والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرات خاطفة في مُقارَبة القرآن الكريم للتاريخ .. بقلم: د. خالد محمد فرح
نشر في سودانيل يوم 08 - 05 - 2020

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لما كان شهر رمضان المعظّم هذا الذي تظلنا أيامه ولياليه المباركات حالياً ، هو شهر القرآن الكريم الذي أُنزل فيه كما قضى بذلك هو نفسه ، فقد عنَّ لكاتب هذه السطور أن يدوِّن هذه الخواطر العجلى في موضوع طالما شغل باله ، وظل موضع تدبُّر وتأمُّل عنده منذ مدة ليست بالقصيرة. وذلك الموضوع هو تعاطي القرآن الكريم مع التاريخ من حيث هو.
وبالطبع فإن هذا الموضوع ، هو موضوع كبير وشائك ومعقَّد للغاية ، ويتطلب بحثه واستقصاؤه على نحوٍ وافٍ أو قريب من ذلك على الأقل ، مجهوداً كبيراً ، واستعداداً وتدريباً بحثياً متخصصاً ، وذخيرة معرفية واسعة ومتنوعة ، ومعارف جمة ، لا ينهض بها إلا الجم الغفير من العلماء المحققين والأثبات في مجالات التفسير والتاريخ والآثار واللغات ، وغيرها من العلوم الإنسانية والطبيعية ذات الصلة ، ناهيك بمجرد هاوٍ شادٍ فقط ، عُدَّته محض بضاعة مزجاة ليس إلاَّ.
وتأسيساً على ذلك ، فإنَّ ما نودُّ الإدلاء به في هذا الباب ، هي مجرد نظرات خاطفة كما أسميناها في مقاربة القرآن الكريم للتاريخ ، أوحى بها تأملنا الذاتي لبعض آي الذكر الحكيم ذات البُعد والنَّفَس التاريخي كما تراءى لنا على نحو سمِّه انطباعياً إن شئت ، وليست دراسة علمية استقصائية بمصادرها ومراجعها وأسانيدها المعرفية المدرجة في ثبت محدد على نحو ما هو معهود في الأوراق العلمية والأطروحات الأكاديمية ، وإن لم تخل عن ذلك بالكلية.
ولعل أول ملاحظة يجدر بنا أن نبدأ بها خواطرنا هذه ، تتعلق بطبيعة النص القرآني كنص مقدس يختلف بصورة جوهرية مطلقة من حيث المصدرية عما سواه من النصوص المقدسة للعقائد الكتابية الأخرى. إذ من الواضح جداً أن القرآن الكريم – على الأقل من حيث الأسلوب – هو كلام مُتنزِّل عن مصدرٍ متعالٍ وعليم ومحيط إحاطة مطلقة ، هو الله سبحانه وتعالى الذي يصف نفسه بأنه خالق كل شئ ومُسيِّر كل شئ بما في ذلك الكون نفسه وتاريخه وتاريخ كل ما فيه من الأشياء والأحياء. وهنالك بالفعل آيات كثيرة تتظاهر على تأكيد هذه المعاني ، فضلاً عن أن المتلقي يحس إحساسا واضحا بأن المتكلم هو مُوحِي النص نفسه وليس أحداً سواه. بينما نجد في المقابل أن لغة وأسلوب كل من التوارة والإنجيل مثلاً بنصوصها الحالية ، تبدو كما لو كانت مجرد تقارير أو رسائل وصفية كُتبت في لحظات معينة من لحظات التاريخ ، لكي تشرح وتوضح فقط ، محتويات البناء العقائدي والأخلاقي والروحي والوعظي والإرشادي والتشريعي لهذين الكتابين المقدسين ، والدينين اللذين يعبران عنهما على التوالي ، وبما يجعل حتى الإله مُوحِي الكتاب المقدس نفسه وهو الله سبحانه وتعالى ، وكلاً من الكليم موسى والمسيح عيسى عليهما السلام ، مجرد شخصيات أخرى لا تتحدث هي بالأصالة عن نفسها مباشرة ، وإنما فقط من خلال ما يرد عنها في تلك التقارير أو الرسائل الوصفية التي تسمى أسفارا. ولنقل بعبارة أخرى إن النصوص الحالية للتوارة والإنجيل ، تشي بالأحرى بتدوين تاريخي استرجاعي لأشياء حدثت في زمان سابق لوقت تدوين تلك النصوص وكتابتها ، بما في ذلك ذكر ما هو منسوب إلى الله الخالق ، وما هو منسوب إلى أنبيائه ، بل بما يتضمن للمفارقة أحياناً ، أحداثاً وقعت بعد وفاة موسى عليه السلام ببضعة قرون ، وأشياء وقعت بعد انتهاء بعثة عيسى عليه السلام بعقود عديدة أيضا.
