لمنع انهيار الدولة.. فصائل سودانية: تركنا الحياد واصطففنا مع الجيش    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    نائب وزير الخارجية الروسي من بورتسودان: مجلس السيادة يمثل الشعب السوداني وجمهورية السودان    صحة الخرطوم توفر أجهزة جديدة للمستشفيات والمراكز الصحية واحتياجات القومسيون الطبي    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو ميلادٍ ثانٍ لرؤية السودان الجديد .. قضايا التحرر الوطني في عالم اليوم (الجزء الثاني والأخير)
نشر في حريات يوم 29 - 10 - 2017


حق تقرير المصير ورؤية السودان الجديد
للاطلاع على الجزء الأول من موضوع نحو ميلادٍ ثانٍ لرؤية السودان الجديد قضايا التحرر الوطنى فى عالم اليوم فضلاً اضغط هنا
إرتبط حق تقرير المصير بالنضال ضد الإستعمار بكافة أشكاله. ولحق تقرير المصير أشكال ومضامين متعددة بما فى ذلك الحكم الذاتي كأحد أشكال حق أشكال حق تقرير المصير الداخلي. تكمن قيمة الحركة الحقيقية فى أنها لم تمض فى طريق حركة الأنانيا الأولي (1955 -1972) فى جنوب السودان التى كانت أول من رفع شعار حق تقرير المصير فى الستينات من القرن الماضى.
منذ بدايتها إتخذت الحركة الشعبية مساراً مغايراً غير مطروق وأعلنت عن عزمها لتوحيد السودان على أسس جديدة مما جعل طرحها متميزاً وجاذباً. لم تتوقف عند مظالم الماضي بل طرحت أجندة مشتركة لمستقبل المضطهدين فى كل السودان، ومن كافة القوميات، وهذا هو ما أعطاها مكانتها المتفردة. اتسق ذلك مع طبيعة الحركة كحركة تقف مع وحدة إفريقيا التى قسمها الإستعمار. ولكن مفارقات التاريخ والجغرافيا والسياسة ومركز السلطة فى الخرطوم تعارضا مع هذه الأجندة الجديدة؛ وترافق ذلك لاحقاً مع المتغيرات الإقليمية والدولية فى تسعينات القرن الماضى. كل ذلك ، مع اسباب أخرى جعل "مجموعة الناصر" بقيادة الدكتور "رياك مشار" ترفع شعار حق تقرير المصير لجنوب السودان فى أغسطس 1991 منهيةً تسع سنوات من العمل المثابر للحركة فى الدعوة لوحدة السودان دون خلطها مع هدف آخر مثل حق تقرير المصير.
اثبتت التجربة إن شوفينيّ المركز وقوميّى الهامش رغم تقاطع اجندتهم ظاهرياً -سرعان ما يلتقون؛ وبالفعل توصل نظام الخرطوم لإتفاق، وللمفارقة ليس مع دعاة وحدة السودان بل مثل مفارقات سياسية كثيرة فى تاريخ السودان وأنظمة حكمه مع مجموعة الناصر التى تطالب بالإنفصال ولكنها لا تحارب من أجله. فالذى جمع "مجموعة الناصر" والخرطوم هو العداء لفكرة السودان الجديد الموحد الديمقراطي العلمانى.
إحتل القوميون الجنوبيون دائما مكانة بارزة فى صفوف الحركة الشعبية ولذا فإن طرح مجموعة الناصر يدغدغ أحلامهم واشواقهم الدفينة فهم لم يقتنعوا فى يوم من الايام بجدوى النضال من أجل وحدة السودان حتى وإن كانت على أسس جديدة. هنا أصبح قرنق فى مفترق الطرق بين رؤيته وحلمه بالسودان الجديد الموحد وبين الضرورة العملية التى تقتضى الحفاظ على القوميين الجنوبيين الذين يشكلون عظم الظهر بالنسبة للحركة ، لاسيما إن الشمال لم يتجاوب مع رؤيته فى الزمان والمكان المناسبين. ولمعالجة ذلك التناقض إستخدم قرنق مقدراته وسحره وذكائه المعهود وحاول المستحيل للجمع بين رؤية السودان الجديد والحفاظ على القوميين الجنوبيين بتضمين حق تقرير المصير والمصالحة بين جوهر رؤيته القائمة على الوحدة وبين حق تقرير المصير حتى لا تهتز الارض تحت أقدامه فى أى من الإتجاهات. لقد كانت تلك مهمة صعبة ومرهقة. أيضاً كان قرنق يأمل فى التحاق قوى إجتماعية جديدة من الشمال بالحركة لترجيح كفته، وقد كاد أن يصل الى ذلك بعد عدوان النظام على دارفور وإنطلاق الكفاح المسلح فيها ووصول جيشه وحلفائه الى شواطى البحر الأحمر فى شرق السودان، ورسوخ أقدامه فى جبال النوبة والنيل الأزرق. وحينما حط برحاله فى الساحة الخضراء تأكد له أنه كان يرى بعيني زرقاء اليمامة، ولكن بعض الأشراركانوا له بالمرصاد.
