د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية طفا علي سطح الأحداث اللاهب في السودان الموقف من الاقتراح الذي تقدمت به مصر بإدراج بند حول سد "النهضة" علي جدول أعمال الدورة العادية ( 153) علي المستوي الوزاري لاجتماعات جامعة الدول العربية. والذي تحفظ فيه السودان علي المقترح المصري وطالب بإدراج تحفظه رسميا في 4 مارس 2020 م وقد بدأ للعديد من المراقبين والمتابعين أن الموقف السوداني موقف غريب وغير مفهوم وغير منطقي، خاصة وأن مشروع المقترح يدعم موقف السودان بالضرورة في حقه في مياه النيل. وقد نظر له فريق آخر كنصر للدبلوماسية السودانية لجهة أن هذا التوجه ربما يخلق انقسام وتداعيات علي العمل الإقليمي المشترك بين أكبر كتلتين في العالم أفريقيا والعالم العربي حيث يمثل كلاهما أغلبية مطلقة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. بينما ذهب آخرون الي ان الموقف السوداني ربما يصل لمستوي "الخيانة" بحسب ما عبر عنه الصحفي العربي عبد الباري عطوان في مقال له نشر بصحيفة رأي اليوم الإلكترونية وتم تداوله في والوسائط السودانية. ولإجلاء الأمر في البدء لابد من استبعاد موقف السيد عطوان لأنه ينطلق من وجدان جريح مدفوعا بمُثل التضامن العربي الإسلامي، فالوجدان الجريح للكاتب عطوان هو ذاته ما دفعه للنظر الي أسامة بن لادن كبطل إسلامي. ففي كل اللقاءات التي كانت تتم معه خاصة علي قناة الجزيرة لا يذكُر اسم بن لادن إلا ويحفه بلقب شيخ أسامة وذلك يبدو مفهوما في سياق إنتمائه للايدولوجية الإسلامية، التي لا يشاطره فيها أهل السودان الرأي ولا الإعجاب. لاسيما وأنهم قد خرجوا لتوهم من معركة ضد نظام إسلامي مستبد. لذلك فحديثه عن الخيانة يظل ناتج عن لدغات قديمة ومرارات تاريخية تجرعها هو والشعب الفلسطيني ممن قال عنهم الشاعر العظيم مظفر النواب (جلبتم أسلحة تطلق للخلف). ومعروف في تاريخ النضال العربي منذ العام 1948م مَن خان مَن. إن موقف السودان الذي أعلنه لايمكن فهمه إلا ضمن نطاقه الضيق. أي في سياق موقف السودان الذي تتبناه الحكومة من السد. فالسودان الرسمي وللمعلومية لم يتحفظ علي السد الإثيوبي، بل بالعكس ظل يبشر به منذ نظام البشير والي حكومة حمدوك ، كواحد من أهم المعالم التنموية التي ستفيد السودان في العديد من الوجوه، في الإمداد الكهربائي ، وتنظيم جريان النيل الأزرق وجحز الطمي وغيره مما يسميه الجانب السوداني الرسمي فوائد السد المتعددة. بناء علي هذه الخلفية يمكن فهم موقف السودان بعيدا عن كل التحليلات السابقة. فالأمر هنا لا يتعلق بجدل هوية ولا انتماء عربي أو أفريقي أو غيره مما قد تذهب إليه التحليلات والاسقاطات المرتكزة علي نظرية معطوبة مستمدة من "منهج التحليل من منظور ثقافي" . طالما كان موقف الحكومة السودانية متماهياً مع موقف إثيوبيا وتري ان تشييد السد يسدي خدمات جليلة للسودان بكل تلك "الفوائد والمزايا" ، فما الذي يجعله يتبني موقفا مناهضا لإثيوبيا حتي وإن أتي هذا الموقف من دائرته الإقليمية الأقرب وهي الجامعة العربية؟! وهذا يعني ضمن ما يعني أن مصالح الجانب السوداني الرسمي لا تتطابق بالضرورة مع الموقف المصري ولهذا كان تحفظ السودان علي الاقتراح. هذا فضلا عما ركز عليه خطاب تحفظ السودان وهو في مجمله تحفظات إجرائية علي كيفية طرح المقترح، ففي النقطة الثالثة من خطاب تحفظ السودان أكد علي أن الموضوع قد طرح فجأة في اللجنة السياسية قبل يوم واحد من من انعقاد الاجتماع الوزاري. كما أكد الخطاب علي حساسية تركيب الحكم الحالي والذي يقتضي طرح الأمر علي رئاسة الدولة والحكومة للحصول علي تعليمات وهذا يعني أن ممثل السودان لا يمكن أن يمضي ابعد من التحفظ علي القرار برمته. في المجمل ومن متابعة مجريات الامور علي اقل تقدير في الآونة الأخيرة يبدو من الواضح أن مصر قد حسمت أمرها في قضية السد بإتجاه تصعيدي طبقا للموقف الإثيوبي المتعنت والمرواغ خاصة في أعقاب انسحاب إثيوبيا من مفاوضات واشنطن في أواخر فبراير المنصرم. فالخطوة التي اتخذتها داخل الجامعة العربية تفسر ذلك لأنها بصدد الحاجة للدعم العربي في حالة احتاجت له، وهو موقف قد يبدو تضامنيا في ظاهره ، غير أنه تعبوي في باطنه ، وتمهيدي لما سيأتي بعده من خيارات مازالت مضمرة. بينما الموقف السوداني لا زال يؤمل في إثيوبيا أن تؤمن له مياهه ، وتمده بالكهرباء الرخيصة ، وتروض له عنفوان نهر النيل الأزرق وغيرها من الرجاءات التي يعول عليها "بحسن نية". وهو ذات التعبير ( حسن النية) الذي تكرر في معظم فقرات إعلان المبادئ 2015 الذي وقعته الدول الثلاثة. إن تعبير (حسن النية) هذا يصلح أن يكون خط تقسيم المواقف Positions demarcation line بين فرقاء النيل الثلاثة. فمصر وبعد أن تجرعت كأس حسن النوايا عند توقيعها عليه في الخرطوم وجدته كأساً مترعاً بسم زعاف، تحاول أن تتقيأه الآن علي شرفات جامعة الدول العربية وردهات البنك الدولي ودهاليز وزراة الخزانة الأمريكية. أما السودان فسوف يظل يدور ويطوف كدرويش حسن النوايا علي عتبات إثيوبيا علها ترفده بالكهرباء، أو تؤمن له جرعة ماء تسد به حمأة الظمأ التي ستعتريه حتماً. في حين ستقف إثيوبيا كامبراطورة متوجة تجلجل ضحكاتها وتتردد أصداؤها علي جدر هضبتها من فرط سذاجة فراقائها من ذوي النوايا الحسنة. د. محمد عبد الحميد أستاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.