فمن بين تلك المفارقات العجيبة التي بوسعنا أن نشير إليها في هذا السياق على سبيل المثال ، أن سفر التكوين من الكتاب المقدس ، يذكر في نهايته خبر وفاة موسى نفسه، وتأبينه والثناء عليه، بأنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله الخ ( سفر التثنية 34:10 ) ، وذلك في نص من المفترض أنه مُوحَى إلى موسى عليه السلام ذاته ، مما يدل دلالة واضحة على أن هذه الفقرة – منطقاً وعقلا – لم تُوح إلى موسى ، ولم يكتبها هو بأية حال من الأحوال.
وفي المقابل يتجلَّى الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بصفات القدم الأزلي والوجود المطلق ، والعلم الكامل والإحاطة التامة ، كما يتجلى بصفته المتكلم هو نفسه بالأصالة في آيات كتابه الحكيم ، بما في ذلك آيات عديدة مُشعرة بقوة بهذا البعد التاريخي ، وإحاطته به ، وعلمه بمبدأه ومنتهاه وتفاصيله جميعها ، الذي هو جزء من علمه الأزلي:
" هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم " ( الحديد – 3 )
" أم تقولون إنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ، قل أأنتم أعلمُ أم الله " ( البقرة – 40 )
" ألا يعلمُ من خلق وهو اللطيف الخبير " ( المُلْك – 14 )
" وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منه من قرآنٍ ولا تعملون من عملٍ إلاَّ كُنَّا عليكم شهودا إذ تُفيضون فيه ، وما يَعزُبُ عن ربِّك من مثال ذرَّة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مُبين " ( يونس – 61 )
" وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا لموسى الأمر وما كنتَ من الشاهدين " ( القَصَص – 44 )
" وما كنت ثاوياً في أهل مَدْينَ تتلو عليهم آياتنا ولكنَّا كُنَّا مُرسِلين " ( القَصص – 45 )
" ذلك من أنباء الغيب نُوحِيهِ إليك ، وما كنتَ لديهم إذ يُلقون أقلامَهم أيُّهم يكفُلُ مَريَم ، وما كنتَ لديهم إذ يختصِمُون " ( آل عمران – 44 )
ومع ذلك ، فإن سائر علماء التفسير والدراسات القرآنية ، يذهبون محقين إلى أن القرآن الكريم الذي هو كلام الله ، هو – في المقام الأول - كتاب هداية وإصلاح وإرشاد إلى الطريق القويم ، المفضي إلى رضوان الله وجنته ، ذلك الطريق الذي ارتضاه لخلقه منذ أن فطرهم ، وأنه ليس بكتاب تاريخ أو جغرافيا أو علوم طبيعية او إنسانية في الأساس ، وإن اشتمل على شذرات وإشارات من جميع ذلك ، كلها الحق والقول الفصل الذي لا مراء فيه في أبوابها ، لأنه تنزيل من لدن عليم حكيم ، كما يعتقد المؤمنون الصادقون به وبرسالته من المسلمين بطبيعة الحال.