حاول قرنق أن يمنع إنضمام القوميين الجنوبيين لمجموعة الناصر، و أن يوظف حق تقرير المصير لدعم رؤيته، ودارت فى تلك الفترة مناقشات ثرّة وطويلة كان من حسن حظى المشاركة فيها.
وبينما كان الكثير من القوى الداخلية والخارجية يسبح فى الإتجاه المعاكس لوحدة السودان عمل قرنق على الدفع بأجندة جديدة على الرغم من التعقيدات واستطاع المصالحة بين المتناقضات دون أن يفقد وجهته الرئيسية صوب السودان الجديد. و كان يدرك إن دعوته لوحدة السودان تمثل أهم مساهماته سودانياً وافريقياً، وأن تحقيق الوحدة فى التنوع هى أصعب المعضلات التى تواجه السودان وإفريقيا، وبإمتلاكه للإجابة على سؤال الوحدة فى التنوع برز كواحد من أهم المفكرين والمثقفين الأفارقة.
عاشت الحركة بعد أحداث اغسطس 1991 إزدواجية الشعار والأهداف. فقضية الوحدة أمر جوهرى فى فكر السودان الجديد والسعى لفصل جنوب السودان يهدم الرؤية نفسها، مع العلم أن حكومة الخرطوم كانت تغذى وتدفع تجاه الإنفصال للحفاظ على السلطة فى المركز و تدعم كل ما من شأنه أن يعزز رغبة القوميين الجنوبيين فى ترك رؤية السودان الجديد والتركيز على فصل الجنوب. إن الإلتفاف على رؤية السودان الجديد يمثل أكبر نجاح حققه نظام الخرطوم منذ الإستقلال، وهو درس لحركات الهامش حول المهارات الانتهازية للمركز وتشبثه بمصالحه، وقد حرم السودانيين من الحفاظ على وحدة بلادهم على أسس جديدة. لكن المعركة لم تنته بعد وإنتصار المركز قصير الأجل.
بعد إغتيال قرنق عمل نظام الخرطوم فى إتجاهين، اولهما تمزيق الحركة الشعبية إن أمكن، وثانيهما القبول بفصل الجنوب حفاظاً على سلطته. وبعد أن فشل فى تمزيق الحركة دفع فى إتجاه فصل الجنوب. واليوم، فإن الحركة فى السودان مع الفارق التأريخى والعملى بين الجنوب والمنطقتين وإختلاف المناخ الإقليمي والعالمي تواجه معضلة كيفية التعامل مع القوميين فى المنطقتين.
فالسؤال الذى تواجهه الحركة الآن هو هل تتمسك برؤية السودان الجديد، أم تطالب بحق تقرير المصير لإرضاء القوميين فى المنطقتين؟ ومن اللافت للنظر تجربة الأب فيلب عباس غبوش الجريئة فى المنافسة و الفوز بدائرة إنتخابية فى قلب الخرطوم، وتجربة الحركة الكبيرة بعده فلماذا التراجع الآن، مع علمنا أن التكوين الإثنى والجغرافي والتأريخى للمنطقتين وإمتداد سكانهما الى المناطق الأخرى لاسيما الوجود الواسع للنوبة فى كافة أنحاء السودان فالنوبة مثل الآيرلنديين، الذين يتواجدوا خارج ايرلندا أكثر من الذين يعيشون داخل أراضيها، فامتداد النوبة عميق فى أنحاء السودان، وقد شاركوا تأريخياً فى الدفاع عن وحدة السودان ضد الغزاة والمستعمرين. كما أن سكان النيل الأزرق كانوا مركزا هاماً من مراكز السلطة فى السودان وحكموا لأكثر من ثلاثة قرون (1505-1821). فسكان المنطقتين ساهموا بفاعلية فى تشكيل الكثير من الحقب التأريخية و وجودهم قديم قدم النيل العظيم نفسه.
