ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حَول مَفهُوم التَّهْمِيش وأَشْكَالِهِ
نشر في الراكوبة يوم 15 - 07 - 2012


[email protected]
تمهيد :
نظراً لأهمية "التَّهْمِيش" كمفهوم وقضية محورية فى الصراع السودانى, ولأن المفهوم تعرَّض فى الآونة الأخيرة إلى الكثير من اللَّغط والمُغالطات النظرية والفلسفية, إذ يرى الكثيرون ضرورة إعادة تعريف مفهوم التهميش, بإعتبار إنه قد إتخذ منحىً منحرفاً عن مساره, وإن (الشعب السودانى كله مُهمَّش) على حد تعبير البعض, وإنه يجب عدم ربط المفهوم بمناطق جغرافية أو مجموعات إثنية بعينها, وغيرها من النقاشات التى دارت وتدور بإستمرار, رأينا ضرورة المساهمة فى التطرُّق لهذه القضية الإستراتيجية فى محاولة لإزالة اللَّبس عن المفهوم, وتعريفه بصورة واضحة تُساعد الجميع على فهم طبيعة الصراع فى السودان وجذوره التاريخية.
المفهوم :
ورَد فى قاموس المعانى (معجم عربى..عربى) معنى كلمة "هامش-Margin " و مصدرها (هَمَّشَ), على النحو التالى :
1/ "عَلَى هَامِشِ الدَّفْتَرِ" : عَلَى حَاشِيَتِهِ .
2/ "يَعِيشُ عَلَى هَامِشِ الْمُجْتَمَعِ" : خَارِجَ سِيَاقِ الْمُجْتَمَعِ, .
3/ "تهْمِيشَ –Marginalize " : جَعْلَهُ عَلَى الهَامِشِ ، أيْ عَدَمَ إعْطَائِهِ أهَمِّيَّةً.
(أ) - تمييز وإقصاء إجتماعى :-
وقد عرَّف الدكتور / أليين تودمان مدير معهد دراسات التهميش والإقصاء الإجتماعى فى مدرسة أدلير لعلم النفس المتخصص, مفهوم "التَّهمِيش" على النحو التالى : (جملة الإجراءات والخطوات المُنظَّمة التى على أساسها تُوضع الموانع أمام الأفراد والجماعات, حتى لا يتحصلوا على الحقوق, والفرص, والموارد, وخدمات السكن / الصحة / التوظيف / التعليم / المشاركة السياسية, وغيرها من الحقوق المُتاحة للمجموعات الأخرى, والتى هى أساس التكامل الإجتماعى), وقد إعتبر أليين إن مفهوم "التَّهمِيش" يتم إستخدامه فى أجزاء واسعة من العالم ليُعبِّر عن (التمييز والإقصاء الإجتماعى).
(ب)- إستبعاد عن المشاركة :-
وفي إطار محاولة التفرقة بين مفهومي "التَّهمِيش" و"الإستبعاد"، أكَّدت الباحثة د/ مى مجيب عبد المنعم, فى رسالة دكتوراة بعنوان : (سياسات التضمين والتهميش .. دراسة الحالة المصرية - 1991- 2008) - كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة 2011, وركزَّت على المسألة القبطية, أكّدت أن مفهوم التهميش هو مفهوم أوسع من الإستبعاد، حيث عرَّفت الباحثة "التَّهمِيش" بأنه : (عملية الإستبعاد من المشاركة الفعَّالة في المجتمع)، إلا أنها في الوقت ذاته قد أشارت إلى التهميش كمفهوم يرتبط عند البعض بظاهرة الفقر، ويرتبط عند البعض الآخر بفكرة إنعدام الفاعلية، وغياب الدور والمشاركة الفاعلة في المجتمع. أما الإستبعاد كمفهوم، فهو ظاهرة خطيرة، نظراً لكونه يمس مختلف أطياف المجتمع، ويؤثر في مدي إندماجهم فيه، ولكنه أيضاً "ثقافة" قد تُمثل عاملاً مساعداً لظهور التفاعلات ذات الطابع العنيف والمُمَنّهج. ولهذا، تبنت دراستها تعريف الإستبعاد بأنه : (تمييز ضد بعض الأفراد أو الجماعات في المجالات السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية، مما يُؤثر في وضع هؤلاء الأفراد والجماعات داخل هيكل القوة المجتمعية).