أما من جهة التناول العلمي والمعرفي لعلاقة القرآن الكريم بسائر المعارف والعلوم الطبيعية والإنسانية بما في ذلك علم التاريخ ، فإن المفسرين الأوائل لم يتنبهوا لمظاهر تلك العلاقة وأبعادها على نحو منهجي مطرد ، ربما لعدم استشعارهم الحاجة إلى ذلك ، نسبة لما قد وقر في أذهانهم وقلوبهم من أن القرآن الكريم هو كتاب هداية وإرشاد وتزكية للنفوس في المقام الأول كما أسلفنا ، أو نظراً لقصور باعهم وقلة محصولهم من العلوم الطبيعية والإنسانية ، بما في ذلك علم التاريخ ، بما يمكنهم من استبصار تلك الأبعاد في بعض آيات الذكر الحكيم ، والنظر إليها بالمقارنة مع حقائق العلوم الطبيعية البحتة ، أو مع وقائع التاريخ الوضعي الذي لم تكن جل مواده وعناصره متوفرة آنئذ ، وتحديداً قبل القرن التاسع عشر الميلادي ، الذي شهد بعض الفتوحات العظيمة حقَّاً في هذا المجال ، والمتمثلة بصفة أخص ، في تمكن العلماء من فك شفرات اللغات القديمة بمصر وبلاد الرافدين وقراءة نقوشها ، مما جعل الاطلاع على تواريخ أقاليمها وشعوبها القديمة متاحاً وميسوراً إلى حدٍّ كبير أيضا.
وسيستمر الحال على ذلك المنوال ، حتى القرن السادس الهجري تقريباً ، عندما ظهر الإمام الفخر الرازي ( ت 606 ه ) ، الذي جسر على الاستئناس بجملة من مقررات العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم المستحدثة ، فأدخلها في تفسيره للقرآن ، ففتح بذلك الباب أمام طائفة غير كبيرة حقاً من العلماء والمفسرين المسلمين الذين حذوا حذوه على استحياء فيما بعد ، نذكر منهم أولاً: أولئك الذين اهتموا ببعض المباحث اللغوية المقارنة مثل الحافظ جلال الدين السيوطي (ت 1505م) في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " ، وشهاب الدين الخفاجي (وُلد 1539م) في كتابه " شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدَّخِيل " ، وخصوصاً بعض المفسرين الذين ظهروا خلال القرنين الأخيرين ، مثل الشيخ محمد عبده في تفسير " المنار " الذي أتمه تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره " التحرير والتنوير ".
ثم طَفِقت طائفةٌ من المُستشرقين أيضاً ، في معرض انشغالهم ، بل حيرتهم أمام الظاهرة القرآنية ، تنظر خصوصاً في القصص القرآني ذي الأبعاد التاريخية، وعلى نحو أخص على خلفية قناعة الكثيرين منهم، أنه مجرد أصداء باهتة، ومحاكاة مشوهة للروايات التوراتية، عن سير من يُعرفون في التاريخ الوطني للعبرانيين بالآباء ، بينما يُعرِّفهم القرآن الكرم بأنهم رسل الله وأنبياؤه ، الذين كان منهم من أرسل إلى بني إسرائيل خاصة ، ومنهم من أرسل إلى غيرهم من الأمم عامة. هذا مع أن المستشرقين يعلمون تمام العلم، كما يعلم كثيرون غيرهم ، أن القرآن نفسه قد قال عن نفسه إنه يصدر عن ذات المشكاة التي صدرت منها الكتب السماوية السابقة ، وأنه إنما جاء متمما لتلك الكتب ، ومهيمناً عليها ، ومُصححاً لما جاء فيها. وبذلك يغدو اتهامهم للقرآن في هذا الجانب ، متهافتاً لا معنى له ، بل من قبيل تحصيل الحاصل. " إنَّ هذا لفي الصُّحُف الأولى ، صُحُفِ إبراهيم وموسى " ( سورة الأعلى – الآيتان 18 و19 )
هذا ، ولا يخلو تناول عامة المستشرقين للقصص القرآني ، سوى نعته بأنه محض تقليد ومحاكاة للروايات التوراتية ، من مطاعن أخرى منها نفي صفة الحقيقة والواقعية أي التاريخانية عنه ، واعتباره مجرد خلق فني كما زعم المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ، قُصد منه - كما قال - الإمتاع والتشويق فحسب ، بغرض تمرير الرسائل الأخلاقية والروحية والإرشادية والتشريعية المبتغاة ، وليس الحقيقة الموضوعية المجردة ، أو تدويناً صادقاً وواقعياً لما حدث في الماضي بتفاصيله الدقيقة بالفعل. وتلك هي لعمري ذات الفرضية التي طورها الدكتور محمد أحمد خلف الله رحمه الله ( 1904 – 1989م ) ، في أطروحته للدكتوراه التي قدمها إلى جامعة القاهرة في عام 1947م تحت عنوان: " الفن القصصي في القرآن الكريم " ، والتي زعم من خلالها أن من كتب القرآن أو قال القرآن – على حد تعبيره – ليس مؤرخاً تهمه وقائعية الأحداث ، بل قاصٌّ بغيته تأثيرها الوجداني على المخاطب لدفعه للاقتناع والتأثُّر بما تبثه من قيم ومبادئ ومُثُل أخلاقية، دون أن يعني ذلك أن تلك القصص التي وردت في القرآن ، تعبر عن وقائع تاريخية حدثت بالفعل ، مما أثار عليه عاصفة عاتية من الانتقادات والاحتجاجات ، شبيهة بتلك التي كانت قد ثارت في وجه الدكتور طه حسين ، عندما أثبت في كتابه " في الشعر الجاهلي " الذي صدر في عام 1926م مقولته: " للتوراة والقرآن أن يحدثانا عن إبراهيم وإسماعيل ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن ، لا يقف دليلاً على وجودهما التاريخي ".
