر عن المصالح الإجتماعية المناقضة . لكن إذا أخذنا باطروحتنا حول تقاربات التيارات السياسية ودورانها حول فلك الفكر المسيطر وضرورة تمايزها عن الفكر المناضل الثوري الذي ينعقد فيه لواء السياسي بالإجتماعي ، فإن دور المثقف في هذا الصدد ، نظريا أكثر هيمنة وتمددا ، إذ أنه يتخلق من أحشاء هذه الطبقات الكادحة ، ويطرح خطابه ثوريا لا نائحا فقط عن الآم ومعاناة طبقته ، بل ثاقب النظر في طرح البديل وخلق النموذج المعرفي المقابل : الديمقراطية ضد الشمولية ، الإشتراكية ضد الرأسمالية ، والإنسانية ضد الوحشية تحت شعار الحرية العريض . والمثقف المنتمي حزبيا ، يعاني مرتين في إعطاء الحزب شعورا بوجوده وضرورته ، بالإضافة إلى مهامه الشعبية الأخرى فهم قلقون دوما من الثبات والجمود أو المواعين الضيقة فنجدهم يتعارضون كثيرا حتى مع خطوطهم الحزبية ومواقف طبقتهم إذ هم من حيث ” عضويتهم” منتمين ومن حيث أنه مثقفون ” متقدمين” فينشأ التعارض في مواجهة المواقف الجامدة أو الثابتة . “كما أن الحزب- المثقف الجمعي، والمثقف العضوي لا يتمكنان من تملك نظريتهما الثورية، إلا عبر انتهاج سياسية ثورية قوامها تأمين العلاقة بين النظرية والممارسة، لا في النظرية فقط، وإنما في الممارسة أيضاً، عبر وحدة الفكر والتعاضد الثقافي العضوية، وهذا يتطلب اقامة العلاقة العضوية بين المثقفين العضويين والجماهير الشعبية، بنفس قوة علاقة الوحدة المطلوب تحقيقها بين النظرية والممارسة. وهذه الوحدة لا تكون ممكنة، بل إنها تصبح مشروطة، بالدور الذي يلعبه المثقفون العضويون، وبقدرتهم على أن يجعلوا أنفسهم مفكرين عضويين لتلك الجماهير الشعبية، بالإضافة إلى قدرتهم على تنمية وتطوير وتوحيد المسائل، التي تطرحها الجماهير الشعبية في خضم نشاطها الثوري، عبر خلق كتلة ثقافية واجتماعية ثورية. وهنا تكمن مهمة المثقفين العضويين والحزب، في تحقيق العلاقة الجدلية مع الجماهير الشعبية، وفي مد الجسور بين “الفلسفة العليا” و”الفلسفة السفلى”، حيث أن الماركسية باعتبارها فلسفة عالية، لا يمكن لها أن تظل فلسفة متخصصة موجهة إلى زمر محدودة من أهل الفكر والثقافة، بل إن المطلوب من الفلسفة الماركسية، هو اعداد وتنمية فكر وثقافة أرفع وأعلى من فلسفة الجماهير السفلى البدائية، أي فلسفة الحس العام، لكي تخلق ثقافة جديدة نقدية متماسكة تماسكاً عملياً، أي فلسفة جماهيرية جديدة، أو ماركسية شعبية واقعية وتاريخية تكون في علاقة عضوية بالجماهير الشعبية، وتستهدف النهوض بها نحو تصور أعلى للعالم والحياة.[1] لذا تكون التهمة الثابتة الدامغة أن المثقفين نخبويين ، ومنعزلين عن مجتمعهم ، وفي هذا القول جزء من مغالطة ، فليس من مطالبة لمثقف أن يكون معبرا عن مجتمعه ككل ، لإختلاف المصالح الطبقية والإجتماعية ، والحزب هو جزء من المجتمع ببيئته ومصالحه ، ويظل الصراع الفكري داخله أمرأ طبيعيا ، مهما تغلف في أطروحاته بالسياسي أو التنظيمي على حد سواء ، لذا تظل مشاكل المثقف المناضل مرتبطة بالصراع الإجتماعي العام ، وبالصراع الخاص داخل أروقة المثقف الجمعي-الحزب . ومثلما هو حالنا في تتبعنا لمنهجية التفكير لدى مهدي عامل فلا ننزع من نظرنا لدور المثقف – كاي نقطة أخرى – إنعكاسات الصراع الطبقي على المستويات الأخرى ، فهو يقول :” ن نزع الطابع السياسي عن الصراع الطبقي هو الطابع السياسي الخاص بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة. حين يظهر الصراع الطبقي في شكله الرئيسي كصراع آيديولوجي أو اقتصادي، أي حين يكون المظهر الرئيسي في التناقض السياسي مظهراً غير سياسي، يمكننا القول إن الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة هي الممارسة المسيطرة في تطور صراع الطبقات الاجتماعية أي القوة السياسية التي تدفع البنية الاجتماعية إلى البقاء في تطورها داخل الإطار البنيوي الثابت لعلاقات الإنتاج القائمة[2] ” ومستويات الصراع هذه قد تظهر منفصلة ومتباعدة فهذا من طبيعة الحركة” الإنتباذية” للصراع الطبقي ، وبالتالي النظر إلى دور المثقف ومن ثم أزمته يتم عبر النظرة الشاملة للصراع الطبقي ، وفي ذات الوقت ننقد خطاب المثقف غير الباصر لمثل هكذا إنعكاسات ..وينبني خطاب المثقف في إطار نقدنا له في حقل الصراع الطبقي بالسودان إلى كارثة تتمثل في تمركزه حول الصراع السياسي ، من ذاته أو من خلال حزبه فهو لا يطرح الصراع الطبقي نقطة أساسية في تفكيره ويحيل تفكيره كما هو الحال في المدرسة البورجوازية في التاريخ إلى الذوات / الأفراد وليس المجتمع ..وهذا بحق حجر الزاوية في نقدنا وتبياننا لأزمة الخطاب بالسودان . ليس هناك مثال في مواجهة من يدعون تناقض المثقف والحزب ، من الشهيد مهدي عامل نفسه فهو كما وصفه أمين العالم في بحثه ” نظرية الثورة عند مهدي عامل وأدواتها المعرفية” أنه كان فكر مهدي عامل، لا مجرد ابداع نظري ثوري، بل كان كذلك ممارسة حية فاعلة، في التزامه بحزبه الثوري، الحزب الشيوعي اللبناني، وفي اندماجه بأوسع الجماهير توعية وشحذاً لنضالها الوطني والاجتماعي..وإغتياله لم يكن لذاته إنما كان محاولة لقتل فكر ملتزم وإلتزام فكري ، يتخلص كل هذا في مقولته ذات الدلالات المنيرة ” أن يكون المثقف ثوريا أو لا يكون ” فلا يتسارع غلى الذهن أن وسم الثورية حكر على حزب أو تنظيم ، فالمثقف اينما كان وفي أزمنة تتعدد كان فاعلا ،سلبا أو إيجابا ، يرفض أو يبرر ، يناقض أو يداهن ، يرتزق أو يزهد ، ففي كل حركاته كانت له فاعلية في شرعنة الوجود أو الهيمنة لفكر مناضل أو لفكر رجعي ، إلا أن لا ثوريته في كل ، تسلب منه وظيفته ” الإجتماعية” ويتحول لحارق بخور آخر في دواوين السلطان .