يضاف الى ذلك عدم وجود حدود جغرافية مشتركة بين المنطقتين كما إن السكان الأصليين فى النيل الأزرق ما عادوا يشكلون أغلبية فى اى إستفتاء من أجل حق تقرير المصير. كذلك إن أى إستفتاء على حق تقرير المصير يؤدى الى إستقطاب إثنى غير مسبوق بين مكونات المنطقتين بشكل لم يكن موجوداً فى جنوب السودان، فهنالك قبائل عربية فى المنطقتين خلافاً لحالة الجنوب . ولكل هذه الأسباب فإن المطالبة بحق تقرير المصير تضر بسكان المنطقتين فى المقام الأول. نقطة أخرى هامة يجب الإشارة لها وهى إن تكوين الحركة الحالى وعضويتها لا تنحصر فى المنطقتين.
إن المطالبة بحق تقرير المصير للمنطقتين يغير طبيعة الحرب، مع العلم أن اهم قضايا الحرب الأستراتيجية هى تحديد الهدف منها بأقصى درجات الوضوح وأن يكون ممكن التحقيق مع التمسك به على نحو إستراتيجى. لذلك فعدم التحديد للأهداف بواقعية سيؤدى الى إطالة أمد الحرب وإرهاق سكان المنطقتين، ومع مناخ إقليمى ودولى غير موات سيؤدى الى إنسداد أفق الحرب وصعوبة الوصول الى حلول مناسبة فى وقت مناسب ويقود فى خاتمة المطاف الى تقسيم المحاربين أنفسهم فى وجه نظام فاشى مثل نظام الخرطوم. كل ذلك يعزل قضيتهم من المحيط السياسي الوطني والإقليمي ويؤدى لإنفراد النظام بهم كقوة مناطقية إثنية معزولة من السند الوطني.
إن طرح قضية تقرير المصير وهى قضية إستراتيجية بعد ست سنوات من الحرب أربك الخط السياسي الإستراتيجي للحركة وأدخل من طرحوه فى مازق تفاوضي، ولأننا نعلم بخطورة مثل هذه القضية فقد أقترحنا مرات عديدة جمع القيادة السياسية والعسكرية والمدنية لحسمها واتخاذ قرار ديمقراطى يحافظ على وحدة الحركة. إن قضية تقرير المصير بطبيعتها قضية إستراتيجية ولايمكن ان تكون تكتيكية سواء أن تم ذلك فى مؤتمر أو حدده شخص بطريقة مزاجية.
مايجرى الآن فى النيل الأزرق هو نتاج اولي ومباشر لدعوة تقرير المصير التى قسمت الحركة وستقسم جميع سكان المنطقتين لاحقاً وتعطى نصرا مجانيا لنظام الخرطوم، ولذا فإن التمسك بطرح رؤية السودان الجديد كخيار وحيد هو أحد شروط بقاء الحركة الشعبية موحدة.
أن حق تقرير المصير لا يمثل أعلى نقاط مشروع السودان الجديد إن كان اصلا له صلة برؤية السودان الجديد، بل هو برنامج متراجع عنه، فتلك الرؤية لن تتحقق إلا بتغيير المركز. ولكن من واقع التجارب يمكن القول إن المصاعب التى واجهت حركات الهامش فى هزيمة المركز وغياب الكتلة التاريخية التى يمكن أن تتحالف معها، وتعالى وعجرفة النخب الحاكمة فى المركز، تسببت فى لجوء حركات الهامش الى طرح حق تقرير المصير كمخرج من قضية التهميش.