وهذا التعريف أكثر دقة ويمكن أن يعبر عن الحالة السودانية بوضوح إذا تمت قراءته مع بقية التعريفات الأخرى كما سنوضح لاحقاً.
(ج)- حدود وفواصل :-
ويُعرِّف الدكتور/ حبيب العايب, الباحث التونسيّ في مجال الجغرافيا الإجتماعيّة والسّياسيّة, و يعمل بمركز الدّراسات الإجتماعيّة بالجامعة الأمريكيّة بالقاهرة, المفهوم, بقوله :
هناك تعريفات أساسيّة متّفق عليها، وهي تكاد تكون تعريفات لغويّة معجميّة, ويطرح سؤالاً : أين يوجد الهامش؟ ويُجيب : يوجد خارج المركز، فمقابل الهامش هناك المركز, ففكرة الهامش بلا "مركز" لا معنى لها، أي أنّ المُهمَّش لا يمكن أن يكون مهمّشاً في حدّ ذاته، بل بالنّسبة إلى حالة أو وضع مركزيّ, ويُضيف : يمكن أن نتحدّث عن قرية أو منطقة أو بلد مهمّش مثلاً, ويمكن أن نتحدّث عن فئات مُهمّشة في مكان مُحدّد, وتهميش المكان قد يرتبط بتهميش فئات إجتماعيّة مُحدَّدَة.
و يرى العايب, أن هناك أربعة حدود فاصلة بين "المُهمَّش" وغير "المُهمَّش" :
1/ الحد الأول : حدّ فاصل جغرافيّ مكانيّ.
2/ الحد الثانى : حدّ فاصل آخر يُعرّف معياريّاً, إذا قررّ المجتمع معايير معيّنة، فإنّ كلّ من لا يطبّقها يوصمون- stigmatization بأنّ ممارساتهم غير عاديّة, (مثلاً : الذين لا يتحدثون العربية ولا يدينون بالإسلام فى الحالة السودانية).
3/ الحدّ الثالث : ويرتبط بالأصل، الأصل الفضائيّ أو القبليّ أو الدّينيّ أو الإثنيّ... والمثال الأكثر شُهرة هو حالة "المنبوذين" في الهند, هذه الهامشيّة لا تتعلّق في حدّ ذاتها بالفقر أو الغنى، لكنّها قد تكون منتجة لفقر جماعيّ .
4/ الحدّ الفاصل الرّابع : هو التّهميش على أساس إجتماعيّ إقتصاديّ. وهذا الحدّ مرتبط مباشرة بوصول أو عدم وصول الأفراد أو المجموعات إلى الموارد الاقتصاديّة، وهنا تظهر فئات العاطلين عن العمل، وكلّ من لا يصلون إلى الموارد (التّعليم / الصّحّة /السّكن، والأرض للفلاّحين / ومياه الشّرب .. إلخ), وهذه هي الفئة الهامشيّة الوحيدة التي يمكن إخضاعها إلى مقولة الكمّ، وقياسها، مع هامش خطأ محدود نسبيّاً.