وإلى جانب ذلك ، سعى نفر من المستشرقين إلى اتهام القرآن الكريم بالفعل بالوقوع في أخطاء تاريخية بزعمهم.
وبالمقابل ، شهد القرن العشرون أيضاً ، انبراء طائفة من العلماء والباحثين المسلمين لأخذ زمام المبادرة ، من أجل استجلاء بعض المباحث التاريخية الطابع في القرآن الكريم وفي العقيدة الإسلامية من مناظير علمية وبحثية حديثة ومعاصرة. نذكر منهم على سبيل المثال فقط الكاتب الموسوعي الأستاذ عباس محمود العقاد في مؤلفاته: " الله " ، و " إبراهيم أبو الأنبياء " و " المسيح عيسى بن مريم " وغيرها ، هذا إلى جانب أعمال أخرى في هذا الباب مثل كتاب " قصص الأنبياء " للدكتور محمد حسين هيكل ، وكتاب " قصص الأنبياء " أيضاً للدكتور زغلول النجار ، ثم كتاب " التفسير الإسلامي للتاريخ " للدكتور عماد الدين خليل ، كنموذج لمصنف عمدة في بيان منهجية الإسلام في مقاربة علم التاريخ بصفة عامة ، وأخيراً ، سلسلة كتب " قصص الأنبياء والتاريخ " للاستاذ الدكتور رشدي البدراوي ، بالإضافة إلى كتابيْ الطبيب الفرنسي المسلم الدكتور موريس بوكاي (1920 – 1998م) " التوراة والقرآن والعلم " ، و " موسى وفرعون ".
ولعل مما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق على سبيل المثال ، تلك المناقشة التاريخية والفيلولوجية الضافية والمعجبة التي عمد إليها الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه " إبراهيم أبي الأنبياء " للاسم " آزر " ، وهو اسم والد النبي إبراهيم الخليل عليه السلام كما ورد في القرآن ، وذلك بخلاف كتاب العهد القديم الذي يسميه " تارح ". وقد انتصر العقاد للرواية القرآنية في تلك المناقشة ، عبر مقاربة تاريخية ولغوية مُسدَّدة ، كان من بين أبرز عناصرها ودفوعاتها ، البينة الإثنولوجية الموضوعية القائمة على حقيقة انتشار الاسم العلَم " آزر " وأشباهه نطقاً ومعنى في سائر بلاد الهلال الخصيب التي تشمل الشام وبلاد الرافدين موطن إبراهيم الأصلي ، في العصر الذي يُعتقد على نطاق واسع بين المؤرخين أن الخليل قد عاش فيه فيما بين القرنين العشرين والتاسع عشر قبل الميلاد كما يُقدِّرون. وتلك هي لعمري أسماء مثل: آزر ، وعازر ، وأسر " أسرحدون " ، وكذلك أشر وآشور " آشور بنيبال " وغيرها.
ولئن كان كتاب العهد القديم قد خلا عن ذكر أسماء وسير بعض الشخصيات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم حصراً ، وهي شخصياتٌ يعتبرها المسلمون أنبياء لله بعثهم إلى أقوامهم في الزمان القديم كهود وقومه عاد ، وصالح وقومه ثمود ، وشعيب وقومه مديَن ، حتى ربما عدهم البعض محض أساطير لا وجود تاريخي حقيقي لهم ولشعوبهم ، فلقد جادل الأستاذ العقاد بعلم مكين ، عن تاريخية وجود الأقوام المذكورين من مصادر مستقلة خارج الكتب المقدسة ، مثل النقوش الآشورية وبعض المصادر اليونانية القديمة كجغرافيا بطليموس (ت 150م) التي ورد فيها ذكر " اوديتا " و " ثموديتا " أي عاد وثمود كما قال.
ومهما يكن من أمر ، فإنه لا مقارنة البتة بين ما أنتجه المسلمون من مصنفات تتعلق بالأبعاد والمعارف التاريخية في القرآن الكريم ، وما ظل ينتجه اليهود والمسيحيون حول ذات الأبعاد والمعارف في كتابيهم المقدسيْن على التوالي ، أي العهد القديم والعهد الجديد كماً وكيفا. فلا شك أن الكفة ترجح بما لا تجوز مقارنته لصالح هؤلاء الأخيرين ، الذين أوسعوا نصوصهم المقدسة درساً وتمحيصاً وتقليباً وتحليلا وحتى نقداً ، ومن مناظير علوم كثيرة مستحدثة منها على سبيل المثال فقط: التاريخ ، والفولكلور ، والأساطير ، والآداب المقارنة ، والألسنية ، والأسلوبية ، ونقد النصوص ، إلى جانب علم الآثار الذي كان السعي إلى إثبات صحة الروايات التوراتية المختلفة ، أحد أهم البواعث والعوامل المساعدة على تطويره وتقدمه في الواقع. ولذلك فلا غرو أن كان الكثيرين من رواده المبرزين من العلماء والمنقبين ، هم في الأصل من رجال اللاهوت مثل الأمريكييْن: وليام البرايت 1891 – 1971م ، وتلميذه جورج ايرنست رايت 1909 – 1974م وغيرهما على سبيل المثال.
ذلك ، ومن المفارقات العجيبة ، أن هنالك مقاربة جريئة ولافتة للنظر حقاً ، للربط بين القصص القرآني والمعارف التاريخية والآثارية الحديثة ، قد قام بها باحث مسلم خلال السنوات الأخيرة. والأمر المدهش أن تلك المقاربة لم يضطلع بها عالم متخصص في التفسير وعلوم القرآن ، ولا في التاريخ والآثار ، وإنما طبيب مصري متخصص في علاج أمراض الأنف والأذن والحنجرة ، هو الأستاذ الدكتور رشدي البدراوي رحمه الله ، الذي أصدر سلسلة من الكتب بعنوان: " قصص الأنبياء والتاريخ ". وقد حاول الدكتور البدراوي من خلال تلك السلسة عقد جملة من المقارنات والمقابلات بين النصوص القرآنية ، ومقررات علمي التاريخ والآثار ، وهو جهد عظيم يُحمدُ له بكل تأكيد ، وإن كان الأجدر بعلماء المسلمين في المجالات المذكورة ، أن يولوا اهتماماً أكبر بهذا الأمر ، لأنهم هم الأنسب والأقدر على النهوض بمثل هذا العمل البحثي والمعرفي الضخم ، حتى يخرج بنتائج علمية وموضوعية سديدة ، من شأنها أن تكون أكثر إقناعاً ، وأمضى حجةً ، وأوسع تأثيرا.
والآن بعد هذه الفذلكة المنهجية والإطارية التي ربما نكون قد أطنبنا فيها نوعاً ما ، نظراً لأهميتها في تقديرنا ، ندلف إلى بيان بعض نظراتنا الخاطفة في مقاربة طائفة من آي الذكر الحكيم لموضوع التاريخ ، سواء من حيث المنهج أو من حيث المادة والمحتوى.