علينا الحذر عند التعامل مع قضية حق تقرير المصير حتى لا تكون آلية لإنتاج المجتمعات القديمة فالعبرة بالوصول لمجتمع جديد يتسق مع قيم ومفاهيم وأساسيات رؤية السودان الجديد وعلينا ان لا نركز على الشكل بل على المحتوى فى هذه القضية.
الإضطهاد القومى والإستغلال الطبقى:الإبصار بعينين
بعد مضى أكثر من ثلاثة عقود على طرح رؤية السودان الجديد وتجربتها فى الكفاح المسلح إتضح جلياً أن التركيز على قضايا الإثنية والثقافة وإشكالات الهوية وقضايا الإضطهاد القومي أمر فى غاية الأهمية لبناء حركة جماهيرية لكنه غير كاف للوصول الى مجتمع جديد.
إن الاستغلال الإقتصادي، الإجتماعي و السياسي وإلغاء كافة اشكاله تمثل الوجه الآخر والهام لعملية التحرر الوطني، وأنه من المستحيل إنهاء الإضطهاد القومي دون حل قضية العدالة الإجتماعية. وهذا هو الطريق الذى يصنع المواطنة المتساوية الحقيقية، وأن تغيير وجوه الحاكمين الإثنية غير كافية لإحداث تغيير فعلى وجذرى. فتركيبة القوى الحاكمة سواء ان أطلقنا عليها "الجلابة" او أخترنا لها إسماً آخر معقدة إجتماعيا وطبقيا وإثنياً، ويظل الهدف النهائى لمشروع السودان الجديد هو إلغاء كافة اشكال الإستغلال بما فى ذلك النوع وتحرير النساء. إن الربط بين قضية العدالة الإجتماعية والإضطهاد القومى يشكل حجر الزاوية فى بناء مجتمع ديمقراطي جديد، وهذه القضية على نحو التحديد لم تجد الإهتمام الكافى فى تجربة الحركة على الرغم من أن مفكر ومؤسس الحركة ينتمى للمدرسة التى تأخذ قضايا الإضطهاد القومي والثقافي والإقتصادي والسياسي والاجتماعي وجذوره التاريخية كحزمة واحدة فى إرساء أركان مشروعه، ولكن ظلت قواعد الحركة أسيرة لقضايا الإضطهاد القومي وجانبه الثقافي وإشكاليات الهوية كمحرك رئيسى يشكل وعيها بعمق.
لم يجد الوجه الآخر للإضطهاد والإستغلال وجوانبه الإقتصادية الإجتماعية كمكون رئيسى للإضطهاد القومى وللتهميش الثقافى حظه من الإهتمام والدراسة فى أطروحات الحركة بما فى ذلك قضايا هامة كقضية الأرض. على سبيل المثال، إن الجوانب الإقتصادية الأجتماعية الطبقية، لاتزال هي لب الإضطهاد القومي فى جنوب إفريقيا رغم زوال النظام العنصري وتشكل مجرى الصراع الرئيسى هناك.
مركز السلطة لا لون له، ولكن الأفراد والمجموعات الحاكمة فى المركز لهم لون وهم لا يتورعون من أستخدام العنف ضد اى محاولة للتغيير سواء أن قام بها شباب إنتفاضة سبتمبر 2013، فى شوارع مدن المركز أو قوى الكفاح المسلح فى الريف. فمحاولة تغيير المركز لا تقابل بالورود فى اى منطقة من مناطق السودان، بل إن المركز يجيش المهمشين أنفسهم للدفاع عن سلطته وضد بعضهم البعض.
