عندما رفضت (ولم نقل اسقطت) قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت) موازنة الحكومة للعام 2020 وقيل لنا أن التوافق حولها سيتم في ظل حوار مجتمعي ومؤتمر اقتصادي أعلن عنه فقد كان تساؤلنا الرئيسي عن الآلية التفصيلية التي ستستخدم الى التوصل الى التوافق المقصود من داخل هذا المؤتمر. وحيث أن المؤتمر تشارك فيه أطراف نعلم أنها متباينة الرؤى حول قضايا متعددة ومعقدة تكتنف الموازنة وبين أطراف واسعة الاختلاف من حيث المناهج الفكرية فقد كان رأينا صراحة أن المؤتمرات ليست المنابر المناسبة لمعالجة هذه القضايا الخلافية. فالتوافق يستلزم، في تقديرنا، جلوس الأطراف فورا (وبعيدا عن الاعلام) للتفاوض بهدوء وبصخب في بعض الاحيان وحتى "المجابدة" بين الأطراف ذات الرؤى المختلفة. والمسألة تتعلق باختلافات حول خيارات سياسية عميقة وصعبة، لجماعات تدفعها اعتبارات فكرية ومصالح جماعات اجتماعية/اقتصادية متباينة تمثلها، وليست المسألة مسألة رياضية يتوفر حلها عبر وصفة رياضية أو سحرية يقدمها لنا الخبراء خلال جلسات المؤتمر كما يلمح بعض الاقتصاديين الرسميين. كان هذا رأينا ولا يزال. وعندما عرض أمر المؤتمر طرحنا التساؤل حول كيفية حسم الخلافات داخله، ومن المتوقع حدوث الكثير من الخلافات، ولم نجد الإجابة الشافية وكأنما الإجابة سر سيكشف عنه داخل أروقة المؤتمر. ولا زال البعض يراهن على حل المشكلة عبر المؤتمر دون تدبر للإجابة على السؤال المطروح أعلاه. إن تجاربنا القريبة جدا.... وحتى الراهنة المتمثلة في مشاورات ملفات السلام في جوبا تشير الى أنه من الاوفق لنا الدخول في مفاوضات "فورية" ومباشرة بين ممثلي الأطراف السياسية الممثلة في "قحت" وخارجها لحل قضية إجازة موازنة 2020 والسياسات الاقتصادية الكفيلة بتحريك الاقتصاد القومي. وأن يكون الإطار الزمني لهذه المفاوضات أياما وليست أسابيع. ولا مانع، بل ولا بد، من وجود مسهلين ووسطاء محايدين من الحكماء الوطنيين، وهموا كثر، فالقضايا التي نحن بصددها سياسية بامتياز ومعقدة كما هو معلوم، والتمسك اللاعقلاني والمتشدد بالمواقف متوقع مما يجعل لوجود هؤلاء الوسطاء دورا مهما.. ولا بد أن تكون هذه المفاوضات بعيدة عن التغطيات الإعلامية الفورية التي ستعقد الأمور، مع قناعاتنا بالحاجة الى الشفافية. فهناك "مقايضات ذكية" يمكن أن تتم بين حاجة المجتمع ليعرف ما يدور في هذه المفاوضات والحرص على تحقيق الهدف الأسمى وهو الوصول الى التوافق السياسي المرتجى. كما يمكن لمجموعة المفاوضات ان تستمع الى من تشاء من الخبراء حول كل القضايا المطروحة وتستنير بآرائهم سواء كانت من الأوراق التي اعدت لتقدم للمؤتمر ام من غيرها. ومن المفضل أن تشمل المفاوضات السياسات المقررة طيلة الفترة الانتقالية لتشكل موجهات للحكومة حتى تستهدي بها ويتمكن الناس من حسم الخيارات الرئيسية موضع الخلاف (وطيلة الفترة الانتقالية) والتي يتمثل أهمها في دور الدولة ودور الأسواق في الاقتصاد والموقف من برامج الحماية الاجتماعية وحجم وأسلوب ادارتها. ولكن الامر في نهايته أمر سياسة وليس امرا اقتصاديا فنيا يقرر فيه المفاوضون كسياسيون. إن التأخر في التصدي لمعالجة موازنة 2020 والقضايا الاقتصادية العامة المرتبطة بها واجازتها سيعرض الوطن لنكسات كما سيؤدي بالنتيجة، ان لم يكن أدى بالفعل لتدهور، راس المال السياسي للحكومة وللتحالف الداعم لها على حد سواء، ولذلك يجب على الأطراف السياسية المختلفة أن تتحلى بروح التوافق التي يجب أن تسود الفترة الانتقالية. ويجب ان نعلم أنه ليس هناك مجال لاي طرف لفرض رؤاه على الاخرين. فالتسويات السياسية مطلوبة ليست في إطار إجازة الموازنة وسياسات الاقتصاد فحسب ولكن في تناول وحسم كثير من القضايا الشائكة التي سيتم تناولها خلال الفترة الانتقالية حتى لا يتكرر الاختناق الحاصل الآن. وأخشى أن يكون المأزق الأكبر متمثلا في أن الاستقطاب الحاد بين أطراف التحالف السياسي الذي قاد الثورة يواجه، فيما يبدو، تحدي تآكل أرصدة الحكمة اللازمة للقيام بالعمل التوافقي المشترك وما يتطلبه ذلك من ابتعاد عن التراشق الإعلامي غير المنتج والقبول بالمواقف الوسط وعدم التعجل لإحراز انتصارات حزبية ضيقة قد تكون على حساب الوطن نفسه. والسؤال الآن وقد تأجل هذا المؤتمر، والذي نراهن أنه لن يوفر الحل، للمرة الثانية ولأسباب تتعلق بمخاطر جائحة كورونا هو: هل سنتجمد في اماكننا ونظل نتبع سياسة الوضع الراهن في إدارة الاقتصاد انتظارا لهذا المؤتمر، وهو الامر الذي لن يحل مشاكلنا المعقدة أم سنلجأ الى الالية الواقعية للتوصل الى التسوية والترتيبات السياسية بين الأطراف المختلفة كما اقترحنا باعلاه. وفورا.....