ويؤكد د/ حبيب أنّ التّهميش الجماعيّ المرتبط بعدم الوصول إلى الموارد لا يستثني وصول بعض الأفراد من المجموعات المُهمّشة إلى وضعيّات مميّزة، رغم أنّ هؤلاء الأفراد ينحدرون من المجموعات المُهمَّشة (مثل حالة الرّئيس الأمريكيّ أوباما)،. فالهامشيّة يمكن أن توفّر لبعض الأفراد فرص نجاح قد لا تتحقّق لهم خارج هذه المجموعة المهمّشة, وهذا ما يجعل المفهوم أكثر تعقُّداً, وبخصوص المرأة يرى العايب, إن المرأة من حيث هي إمرأة، مُهمّشة، مع تفاوت في الدّرجة, فعندما يوجد رجل مهمّش، فإنّ زوجته غالباً ما تكون أكثر هامشيّة منه, ويربط العايب مفهوم التهميش (المُتعَمَّد) بالإقصاء ويقول : ان أوّل صيغة من صيغ الإقصاء هو الوصمة, و تنبع من حكم القيمة المسلّط على المُهمّشين (لا أُصادق فلان لأنّه فقير، إبنتي لن تتزوّج فلان لأنّه أسود اللون).
الوصمة فى الثقافة السودانية :
الوصمة كما عرَّفها د/ حبيب العايب بإعتبارها أول صيغة من صيَّغ الإقصاء والتهميش الإجتماعى, وكونها تنبع من حُكم القيمة المُسلط على "المُهمَّشين", فتوجد العديد من الأمثلة الشعبية, والأشعار, والأغانى السودانية التى "تَوْصِم" المُهمَّشون بصفات تضعهم فى مرتبة الدونية بإستمرار, وهذا الملف ربما نتطرق إليه لاحقاً ولكننا سنكتفى هنا ببعض الأمثلة, فعلى سبيل المثال يقولون (الزول ده فيهو عِرِق) فى إشارة إلى أصوله الزنجية حتى لو لم يكن خلفيته "رقيق", وفى أحدى الأمثال الشعبية الشهيرة (ود الغرب, ما بُسر القلب), ومثال آخر, أُغنية الفنان الكبير محمد الأمين (عيال أبو جويلى) .. والتى تحكى عن إسترقاق أبناء غرب السودان, وهى الأغنية التى إعتزر عنها الفنان الكبير, وإزداد قامة عند السودانيين, ولفرقة عقد الجلاد الغنائية تُراث كبير من الأغانى ذات "الوصمات", مثل أغنية (النور عنقرة) التى تتحدَّث عن (القيقرا) وهى منطقة كان يتم فيها تجميع (الرقيق) وقد أُعتُبِرت مُمجدة للرق والإسترقاق, وفى نقاشات دارت مع بعض أفراد الفرقة, إعتزروا عنها ولكنهم إعتبروها من الأغنيات التى إشتهروا بها ولا يمكنهم التخلى عنها, بالإضافة إلى أغنية (أم در يا ربوع سوداننا) بالرغم من كونها أغنية تعكس جميع ثقافات ومناطق السودان إلا إنها ميَّزت مجموعات الوسط والشمال النيلى ( نحن أولاد بلد .. نقعُد ونقوم على كيفنا .. وفوق رُقَاب الناس مجرَّب سيفنا), وأغنية (أمونة) التى تقول فى إحدى مقاطعها مُتحدثة عن الجهادية, وهم جنود ينحدرون من الرقيق المُستجلب من غرب السودان (جبنا ليهم سمسم .. والسمسم ما كفاهم .. أديناهم سعية) والسعية هى البهائم, وتشير الأغنية إلى جشع وطمع أبناء الغرب, وبرغم ذلك تظل فرقة عقد الجلاد واحدة من تُحف الغناء السودانى, تعكس التُراث والتنوع الثقافى, وقلبٌ للشعب ينبُض بالثورة, ولم ينصف أبناء الغرب سوى الفنانة الشعبية (حنان بلوبلو) التى مجَّدت أبناء الغرب (قالوا القِليب حِرِق .. حرقُوه بالنار حَرِق .. يا ناس ود الغرب) برغم كونها عاطفية, ولكنها أكَّدت على عدم وجود فوارق بين المجتمعات السودانية.