التهميش كحزمة متكاملة
فى السنوات الأخيرة أفتعلت معركة فى غير معترك حول مفهوم المركز والهامش والتحليل الطبقى والتحليل الثقافى. من المعلوم إن نظرية المركز والهامش نفسها هى من انتاج مثقفين من قلب مدارس اليسار الجذرى، وهؤلاء لا يغفلون التحليل الطبقى فى نظرتهم للمركز والهامش العالمى؛على رأسهم "اندريه غندرفرانك وسمير أمين" وهم رواد مفهوم المركز والهامش فى علم الإقتصاد السياسى. كما إن كل من "بول سويزى" و "وبول باران" و " مورس دوب" تناولوا جوانب مهمة فى دراستهم للإحتكارات وأزمة الرأسمالية ، و جميعهم قدموا إسهامات جليلة فى هذا المجال. أخذ المفهوم عنهم آخرون وطبقوه على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية، بعض هؤلاء لم يشر مطلقاً بأنهم أخذوا من مفكرين آخرين! أما الذين تناولوا هذه المفاهيم فى السودان فقد إستندوا فى بعض الجوانب فى التاريخ والإقتصاد على إنتاج كثير من المثقفين من قلب حركة اليسارالسودانى أيضاً. ولذلك فإثارة هذه القضية بالشكل الذى طرحت به هى إفتعال لصراع لا أساس له فى قضية فكرية مصادرها معلومة وروادها من المفكرين معلومين. ويمكن للمدارس الفكرية المختلفة ان تأخذ من بعضها البعض وتغتنى وتثرى بعضها الآخر، هذا من ناحية نظرية. أما عملياً وحينما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الحركة الشعبية وحركة الطلاب المستقلين والمؤتمر السوداني، فنقول بشكل قاطع أن هذه القوى جميعها من قوى السودان الجديد، وينتميان لنفس الكتلة التاريخية المناط بها التغيير، والعلاقات بينهما إستراتيجية والتباين إن وجد؛ فبالضرورة لن يؤثر على ما هو إستراتيجى.
ونذكر إن مؤسس الحركة دكتور قرنق ينتمى الى مدرسة تتعامل مع التهميش الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والسياسي ومنظوره التاريخي كحزمة واحدة متكاملة الاسباب وتؤمن بأن تهميش النساء هو الأعمق. الحركة الشعبية هى رائدة قضايا الهوية والمواطنة المتساوية ومن المفيد لفكرها ولمستقبلها السياسي ولمستقبل بناء الكتلة التاريخية ان تتلاقح وتعطى وتأخذ من كل تيارات السودان الجديد. علينا إدارة نقاش عقلانى وموضوعى بعيداً عن محاولات تقسيم قوى السودان الجديد بدعوى إمتلاك الحقيقة المطلقة من أىٍ طرف.
هل الهامش والمركز كتلة صماء؟
من القضايا التى أضرت بنضال الهامش ضد قهر المركز هى نظرة عدد كبير من المناضلين الى المركز والهامش ككتلة صماء. وهم بذلك يتوقفون عند سطح الظواهر ولا يلامسون عمقها. فالمركز يمور بقوى إجتماعية وإقتصادية وثقافية متعددة المشارب على مستوى الحاكمين والمحكومين. فالمحكومين ينتمون الى قوى إجتماعية وإقتصادية تعانى بمستويات متفاوتة من قهر المركز. فالمركز الجغرافى يضم قوى مهمشة عريضة غاضبة من سياساته وتقاومها، على مستوى الوعى السياسي يتباين إدراكها ومقاومتها لسياساته، ومن الخطأ المساواة بين المستغِلين والمستغَلين. إذ لابد من التمييز بين حكام المركز وفقرائه، وبين شهداء إنتفاضة سبتمبر من بنات وأبناء المركز الجغرافي، وبين جلاوزة "الأحجار الكريمة" من الأمن الذين ينتمون الى نفس الرقعة الجغرافية. عدم التمييز بين القوى الإجتماعية والسياسية فى المركز يؤدى الى أخطاء إستراتيجية وتكتيكية فى معرفة من هم أعداء الهامش ومن هم أصدقائه. كذلك الهامش ليس كتلة صماء، فكم من المنتمين للهامش خدموا المركز السياسي والحقوا الضرر بالهامش، وكم من المتنفذين فى المركز السياسي ينتمون الى الهامش الجغرافي. والهامش نفسه يضم قوى إجتماعية وبروقراطية إدارية وسياسية مصالحها مع المركز، ويضم قوى مهمشة تقاتل لمصلحة المركز ضد الهامش نفسه، ولدى بعضها مفاهيم ثقافية وعنصرية ضد بعضها الآخر.
إن مستقبل نضال الهامش يحتاج للتدقيق النظري والعملي حول المصالح الإجتماعية والإقتصادية والسياسية لمكونات كل من المركز والهامش حتى لا نأخذهما ككتل صماء مما يخدم المركز. ومن المهم الإنتباه إن مدن اليوم فى غالبها من المهمشين. إن التهميش يأخذ اشكالاً عديدة منها ما هو إثنى وطبقى وثقافى بجانب تهميش النساء. لذلك فإن إدراك وفهم وتبيّن كافة أشكال التهميش مهم فى معركة التحرير.