وإضطهاد السلطة للمثقف راجع إلى ثوريته : لأنه يهزمها ويعريها من أسس المنطقية ، ومتى ما فقد النظام أو البنية أي أسس لشرعنة وجودها ، كان لها مع الجماهير وقفة ساخنة تنذر بهلاكها وبفنائها ، ومتى ما غابت عن المثقف ثوريته : غاب الإضطهاد .لم يكن مستغربا ما قامت به السلطة بالسودان منذ إنقلابها في محاربة الفكر والثقافة و الإبداع ، ليس مستبعدا ألا يكون هذا محور نقض قوى اليمين ، إلا أن الطابع العام للقوى الرجعية بالسودان لا ترغب بالطلاق الكاثوليكي مع المثقف فهي تحتاجه وفق حوجتها إلى الهيمنة وشرعنتها ، أما الإسلامويون فأن أكثر ما يفتقدونه الآن هو دور مماثل للمثقفين ، ورغم ذلك ونجد بعض”المثقفين” في مجالات مختلفة خصوصا ذات الصلة بالإبداع في هذه الظروف الحرجة يتجه ونزرافاتا ووحدانا لها : في التطبيل الصريح حينا ، أو بالصمت المخزي في أحيان كثيرة ، وما أكثر الملاحظات التي أقامها د.الباقر العفيف في كتابه”وجوه خلف الحرب” حول مثقفين بعينهم غابوا عن مسرح النقد للسلطة فيما يتعلق بالحرب في غرب السودان وخطابها الإقصائي إلا أشد دلالة على تماهي دور مثقفين مع ايدلوجيا السلطة بوعي أو بغير وعي
والتحام الفكر بالثورة ، أي الحركة الثورية بالنظرية الثورية يطرد من سوحه أي نزق للنخبوية والصفوية ، وهي آفة لاحقت مثقفي اليسار ، وتعممت ، حتى صار الكثير منهم يعتبرونها سمة ومميزا في التحصن بعاجيات اللغة ، أو مظهرية الشكل ، فهما بلغ تراكم قراءاتهم ومعارفهم ، فهي جامدة لا تتفاعل إلا في أضيق محيط ، وهم كنبات الظل لا يتسلقون الجدار في الهجير ولا يكشفون ظهرهم لسياط النقد ، فهم أعداء الجماهير ، وإن طرحوا خطابهم عدوا للسلطة فالأخيرة لا تكترث لهم .دور المثقفين الثوريين في مواجهة السلطة واضح :” بين منطق الثورة ومنطق هذه القيادة غير الثورية تناقضٌ يشل الحركة الثورية ويضعها في أزمة تنعكس في ممارسات سلطوية قمعية ضد قوى الثورة وجماهيرها، وبالتحديد، ضد الطبقة العاملة التي هي، بحزبها الطليعي ونهجها الوطني الصحيح، النقيض الثوري. إنّ الحل الجذري لتلك التناقضات بات يفرض، بضرورة منطقه، ضرورة تغيير تلك القيادة الطبقية لسيرورة الثورة الوطنية الديمقراطية، واستنهاض حركة ثورية هي، في اتساقها مع مهماتها، من نوع جديد، ولها وحدها القيادة. ومن أولى خصائصها، أن تسعى فيها الطبقة الهيمنية النقيض إلى أن يكون نهجها الطبقي نفسه، في سعيها إلى السلطة، نهج الحركة بكاملها. لا بالقمع، بالممارسة الديمقراطية الثورية.” لئن كان القمع أو الفئوية، في لغة أخرى، أو الاستئثار بالسلطة، أو الانفراد بالقيادة هو الشكل الطبقي الذي يحكم علاقة القوى غير الهيمنية، في وجودها في موقع الهيمنة الطبقية، بأطراف التحالف الطبقي الثوري، وكان، بالتالي ضروريا بضرورة التناقض في أن تحتل تلك القوى هذا الموقع، فإن الديمقراطية، كناظم للعلاقة بين أطراف التحالف إياه، وحق للجميع في الاختلاف، واحترامٍ لهذا الحق وممارسته، أقول إن الديمقراطية هذه هي، بالعكس، الشكل الطبيعي، أعني الضروري، الذي يحكم علاقة الطبقية. ذلك أن علاقة الاتّساق والتلاؤم بينها وبين موقعها هذا هي، بالضبط، الأساس المادي لضرورة الديمقراطية في علاقة القوى الثورية بعضها ببعض. وهي ضمانة تحقق هذه الضرورة.”[3] . ومع ملاحظاتنا حول مفاهيم الطبقة العاملة أو الحزب الطليعي ، التي قد نفرد لها مساحة أخرى للنقاش ، إلا أن قراءتنا للسياق التاريخي هنا مهمة في تبيان ملامح مهام المثقفين الثوريين في ظل الخطاب المأزوم والمسيطر .
[1] .توفيق المديني ، من هو المثقف ، المجتمع المدني
[2] مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني: (1) في التناقض، (2) في الإنتاج الكولونيالي، دار الفارابي، بيروت (الطبعة الثالثة، 1980)، ص. (49)
[3] .من محاضرة للشهيد مهدي عامل حول المثقف والثورة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.