الخلفية التاريخية للمفهوم فى السودان:-
يُرجع الدكتور / محمد جلال هاشم إدخال مصطلحي "المركز" و "الهامش"، الذي تولّد داخل أروقة الفكر الماركسي المُحدَّث بعيد منتصف القرن العشرين في إطار تحليل أوجه الصراع الثقافي والسلطوي في السودان عام 1968م، و عام 1971م عندما إستخدم (علي مزروعي) المُصطلحين في معالجته النقدية للصراع الثقافي بين مُستعربى السودان وما شاكله من دول ذات شعوب مُستَعربة أسماها "الهامش" (السودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي)، وبين العرب العاربة الذين أسماهم "المركز". وفي عام 1986م, قام د/ محمد جلال نفسه في الإصدارة الشعبية الأولى لكتابه (منهج التحليل الثقافي) بتوطين هذين المصطلحين في تحليله للصراع الثقافي في السودان بالنظر إليه على أنه بين (مركز) إسلاموعروبي و(هامش) أفريقي؛ وقد إستصحب مع مصطلحي "المركز" و"الهامش" مصطلحي "الوسط" و "الأطراف"، ليركن بعدها في الطبعات الثلاث اللاحقة (1988؛ 1996؛ و1999) إلى مصطلحي "المركز" و"الهامش". بعد ذلك قام الدكتور / عبد الغفار محمد أحمد (1988م)، متبنّياً رؤية علي مزروعي بخصوص الحزام الهامشي للدول العربية، بمعالجة قضايا الصفوة والطبقة المثقَّفة في هذه الدول الهامشية من حيث تحامل رصيفاتها في باقي الدول العربية "العاربة" عليها .كما إستخدم الدكتور/ منصور خالد (1993) مصطلح "المركز" دون "الهامش" بمحمولات جغرافية ديموغرافية ("أهل الحضر والريف"؛ "المركز والتّخوم"). فيما بعد تمّ تكريس هذا المصطلح عبر كتاب الدكتور/ أبّكر آدم إسماعيل جدلية المركز والهامش (1997) بأجزائه الثلاثة.
أن أصول التهميش ترجع إلى قرون وليست عدة عقود كما يرى البعض, ولقد تطرقنا لذلك خلال مقالات نُشرت فى عدة مواقع بعنوان (قراءة ثانية لأزمة المناطق المهمشة فى السودان) ويمكن الرجوع إلى المقالين : (1-9) والمقال (2-9), حيث أرجعنا التهميش إلى عصر مؤسسة الرق وما نتج عنها من رأس مال رمزى تَشكَّل تاريخياً, ووضعية إجتماعية وسياسية وإقتصادية تم توارثها عبر التاريخ الطويل إلى يومنا هذا, وهو ما يتعلق بوضعية بعض المجموعات السكانية والمناطق الجغرافية والتى أسميناها بالمناطق المهمشة, وينطبق عليها تعريفات " التهميش" كما أوردها الدكتور / أليين تودمان (الإقصاء الإجتماعى), والحدود الفاصلة التى تحدث عنها الدكتور / حبيب العايب ( الحد الجغرافى / الحد المعيارى / الأصول الإثنية).
و فهمنا لعمليات "التَمرْكُز" و"التَّهمِيش", إنها ليست مرتبطة بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، والذين يريدون التشكيك فى تصوُّرَات الآخرين, لديهم أغراض أخرى تهدف إلى عدم الإعتراف بحقائق الواقع, وبالتالى جر الآخرين إلى مغالطات عقيمة لا تُفيد, فالمركز "مركز" صفوي يحتكر السلطة والثروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يُسخِّر الثقافة والعرق والدين والجغرافيا, وبهذا أصبح هناك طريق واضح المعالم للطامحين بالسلطة, إذا سلكوه, وصلوا إليها : (الأسلمة والإستعراب)، أي تبنّي الأيديولوجيا (الإسلاموعروبية). وهكذا تكَوَّن المركز من صفوة متباينة الأعراق والثقافات، متلاقية في الأهداف المتمثّلة في الثروة والسلطة, هنا لا يهمّ من أي مجموعة ثقافية أو عرقية ترجع أصولك، طالما كنت مستعدّاً للتضحية بأهلك تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما بريئ من ذلك. في الواقع فإن أغلب الرموز القيادية التي قام عليها المركز, هم من أبناء المجموعات المُوغلة في التهميش إلى حد التعريض بها ثقافياً وعرقياً. هذا هو المركز الذي يُسيطر على مؤسسة الدولة في السودان، مُهمِّشاً في ذلك جميع السودانيين (د/ أبّكر آدم إسماعيل، 1997م).
