كل من تابع مسار مفاوضات السد الإثيوبي وتعرف عن قرب علي استراتيجية المفاوض الإثيوبي لن يفاجأ بانسحاب اثوبيا من مفاوضات آخر شهر فبراير 2020م. فالاستراتيجية الإثيوبية كانت واضحة منذ البداية وقد تأسست في الأصل علي مبدأ (شراء الزمن بالتفاوض). غير أن هول الصدمة ربما يكون كبيرا علي الذين عولوا علي الخروج بمكاسب من العملية التفاوضية وعلي رأسهم مصر. أما الجانب السوداني فلن يملك إلا أن(يعرب عن خيبة أمله من الإنسحاب) دون أن يعني ذلك شيئا ذو بال. لأن الموقف السوداني في الأصل مؤسس علي ال ( لا موقف) . فهو لم يكن طرفا حقيقيا في التفاوض وليس لديه ما يتفاوض عليه لأنه أسقط أوراق تفاوضه منذ البداية وتحديدا بعد توقيع إعلان المبادئ مارس 2015م. وحتي بعد الثورة المجيدة لم تتغير مواقف المفاوض السوداني وطرح أجندة حقيقية يمكن أن يفاوض عليها. فلا هو اثار بناء السد علي اراضي سودانية - داخل أراضي بني شنقول ولا هو أكد علي قضية مخاطر السد التي قد تنجم عن حجم السد وسعته وأمانه ، ولا هو ركز علي امنه المائي. ففي المجمل لم تخرج الرؤيا الكلية للمفاوض السوداني عن تأكيد مزايا السد وفوائده علي السودان في الكهرباء استيرادا وانتاجا، وتقليل فيضانات النيل الأزرق ، وتأمين انسيابيته وغيرها مما ظل يبشر به وزير الري السوداني شعبه بهذا " الفتح الإثيوبي المبين " . وبذلك عمليا يكون السودان قد أخرج نفسه من دائرة التفاوض. وتتكشف حقيقة ذلك في تصور سيناريو مختلف مما جري عند انسحاب اثيوبيا... فإذا تم الافتراض أن الوفد الذي تغيب او انسحب عن اجتماع واشنطن هو الوفد السوداني ما الفرق الذي يمكن أن يحدثه في سير المفاوضات؟! وحتي لا يُساق القارئ الي أي خلاصة في الإجابة علي هذا السؤال ، يمكن قراءة تغيب اثوبيا من منظور واحد لا ثاني له وهو العصف بعملية التفاوض برمتها، لأن يد إثيوبيا فيه هي اليد العليا. وهي مدركة تماما لهذه النقطة. كما تدرك أيضا علي ماذا تفاوض والي اي مدي تفاوض ومتي تنسحب وبأي حجة تنسحب. ولتأكيد دور اثوبيا المحوري في التفاوض فقد جعلت من وجود وفدي السودان ومصر مجرد وجود شكلي. بالمقابل لا يمكن تصور غياب أو إنسحاب مصر من التفاوض لأنها هي من سعت للحل التفاوضي وهي من أدخلت امريكا والبنك الدولي علي خط المفاوضات بناء علي إستراتيجية واضحة من الجانب المصري بغض النظر عن نجاحها أو فشلها. علي عموم الأمر فقد شكل إنسحاب إثيوبيا صدمة للجانب المصري وتركه منبوذا في العراء بعد أن حققت أو بالكاد حققت إثيوبيا مرامها من عملية التفاوض وهو شراء الزمن ومتابعة تشييد السد ، وسوف لن تتنازل في مسألة تشغيله وملئه لأنها تعتقد أن الأمر أمر سيادي بالنسبة لها ، هذا فضلا أن انها لن تعترف باي حق تاريخي في حصص المياه لا لمصر ولا للسودان ، لانها في الاصل لا تعترف باتفاقية 1958 ، وستكون المتحكم الرئيس في ما يتدفق من النيل الأزرق من مياه بعد أن أحكمت قبضتها علي (البلف). فبالرجوع لاستراتيجية إثيوبيا بكسب الوقت بالتفاوض، وهذه الاستراتيجية بالمناسبة تفهم ضمن نطاق الذهاب في (الطريق مستقيم الاستدارة) بمعني أن نقطة البداية هي نفسها نقطة النهاية فإنها قد بررت انسحابها عند نقطة النهاية هذه بمبرر أخلاقي لا يمكن رده أو التقليل من شأنه وهي انها لايمكن أن توقع علي اتفاق نهائي حول (الملء والتشغيل) إلا بعد إجراء مشاورات داخلية مع من اسمتهم أصحاب المصلحة بالداخل وتعني بذلك البرلمان. أي إرجاع الأمر كله للشعب الإثيوبي وهي حجة لا يمكن رفضها ، خاصة لدي من يؤمنون بالديمقراطية التي تراعي جانب إرادة الشعب في القضايا المصيرية. فبغض النظر عن التذرع الإثيوبي بهذه الحجة، إلا أنه يظل موقفٌ يمكن أن يتأمله المراقب السوداني ليستفيد منه من جهتين. الأولي: انه موقف كان من الأحرى أن يتبناه المفاوض السوداني طبقا لمعطيات الظرف الآني في السودان في أعقاب الثورة المجيدة ، أي أن الشعب هو الذي صار صاحب الكلمة الفصل في الأمر. ولا يمكن التوقيع علي اتفاقية بخصوص سد تكتنفه مخاطر جمة دون الرجوع إليه بمجرد موافقة حفنة من التكنوقراط وبصفة انتقالية. الثانية: وهذه تنسف القاعدة التي يرتكز عليها وفد السودان المفاوض وهو أن موضوع السد موضوع فني بحت ولا يمكن تركه أو إحالته لأي جهة غير فنية. وهذا وَهمٌ ضحدته اثوبيا عمليا. إن إنسحاب إثيوبيا من المفاوضات من وجهة نظر براغماتية موقف يجنبها التوقيع على أي ورقة ملزمة قانونيا أو أخلاقيا. وهو موقف كان قد طالب به علنا الكاتب الإثيوبي ديجين يمان ميسل Dejen Yemane Messele في مقال بالانرنت نُشر في صحيفة Addis Standard بتاريخ 18 ديسمبر 2019 م اتخذ له عنواناً شاعرياً جاذباً يجب ألا يُترجم ذلك أن الترجمة تفسد أصالة المعني الذي يريد الكاتب ايصاله .... *(Tripartite Talks in Washington : Shipping the Nile out of Home )* دعي فيه صراحة الوفد الدبلوماسي الإثيوبي المفاوض للانسحاب من المفاوضات الثلاثية وعدم التوقيع علي أي ورقة وقد قال ما نصه: (ان إنهاء التفاوض بلا إتفاق سيكون حتما في صالح إثيوبيا). ولتذهب بعد ذلك مصر الي أي منصة قضائية لأنه لن يكون في يدها ما تستند إليه. خلاصة القول إن ما قامت به إثيوبيا منظورٌ له من وجهة نظر مصالحها القومية قد أمنته بتفوق ظاهر ، و تبقي الكرة في ملعب مصر والتي لن تعجز - بما لها من خبرات وقدرات- عن إعادة تشكيل قواعد اللعبة، أما المفاوض السوداني ويا للحسرة ، فسيبقي تماما مثل أؤلئك الأطفال الذين يحيطون بأطراف الميدان ليعيدوا الكرة كلما خرجت منه. كتب د.محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية