تنازل الدكتور عبد الله حمدوك عن وظيفته الدولارية المرموقة، وقَبِلَ بعد إلحاح بتولي رئاسة حكومة الثورة، وغادر أديس أبابا الجميلة المعتدلة الهواء، إلى خرطوم الغبار والكتاحة والسيول والفيضانات، وأزمات الخبز والوقود، وانهيار الاقتصاد والعملة المحلية. خرطوم المظاهرات والاعتصامات والشوارع المغلقة، وعشرات الأحزاب والقوى السياسية المتنازعة والمتنافسة، التي تشكل في مجملها سند حكومته وقاعدتها، أو هكذا كان يظن. وحمدوك، حسب رواية الذين يعرفونه عن قرب ولأزمان طويلة، هو رجلٌ وفاقيٌ معتدل المزاج، لا يميل للنزاع والصراع، ولم يعرف عنه اهتمامٌ كبيرٌ بالسياسة الحزبية ولا التعصب لأي تيارٍ سياسي، فلم يشتهر بالكتابات النضالية، ولا بمواجهة السلطة ودخول معتقلاتها، ذلك أنه تفرغ لعمله المهني، وترقى فيه حتى بلغ قمته، وفي خطاب اعتذاره عن تولي وزارة المالية، أعرب عن استعداده لخدمة بلاده من أي موقع، ووضع خبراته تحت أمرها. ولذا فإن حمدوك جاء للحكومة وفي باله وخياله أن يجد في انتظاره تكتلاً من عشرات القوى والأحزاب، تسند ظهره بالدعم السياسي، وتسند مهمته التاريخية بالعقول والخطط والبحوث، وتسند حكومته بالخبرات والكفاءات، وتستند مساره بالاستقرار ونشر روح الثورة، التي هي روح البناء والتجديد والإصلاح والوفاق المجتمعي، وحشد الجماهير في صفٍ واحدٍ متوافق خلف الحكومة وسياساتها. جاء حمدوك بطبعه الهادئ وشخصيته الوفاقية المرحة، وهو يمنّي النفسَ بتحويل كل قيادات المرحلة، لتصبح مثله، أداءً احترافياً ومهنياً، ووفاقاً على الأسس التي قامت عليها الثورة، الحرية والعدالة والسلام، وعودة القانون والنظام والمساواة، ونشر الأمن والاستقرار، وبسط الطمأنينة التي تسمح للناس بالعودة إلى الحياة الطبيعية، بعد عامين من الغليان والثورة والاضطراب، وتسمح لعجلة الإنتاج أن تدور، وللاقتصاد أن ينشط وينهض من وهدته. ولكن حمدوك فوجئ مفاجاةً محبطة، بل مفاجآتٍ عديدة. فوجئ بأن الجماعة التي اختارته ودعته ليقود حكومة الثورة، أي قوى الحرية والتغيير، لا تملك خطةً لإدارة الفترة الانتقالية، ولا فكرةً عن الأولويات وكيفية تحقيقها، وفوجئ بالصراعات العميقة التي بينها، حتى وصلت مرحلة الملاسنات والخلافات العلنية ثم الانسحاب من التجمع كلياً. وفوجئ، وهو المهني غير السياسي، بأن القوم ليس فيهم لا مهني ولا سياسي. واختاروا له وزراء بناء على معايير شللية، عبر المحاصصة الحزبية، والمساومات السوقية، والقرابات، والمصالح الذاتية المتبادلة. وفوجئ بأن القوم يريدون الاستمرار في المعارضة التي أدمنوها واستمرأوها لسهولتها، فهي لا تحتاج سوى الانتقاد والشتائم وطق الحنك، ويريدون الاستمرار حتى في المظاهرات والاعتصامات وإغلاق الطرق وحرق اللساتك، باعتبارها الممارسة السياسية الوحيدة التي يعرفونها. وفوجئ بأنه يغرد وحده بحثاً عن مخرج للسودان من أزماته المتكررة. أراد أولاً إعادة السودان إلى المجتمع الدولي عبر رفع اسمه من قائمة الإرهاب الأمريكية، لتكون الخطوة فاتحةً للبحث عن المال، وإعفاء الديون، وجذب الاستثمار، وتحريك جمود الاقتصاد، فلم يجد من القاعدة التي كان يتوقع دعمها، إلا المعارضة والسخرية ودس المحافير وتشتيت الجهود. وأراد إصلاح الاقتصاد عبر حزمة من السياسات والإجراءات، فوقفت قاعدته السياسية المزعومة، ضد كل خطوةٍ خطاها، و جعلت تنتقده وتنتقد سياساته وكأنها أشد الأحزاب معارضةً لحكومته، تبرئةً لنفسها مما يجري، وهروباً من المساءلة الجماهيرية القادمة في الانتخابات، واختياراً للعبة السهلة التي يتقنونها: المعارضة والانتقاد والشتم. حمدوك: نحن شعب السودان نعرف ما قدمته من تضحيات، وما بذلته من جهود، ونعرف نواياك الطيبة، ورؤيتك الصائبة، الواسعة والانسانية. ونعرف الذين عطلوا عملك ومنعوك من الإنجاز، لم يدعموك كما ينبغي لقاعدة سياسية أن تدعم حكومتها، ولم يساعدوك حتى بالصمت، أو الشرح، أو حشد الناس حولك. حرضوا جماعاتهم لتتظاهر ضدك، وضد كل خطوة تخطوها، وفرضوا عليك أناس لا يعرفون من عمل الحكومة حتى كيفية كتابة خطاب، ولم يجربوا العمل في الخدمة المدنية ولو ليومٍ واحد، فتخبّطوا، ودمّروا وفشلوا في كل خطوة، وكأنهم ذلك الثور في مستودع الخزف. ونعرف أنك برئٌ من دم الثورة المهدر، وأن الذئاب التي أكلت ابن يعقوب حقاً، سوف ينالون حسابهم معنا في الصندوق، وربما قبله.