أما من حيث المنهج ، فأول من نبدأ به هو أن من الملاحظ بوضوح أن القرآن الكريم يحرص في أسلوبه في المجادلة عموماً ، وبسطه لسائر القضايا بما في ذلك المسائل التاريخية بطبيعة الحال ، على إبراز الدليل والبرهان على طرحه ، وكذلك مطالبة الآخرين بالدليل والبرهان على أطروحاتهم ، وتلك هي من ألزم لوازم البحث العلمي الموضوعي قديماً وحديثا. ومصداق ذلك قوله تعالى على سبيل المثال:
" قُلْ هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " ( البقرة – 111 )
" قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ( آل عمران – 93 )
وثانياً ، فإن القرآن الكريم يُركِّز من حيث المنهج ، على شهادة العيان كمصدر أولي من مصادر المعرفة التاريخية. والمعروف أن شهادة العيان تأتي في المقدمة دائماً في سياق المصادر المعرفية ، فما بالك إذا كان ذلك الشاهد هو الله نفسه خالق كل شئ. قال تعالى:
" وداوود وسليمان إذ يَحكُمان في الحرث إذ نفشتْ فيه غنمُ القومِ وكُنَّا لحُكمِهم شاهدِين " ( الأنبياء – 78 )
ثالثاً: يقدِّم القرآن الكريم لمعاً مضيئة لبعض بديهيات النقد التاريخي الموضوعي المعاصر ، ومن بين ذلك على سبيل المثال ، تبكيته لأهل الكتاب على وقوعهم فيما يسمى بالمفارقة التاريخية أو ما تسمى بال " أناكرونيزم " في اللغات الأوروبية ، وهي إقحام عنصر ما من متعلقات حقبة تاريخية معينة بصورة اعتباطية ، في سياق رواية تُعبِّر عن مقتضيات حقبة تاريخية أخرى تختلف عنها تماما. كأن يزعم زاعم مثلاً أن الخديوي إسماعيل قد أرسل دعواته إلى الضيوف الذين شهدوا حفل افتتاح قناة السويس في عام 1869م عن طريق الفاكس. وذلك ببساطة لأن الفاكس لم يكن قد اخترع حينئذ. ومن ذلك قول الله تعالى:
" يا أهلَ الكتاب لِمَ تُحاجُّونَ في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون " ( آل عمران – 65 ).
رابعاً: الدقة في التعبير عن السياق التاريخي والثقافي بألفاظ تناسب ذلك السياق المعني ، أو بمعنى آخر: استصحاب الجو التاريخي العام الذي وقع فيه الحدث المعين ، وذلك لعمري هو واحد من أهم متعلقات الحس التاريخي الذي يجب توفره لدى المؤرخ ذي المنهجية السديدة.
ومن ذلك على سبيل المثال ، ما لاحظناه من أن الله سبحانه وتعالى عندما أراد التحدث عن أوَّلية البيت الحرام وقدمه ، أشار إلى البلد الذي فيه باسمها القديم " بكة " الذي قيل إن معناه البيت مطلقا في اللغة البابلية ، وهو ذاته الذي يظهر في اسم المدينة الشامية المعروفة " بعلبك " بمعنى بيت المعبود الوثني: بعل ، وعندما أراد الإشارة إليها باسمها الذي اشتهرت به لاحقاً بين الناس ، بما في ذلك منذ عصر النبي الكريم وأصحابه وحتى هذا اليوم ، أشار إليها باسم " مكة ". قال تعالى:
" إنَّ أوَّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ للذي ببكَّةَ مُباركاً وهُدىً للعالمين " ( آل عمران – 96 ) ، ثم قال:
" وهو الذي كَفَّ أيديَهُم عنكُم وأيديكُم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفَرَكُمْ عليهم " ( الفتح – 24 ).