مفهوم التهميش وطبيعة الصراع فى السودان :-
التهميش كما جاء فى أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان (منهج الأساس), هو إستبعاد الأفراد والجماعات من حيازة السلطة والثروة بخلق الموانع التى تُضيِّق السبل لحيازتها, الأمر الذى يجعل هذه الموانع نفسها مصدر إمتيازات لفئات أخرى مُهيمنة, وهذه الموانع عديدة ومتنوعة فمنها ما هو إقتصادى, يختص بالملكية وتقسيم العمل, ومنها ما هو إثنى ثقافى, ومنها ما هو دينى, ومنها ما هو جهوى, ومنها ما هو نوعى, ولذلك لا يجوز التعامل مع التهميش وكأنه درجة واحدة , فهناك التهميش البسيط, والتهميش المُركَّب الذى يتفرع إلى عدة درجات.
1/ التَّهمِيش البسيط :
وهو التهميش الإقتصادى, ويطلق عليه د/ جلال هاشم مصطلح التَّهمِيش (التنموى), وهو الذى ينقسم فيه الناس إلى من يملكون ومن لا يملكون , من يجدون سهولة فى كسب العيش, ومن تضيق عليهم سبل كسب العيش, ويشمل الفقراء بغض النظر عن الإثنية أو الثقافة أو الدين أو الجهة, ولذلك يقال إن الناس مُهمَّشين فى كافة جهات السودان, أو (السودانيين كُلهم مُهَمَّشين) وهذا صحيح ونتفق مع ذلك, ولكن هذا فى الإطار الإقتصادى فحسب, ولكن هناك أشكال أخرى للتهميش أكثر عُمقاً, وأكبر أثراً.
2/ التَّهمِيش المُركَّب :-
وهو الذى تتداخل فيه عدة عوامل وموانع تحرم الأفراد والجماعات من الحقوق وفرص الحصول على الإمتيازات التى يتحصل عليها الآخرون, ويتفرع إلى درجات على النحو التالى :
أ- التهميش ثنائى التركيب :
وهو الذى يتداخل فيه العامل الإقتصادى بالعامل الإثنى الثقافى : ويشمل أغلبية المنتمين للكيانات الثقافية الإثنية غير العربية , فهؤلاء بالإضافة إلى كونهم فقراء فهم مهمشون ثقافياً وعرقياً , وينظر إلى ثقافاتهم وأعراقهم على إنها دونية مما يعرضهم للتمييز السالب وبحيث يصبح عامل العرق والثقافة مانع أمام حيازة السلطة والثروة , وهنا يظهر الفرق بينهم وبين الفقراء المنتمين للإثنية والثقافة السائدة التى هى مصدر إمتياز لهم , ومثال لذلك المُنبتين قبلياً وهم أحفاد العبيد المُحررين وكافة المجموعات والقبائل الزنجية فى السودان, فهؤلاء جميعاً نتيجة لوجود الموانع الإثنية والثقافية فهم محرُومون من تقلد المناصب أو شغل المواقع الرفيعة فى الدولة, كما هم أيضاً محرومون من الحصول على الثروة لعدم توفر الفرص اللازمة لذلك (تعليم / كفاءات/ سلطات / تسهيلات / ....إلخ) .
