قد تدفع أمريكا مليارات الدولارات للسودان مقابل تطبيع علاقاته مع إسرائيل! معظم السودانيين متدينون. ومع أن تطبيع العلاقات بين أمم الأرض أمر محمود، طالما سعى له الطرفان، فإني لم أسمع أي سوداني يتساءل إنْ كان المال المستلم نظير التطبيع حلالا أم لا. وسمعت نائب رئيس المجلس السيادي يقول إن رجال الدين في البلد لا يعترضون على التطبيع. كل من يتحدث عن التطبيع في السودان اليوم يقصد، لا محالة، استلام المال مقابل التطبيع. حتى الحجارة الصماء تعرف أنّ الهدف من السعي إلى التطبيع ليس تحقيق السلام ولا رد الحقوق. بل الهدف الأول والأخير هو الحصول على مليارات الدولارات. إذن فسوف يتوجه المفاوضون السودانيون إلى مائدة التطبيع، وعندما يعودون لن تراهم يحملون سلاماً منشوداً أو حقوقاً مستردة، بل سوف تراهم يحملون دولارات أمريكا. في الإسلام، الحلال بيّن والحرام بين. ومن مبادئ الإسلام التي لا يختلف عليها اثنان "مبدأ من أين لك هذا". التطبيع ليس حراماً، كما قلنا، لكن من أين لكم هذا المال الذي جئتم به محملّين بعد التطبيع، أيها السودانيون؟ من أين لكم هذا؟ وكيف لكم هذا؟ في الإسلام لا يمكن أن تكسب المال اعتباطاً. يعلم السودانيون جميعاً، علم يقين، أن أمريكا لا تهب لهم ذلك المال بدون تطبيع. إذن فالمال المدفوع ليس صدقة. وهذا المال ليس جزية أيضاً، فأمريكا لا تدفعه صاغرة. بل السودان هو الذي يستلم ذلك المال ليكون صاغرا. وهكذا فإن الحقيقة الجليّة هي أنّ أمريكا وإسرائيل تشتريان بهذه المليارات سلعة خفية من ضمير السودانيين، ومن دم مروءتهم، ومن نخوتهم، ومن أخلاقهم، ومن إيمانهم. نعم، نعلم أن هذه جميعها أشياء يمكن أن تُشترى، في هذا الزمان المخادع، لكن ينبغي ألا تُباع. إنْ وُجِد الشارِون، فكان الأجدر ألا يجدوا بائعين. هذا المال، إذن، الذي سوف يستلمه السودانيون بلا مقابلٍ من عملٍ أو سلعة، إنما هو، في حقيقة أمره، سُحْت، مثله مثل مال اليتامى، والربا، وأجر البغي....الخ. ومن أنكر أنه سحت فليبين لنا مصدره الحلال ومبرراته النزيهة وهدفه النبيل؟ قد تجد من يقول إننا مضطرون. وهذا كذب. لا أحد يموت الآن في السودان جوعاً. وهذه حقيقة يجب أن نصرخ بها في آذان بعضنا بعضاً. الحقيقة المؤسفة هي ليس أننا لا نجد طعاما بسيطاً يسد رمقنا، بل نريد أطعمة بعينها، وبلا تعب وبلا نصب. يا ترى ما الذي يجعل السودانيون يرضوَن أن يأكلوا سحتاً وهم غير مضطرين؟ وكيف يضطر من أرضه هي الأوسع، والأخصب، والأمطر، والأثمر؟ كيف يضطر من ماؤه هو الأكثر والأقرب والأعذب؟ كيف يضطر من شعبه شبابٌ بنين وبنات بعشرات الملايين؟ كيف يضطر القائمون الراكعون الساجدون لله أن يخنعوا لغير الله؟ هل سألوا الله ولم يعطهم، فاضطروا للتسول عند مَنْ هم دونه؟ علينا أن نعلم أننا إنْ أكلنا هذا السحت فسوف يدخل الوهن في عظامنا وعظام أبنائنا وأجيالنا. الخزي ليس في التطبيع في حد ذاته، ولكن الخزي في استلام مال نعلم جميعاً أنه لا أمريكا ولا إسرائيل تريد به وجه الله أو تريد به مصلحتنا. إنهم يعلمون أنّهم يدفعون لنا ذلك المال لإذلالنا ثم إذلال أبنائنا والأجيال التي تأتي من بعدنا. أما نحن فلربما نفرح قليلاً بامتلاء بطوننا التي تتخير أنواع الأكل، لكننا حتما سوف ننتبه قريباً لخواء ضمائرنا. ضمائرنا التي بعناها بثمن بخس. تريد أمريكا وإسرائيل أنْ نذهب إلى مفاوضات التطبيع وهمنا كله "كم ستدفعوا لنا"؟ لن يكون محور المحادثات وجوهرها شروط السلام، وحفظ حقوق جميع البلدان المعنية وعلى رأسها فلسطين. فمحور المحادثات بات معروفاً والهدف معروفاً. أمريكا وإسرائيل أكبر جبابرة الأرض، وتريدان إسكات ضمائرنا بالدولار لحل ضائقة هما صانعتاها، نعم صنعتاها بالحصار المتطاول وبوضعنا في القوائم السوداء. لقد تعمدوا تجويعنا سنين طويلة ثم جاءونا بطعام السحت ليكسروا به عزتنا إلى الأبد. علينا أن نأنف ذلك الطعام فإنه سم. سم قد يسمن الأجسام، لكنه يقضي على الضمائر. وقريباً، حيت تنتهي السكرة، وتظهر العبرة، سوف تسألنا ضمائرنا: ماذا دفعتم حين قبضتم أيها السودانيون؟ هل دفعتم كرامتكم ثمناً لامتلاء بطونكم، ولوقود سياراتكم، ولتكييف بيوتكم؟ هل تريدون أن يصبح الشعب المعلّم، أستاذ الشعوب، معلماً لأبنائه وأجياله، الحاضرة والمقبلة، ولشعوب العالم المضطهدة، أنّ الخير والسعادة هما في الخنوع لجبابرة الأرض، وليس في الوفاء لضمائرنا وعزتنا وكرامتنا، وليس في الخضوع لجبار السماوات؟ أيها السودانيون، استغنوا عن مليارات أمريكا وإسرائيل، فإن الله ربكم قد حباكم الترليونات في باطن أرضكم وظاهرها، فشمروا لها السواعد، سالموا من سالمكم، وطبّعوا بكرامة؛ لا تطبّعوا من أجل المليارات؛ ولكم أسوة في عبارة مشهورة لأحد أبائكم فاستعيدوها وقولوا: "أرضاً مليارات". وعودوا بكرامة إلى أرضكم، لتحققوا المليارات والترليونات بكرامة. إنّ هذه الأرض، وهذه الأنهار والسهول والوديان، وهؤلاء الشباب من البنين والبنات، آياتٌ من آيات الله، فلا تنسلخوا من هذه الآيات! هيا إلى الترليونات التي على ظهر أرضكم وباطنها، فقط دعوا الكسلّ! ودعوا التكبر! ولا تستنكفوا عن فلاحة أرضكم ففي فلاحة أرضكم فلاحُكم، وصون كرامتكم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.