وكذلك ما لاحظه بعض المفسرين ، من أن القرآن الكريم قد أشار إلى لقب حاكم مصر في عهد يوسف عليه السلام ب " الملك " ، بينما أشار إلى لقبه ب " فرعون " في قصة موسى عليه السلام. وقد جادل بعضهم بأن قصة يوسف قد حدثت في عهد الهكسوس وهم عنصر أجنبي طارئ على مصر بين القرنين الثامن عشر والسادس عشر قبل الميلاد ، وما كانوا فراعنة حقيقيين ، بينما كانت بعثة موسى في عهد فراعنة أصليين ، هم فراعنة الأسرة التاسعة عشرة في بحر القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
وخامساً: تدخل في هذا السياق المنهجي الذي عُني به القرآن الكريم أيضاً ، الإشارات ولو من قبيل التلميح، إلى ما يسمى بالأدبيات السابقة في البحث العلمي التاريخي ، وربطها بالممارسات والأفعال المعينة التي يتحدث عنها. فهو مثلاً يشير ضمناً إلى بعض الممارسات والاعتقادات الوثنية القديمة التي تسربت من أزمان غابرة إلى بعض الديانات السماوية ، مثل عقيدة التثليث في المسيحية على سبيل المثال. وهو لا يفصِّل في ذلك ، ولكننا نفهم المقصود من خلال السياق فقط. ومصداق ذلك هو قوله تعالى:
" وقالت اليهودُ عُزيرٌ ابن الله ، وقالت النصارى المسيحُ ابن الله ، ذلك قولُهُمْ بأفواهِهم يُضَاهِئونَ قول الذين كفروا من قبل ، قاتلَهُم الله أنَّى يُؤفَكون " ( التوبة – 30 ).
وأما من حيث المادة التاريخية ، فتبقى هنالك ملاحظ أساسية عامة ، هي أن القرآن الكريم ، بالمقارنة مع كتابي العهد القديم والعهد الجديد مثلاً ، لا يهتم كثيراً بإيراد تفاصيل التواريخ والأرقام وأسماء الأعلام من غير بعض الرسل والأنبياء ، إلى جانب إشارات نادرة إلى بعض الملوك بألقابهم فقط دون أسمائهم الشخصية. وليس أدل على ذلك من أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم المعني بالرسالة نفسه ، لم يُذكر في القرآن الكريم باسمه المجرد إلا أربع مرات فقط. أما أصحابه ، فلم يُذكر أي واحد منهم قط باسمه ، إلا زيد بن حارثة الذي ذكر باسمه مرة واحدة فقط. كما لم يرد ذكر أية امرأة في القرآن الكريم باسمها المجرد ، بمن في ذلك حواء أم البشر نفسها ، وإنما خص مريم ابنة عمران أم المسيح عليه السلام فقط بذكرها بالاسم.
وثمة ملاحظة أخرى فيما يتعلق بالمادة والمحتوى ، هي اشتمال القرآن الكريم على التحقيب والتسلسل السليم والدقيق للأحداث والوقائع ، ذلك التحقيب المستند إلى معرفة دقيقة ، وإدراك تام لتأريخ الأحداث وإبان وقوعها ، يشتف ذلك من استخدام عبارتي " من قبل " و " من بعد " في العديد من الآيات والقصص تاريخية الطابع.
انظر إن شئت إلى قوله تعالى في سورة هود مثلا في معرض مخاطبته لبني إسرائيل وتذكيره إياهم بمن سبقهم من الأمم والأنبياء الذين أرسلهم إليهم ، وما حاق بتلك الأمم من العذاب بسبب إعراضهم عن منهج الله ، و تكذيبهم لأنبيائهم:
" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100
فإننا نستطيع أن نستخلص بوضوح من خلال هذه الآيات أنَّ التحقيب التاريخي المتسلسل لتلك الأمم المذكورة مع الرسل المبعوثين إليهم على التوالي ، يدل على أن هنالك أولاً أمة نوح ، تلتها أمة عاد ونبيها هود ، فأمة ثمود ونبيها صالح ، فإبراهيم ولوط المتعاصريْن ، ثم قوم مديَن ونبيهم شُعيب بعدهم بمدة يسيرة ، بدليل أن شُعيباً قال لقومه: " وما قوم لوط منكم ببعيد " ، والراجح أنه قصد البعد الزماني وليس الجغرافي أو المكاني ، والله تعالى أعلم. ثم جاءت أقوام أخرى لم يفصلها القرآن الكريم في هذا السياق بالذات لحكمة يعلمها الحق عز وجل ، ثم بعد ذلك أرسل موسى نبيا إلى بني إسرائيل. هذا مع العلم بأنَّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر في سياق آخر في سورة غافر مثلاً ، أنه قد أرسل يوسف نبيا على أهل مصر قبل موسى تاريخياً ، مما يشي بتواصل التراث التوحيدي السماوي بين بعثتي يوسف وموسى واستمرارها قائمة في ذاكرة أهلها لبضعة قرون ، وهو قول مؤمن آل فرعون في عهد موسى عليه السلام:
" ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " ( غافر – 34 )
كذلك بوسعنا أن نستدل من خلال الآيات القرآنية ، أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الجن قبل الإنس ، وبالتالي فإن ظهور الجن على ظهر البسيطة أو غيرها ، سابق تاريخياً لظهور البشر. ومصداق ذلك هو قوله تعالى:
" والجَانَّ خلقناهُ من قبلُ من نارِ السَّمُوم " ( الحِجْر – 27 )
ونودُّ أن نختمَ هذه السياحة الخاطفة فيما يلي جانب المعلومات التاريخية الطابع في القرآن الكريم ، بمبحث ظل مثار جدل ونقاش منذ زمان بعيد ، ومثار شبهة من قبل أهل الكتاب خاصة ، وحتى بعض من تأثر بهم من المسلمين. ونعني بذلك وصف القرآن الكريم للسيدة مريم أم المسيح بأنها " أخت هارون " ، وذلك إذ يقول: " يا أخت هارون ما كان أبوك امرءَ سوءٍ وما كانت أُمُّكِ بَغِيَّا " ( مريم – 28 ). وموضع الشبهة والتلبيس والرمي الجزافي بالخطأ التاريخي ، هو أنَّ مريم أخت هارون هي شقيقة موسى وهارون ، وقد عاشت قبل زمن مريم العذراء أم المسيح بنحو من ثلاثة عشر قرناً ، فكيف جاز وصف مريم العذراء التي عاشت في القرن الأول الميلادي ، بأنها أخت هارون. فكأنَّ أولئك الشانئين والمُخطِّأين الجُزافيين ، قد فهموا أن القرآن قد خلط بين المريمين ، وهذا وهم منهم ليس إلا. فقد جاء في بعض التفاسير وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، أنَّ يا أخت هارون في هذا السياق ، معناه: يا هارونية ، أي يا أيتها الفتاة المنتمية إلى أرومة صالحة هي بيت النبي هارون عليه السلام ، كما كانت العرب تقول للقرشي يا أخا قريش ، وللهذلي يا أخا هُذيل وهكذا. أما وصفه لها بأنها أخت هارون بمعنى أنها هارونية الأصل ، أي من سبط لاوي بن يعقوب ، فإنه يقطع الشك تماما من ناحية أخرى، بأن المسيح لم يكن ينتمي من جهة أمه إلى بيت داؤود الذي ينتمي إلى سبط يهوذا بن يعقوب ، كما يريد له العهد الجديد أن يكون. فهو إذن غير المسيح الذي كان اليهود وما يزالون ينتظرون قيامه في بيت داؤود. وأما كون أن مريم ابنة عمران هارونية ، فهذا هو ما يمكن استنتاجه بسهولة أيضاً ، من نص العهد الجديد ذاته الذي وصف اليصابات زوج زكريا عليه السلام ووالدة ابنه يحي بأنها من بيت هارون ، كما وصف مريم بأنها نسيبتها أي قريبتها ، بمعنى أنها هارونية مثلها ، بينما كان زكريا النبي من كهنة الهيكل ، وهؤلاء قد كانوا بإجماع المؤرخين ورجال اللاهوت من بيت هارون من سبط لاوي.
هذا ، والتعبير " مريم أخت هارون " هو نفسه تعبير توراتي ورد بحذافيره في سفر الخروج ، في معرض ذكر فرحة العبرانيين بخروجهم من مصر ونجاتهم من اضطهاد فرعون وجنوده لهم ، حيث أخذت مريم أخت هارون دُفَّاً وغنَّت مع النسوة أغاني البهجة والسرور وتمجيد الرب على ذلك ( سفر الخروج 15:11). فكأنَّ استخدام القرآن لذات التعبير، هو أيضا من قبل الاسترجاع المعرفي والثقافي الذي يمتاح من ذات المعين ، والتأكيد على الذاكرة التاريخية المتواصلة ، والأصل الواحد لذلك البت الكريم من بيوت النُبوَّة ، باعتبار أنها كلها ذرية بعضها من بعض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.