ب- التهميش ثلاثى التركيب :
وهو درجة من التهميش تتداخل فيه العوامل : الإقتصادية, الإثنية الثقافية بالعوامل الدينية, وهذا النوع من التهميش أكثر عمقاً, فبالإضافة إلى الموانع الإقتصادية والإثنية والثقافية فهناك عامل الدين, فغير المسلمين فى السودان, وبحكم كونهم غير مسلمين, لا يمكنهم الوصول إلى الدرجات القيادية, سوى كانت دستورية أو فى الخدمة المدنية, فهم غير مؤهلون لذلك بحكم ديانتهم (بإستثناء الذين دخلوا عبر إتفاقيات السلام, أو الذين تعيَّنوا لأغراض الترميز التضليلى وظلوا بدون سلطة حقيقية), والشاهد على ذلك إن العديد من الوظائف يُطلب فيها عند المعاينات معرفة عدد (السور القرآنية) التى يحفظها الشخص, وبعض الأسئلة التى تُطرح فى المعاينات هى أسئلة دينية مرتبطة بالإسلام "حصرياً", فقد يسألونك عن (الصحابة أو الخلفاء الراشدين أو فرائض الوضوء ..إلخ) .!! والأمثلة كثيرة, وبعض الناس, لتقلُّد المناصب الرفيعة, إضطروا لتغيير ديانتهم ..!!.
ج- التهميش رباعى التركيب :
وهذا النوع من التركيب يدخل فيه عامل الجهة (المنطقة), بالإضافة للعوامل الإقتصادية, الإثنية الثقافية, والدينية, ومثال على ذلك غير المسلمين القاطنين فى المناطق المُهمَّشة عموماً, فبالإضافة إلى كونهم مُهمَّشون إقتصادياً, ولا ينتمون إلى الثقافة العربية إثنياً, ولا يدينون بالإسلام, يُضاف إلى ذلك إنهم من مناطق مثل جبال النوبة أو الفونج, وبالتالى فإن الجهة التى ينحدرون منها تُمثِّل أيضاً عامل تهّمِيش آخر, ومانع من موانع الحصول على الإمتيازات فى السودان, ووضعية هذه الفئة تاريخياً فى الدولة, تؤكد ذلك .
د- التهميش خماسى التركيب :
وفى هذا النمط من التهميش يُضاف عامل (النوع / الجندر) إلى العوامل الإقتصادية, الإثنية والثقافية, والدينية, والجهوية, ويُجسّده مثال : المرأة, الفقيرة, غير العربية, غير المسلمة, والتى تقطن المناطق المُهمَّشة, فهذه خمسة عوامل, وخمسة موانع تقف ضد المرأة فى هذه الفئة, فهى مُهمَّشة أصلاً لكونها إمرأة, ثانياً - فقيرة, ثالثاً - غير عربية, رابعاً - غير مسلمة, خامساً - تنتمى إلى جبال النوبة أو الفونج, وبالتالى فهى مُهمَّشة تَهْمِيشاً خُماسى التركيب.
