سرح عبد السلام بخياله بعيداً وهو يحضر الإجتماع الأول ل (لجنة إنعاش الاقتصاد). فقد دُعي لعضوية اللجنة من الخارج بوصفه استاذاً لهذا العلم وحائزاً فيه على أكثر من جائزة تقديرية. قَلّب ناظريه في الحضور حيث كان من بينهم وزير الإقتصاد ورئيس البنك المركزي، وعمداء كليات الإقتصاد في أكثر من جامعة. تداعت إلي مخيلته تلك الدروس الأولية في علم الاقتصاد التي يلقيها على تلاميذه والتي عادة ما يستهلها بقوله :( إذا أردنا أن نضع سياسات اقتصادية هادية والتنبؤ بالمتحصلات الاقتصادية، يكون لزاماً فهم طبيعة نوع الاقتصاد أهو مخطط أم ذو طبيعة حرة؟). ترددت في أسماعه مقولات رئيس اللجنة التي لم يسمع بها في أي من مدارس الاقتصاد التي خبرها كأستاذ مرموق في المجال. طافت بذهنه اسئلة تبسم على إثرها وهو يسمع خطرفات رئيس اللجنة الذي أخذ يخلط السياسات المالية بالإجراءات الجزائية مع التدخلات الأمنية، كأن المعضلة التي أمام اللجنة يمكن أن تحل بفرد العضلات وشن الغارات على أوكار الجريمة، وحشد السجون بالمخالفين لسياسات الدولة المالية والتعامل بالنقد الأجنبي. لم يجد عبد السلام ما يعينه على فهم رئيس اللجنة، أدرك انه وكل ما درسه أمام معضلة تغول على علم غصت رفوف المكتبات الجامعية بالآلاف من الكتب والمراجع التي تشرح نظرياته واختصرها رئيس اللجنة في ترهات لا تمت للاقتصاد بصِلة. بينما كان رئيس اللجنة يسهب في شرح خطته بمداهمة المتاجرين بالعملة ووضع حد للفوضى لوقف تدهور العملة المحلية، أدرك عبد السلام أن الفوضى ليست في بضع عملاء يتاجرون في العملات، وإنما في منهج المعالجة التي أخذ يتحدث عنها رئيس اللجنة. فكر في كيفية وضع حد لحالة الهزيان التي كان يفرضها رئيس اللجنة على مجريات الإجتماع. رفع يده بإصرار لأخذ فرصة للحديث. قبل أن يفرغ رئيس اللجنة من شرح "خططه"، استغرب الرئيس وبدت عليه ملامح الاستنكار، توقف قليلا عن الحديث، ثم وجه سؤالاً مباشراً لعبد السلام. هل لديك شيئا تضيفه؟؟ أطبق عبد السلام على كلتا شفتيه، نظر لأعلى السقف ثم قال نعم. أريد أن أعرف كيف يمكن أن تُحل عقد اقتصاد مشوه بوسائل أمنية؟ انبعثت من الحضور همهمات هازلة، ثم اطبق صمت شامل على المكان. تيقن عبد السلام أنه قد دخل طريقاً لابد من المضي فيه حتى وإن كانت عاقبته فض الإجتماع، أو حل اللجنة من أساسه. ثم قال :( سيدي الرئيس لقد تعلمنا في مبادئ علم الإقتصاد أن من يشتغل بهذا العلم لابد وأن يعرف شيئين مهمين هما كيف يحل ما تعقد، وفي نفس الوقت كيف يمكن أن يُعقّد وضعاً عادياً) وجم جميع أعضاء اللجنة وأدركوا أن الأمر كله مقبل على نهاية قد لا تبدو سارة. وقف عبد السلام وشق طريقه إلي حيث يجلس رئيس اللجنة. نظر إليه ملياً وعيناه تحملان سيماء استحقار ما. حل ربطة عنقه، وضعها على المنضدة أمام رئيس اللجنة. وقال متحدياً :(إن استطعت أن تعيد عقد ربطة العنق هذه بأكثر من طريقة عندها يمكننا الاعتماد عليك في حل الأزمات الإقتصادية). ثم أخذ طريقه إلي مقعده دون أن يدير ظهره لرئيس اللجنة.