تقسيمات وهمية : تكتيكات المركز :-
في سبيل تأمين تحكّمه على مؤسسة الدولة وعلى رقاب العباد، اتّبعت الصفوة المُهيمنة على المركز العديد من الحِيَل. من ذلك تقسيم السودانيين إلى مجموعات خطية متقابلة : (الزنوج السُود العبيد / مقابل العرب الشرفاء – أولاد البلد), العرب / ضد الزُرقة (حالة دارفور), ثم العرب أنفسهم يتم تقسيمهم إلى عدة مجموعات متقابلة، مثل : الأشراف وأبناء القبائل العاربة / مقابل الأعراب البدو (البقارة / الأبالة / ....ألخ), هذه التقسيمات الخطية القائمة على العرق, تقابلها تقسيمات أخرى قائمة على الجغرافيا بتحميلات عرقية لا تُخفى : الشمال (عربي، مسلم) / ضد الجنوب (زنجى، مسيحي) / أولاد الغرب (الغرّابة) / ضد أولاد البحر (أولاد البلد، أي أولاد العرب), روّج المركز الذي سيطر على مؤسسة الدولة لهذه التقسيمات حتى أصبحت بمثابة مفاهيم نمطية تفشَّت في ثقافة وسط وشمال السودان النيلي . إن الغرض من هذه التقسيمات هو تحييد أكبر قدر من المجموعات المُهمّشة، ريثما يتمكن المركز من إحتواء مجموعات بعينها تشكّل تهديداً مباشراً. إن التقسيم الأيديولوجي الحقيقي الذي يعكس هذا الوضع هو تقسيم دائري : مركز يحيط به هامش، وليس التقسيم الخطي (د / محمد جلال هاشم, 2005).
وهذه التقسيمات ترتبط إلى حد كبير بدرجات التهميش, فمعظم المجموعات ذات المُكوِّن العربى فى الوسط والشمال النيلى, تعانى من التهميش البسيط (الإقتصادى), بينما المجموعات التى تنتمى إلى الإصول والثقافة العربية فى مناطق الهامش, فإنها تُعانى من التهميش المُركَّب ثُنائى التركيب ( الإقتصادى / الجهوى), أما جميع المجموعات الزنجية فى السودان, فإنها تعانى من كافة درجات التَّهمِيش المُركَّب.
حرب الهامش ضد المركز :-
لقد إستمرت هذه العملية لزمن طويل حتى وصلت في النهاية حد التمييز العنصري والإضطهاد الكامل، ولهذا نهضت المناطق التي وصلت حدّاً لم يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الإضطهاد والتهميش المُركَّب، فقاومت بضراوة بلغت مستوى الحرب والثورة. إن وتيرة اندلاع الحرب فى السودان, تتساوى طرديّاً مع درجة التهميش والإضطهاد، فقد بدأت في الجنوب, فجبال النّوبة والفونج، فالشرق, ثم دارفور, ونلاحظ أن الحرب في الجنوب بدأت عام 1955م، بينما لحقتها جبال النوبة والفونج بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود, هذا لأن جبال النوبة والفونج كانتا لا تزالان تحت التحييد، فالتقسيم الخطي (شمال ضد جنوب) كان لا يزال تأثيره عليهما سارياً, ثم بعد ذلك جاءت جبهة الشرق, ثم ثوار دارفور ...ثم إنتفض النوبيون والمناصير.
المراجع :-
1/ د- محمد جلال أحمد هاشم : مفهوم التهميش وتحديات العمل المشترك – ورقة - المؤتمر النوبي (نوبيين كريووس) مكتب بريطانيا – لندن 17 سبتمبر 2005.
2/ د- أبكر آدم إسماعيل (1997), : جدلية المركز والهامش – قراءة فى دفاتر الصراع فى السودان.
3/ د- الحبيب العايب : مفهوم الهامشية و معايير التهميش- ورقة 5 مارس 2010.
4/ د/ مى مجيب عبد المنعم : رسالة دكتوراة " سياسات التضمين والتهميش .. دراسة الحالة المصرية (1991- 2008) ، - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، جامعة القاهرة في 2011.
5/عبد الغفّار محمد أحمد (1988)، قضايا للنقاش : في إطار إفريقية السودان وعروبته، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.
6/ د- منصور خالد (1993), النخبة السودانية وإدمان الفشل، جزءان، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة.
7/ د- محمد جلال هاشم (1999)، منهج التحليل الثقافي: القومية السودانية وظاهرة الثورة والديموقراطية في الثقافة السودانية، الخرطوم.
8/ منهج معهد التدريب السياسى والقيادى بالحركة الشعبية لتحرير السودان– كتاب الأساس.
9/ الموسوعة العالمية - Wikipedia the free encyclopedia.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.