خصوصيات مناطق الهامش وعلاقتها بالمركز
لمناطق الهامش قضايا خاصة بها، أهمها الأرض والمواطنة المتساوية ، والعلاقة مع مركز السلطة، والحاجة لإعادة هيكلة المركز لمصلحة اقاليم السودان المختلفة، وان تحكم الأقاليم نفسها بنفسها، وضرورة إيجاد ترتيبات أمنية جديدة مستدامة لمصلحة الجميع، إضافة لقضايا التنمية المتوازنة والتوزيع العادل للثروة. كل هذه القضايا لن تحل إلا فى إطار قيام مركز جديد بعد إعادة هيكلته، ملك لكل المساهمين فى الشراكة الوطنية.
سعت الإتجاهات القومية الضيقة لتغليب الخصوصيات دون النظرة الى دور المركز وأهمية إعادة هيكلته لأنصاف المناطق المهمشة. يجب أن لا ننسى أن كل القوانيين التى تحكم الهامش تتم صياغتها فى المركز بما فى ذلك القوانيين المتعلقة بالأرض والمواطنة والتنمية. لا ندعوا للسير فى إتجاه معاكس لقومييّ المناطق المهمشة لأننا ندرك أهمية الخصوصيات التى تميز الهامش بما فى ذلك التأريخية منها، ولكن لا نرى أى حلول حقيقية لها دون تغيير سياسات وإعادة هيكلة مركز السلطة. وفي هذا الصدد من الضروري ان نقول ان قضية الأودك في النيل الأزرق وهي مهمة للحركة يمكن ان تحل في اطار ترتيبات خاصة في داخل اقليم النيل الأزرق نفسه وفي داخل السودان، وإن الحزام الذي يربط بين الجنوب والشمال من ام دافوق وحتي النيل الأزرق يصلح لإقامة شراكة إستراتيجة إيجابية بين دولتي السودان، ولاسيما المنطقتين اللتان قاتل سكانهما من السودان مع اهل جنوب السودان.
تجارة الرق، العنصرية، البناء الوطنى و كتابة التأريخ
منذ إنطلاقها إستندت رؤية السودان الجديد على المنظور التاريخي فى الدعوة لوحدة السودان، لأن السودان جزء من حضارات وادي النيل القديمة. ان الشخصية السودانية هى نتاج لمسيرة تاريخية طويلة مرتبطة بالمدنيات وأنظمة الحكم ونشأة العلوم والحضارة الإنسانية على ضفاف وادي النيل التى بناها الإنسان الإفريقي الاسود منذ آلاف السنين قبل الميلاد. تلاقحت أيضا حضارات وادى النيل القديمة مع الديانة المسيحية التى دخلت السودان الحالى بعد ثمان وثلاثين عاما من ظهورها، حيث قامت ممالك مسيحية على ضفاف النيل وازدهرت لأكثر من الف عام، وكانت العذراء تزين جدران كنائسها كإمرأة سوداء.
تبع ذلك إنتشار الإسلام على مدى أكثر من تسعة قرون من التبشير منذ اتفاقية البقط فى 641 م . فى مطلع القرن السادس عشر (1505 م) قامت اول سلطنة بملامح إسلام سوداني بعد تحالف عمارة دنقس وعبد الله جماع. وسميت تلك السلطنة بالسلطنة الزرقاء على لون سكانها.
هذه المسيرة التأريخية الطويلة منذ "كرمة ونبتة" مروراً بالسلطنة الزرقاء وممالك وسلطنات دارفور وكردفان والبجا وأنظمة الحكم المختلفة فى جنوب السودان وغيرها من أشكال نظم الحكم المحلية التى شملت كل السودان وجواره الحالى شكّلت التنوع التاريخي لبلادنا وإنسانها.
فى دراسته لتأريخ السودان تأثر مؤسس الحركة بنتائج البحوث التى أجراها الكثير من العلماء حول حضارات وادى النيل، وعلى رأسهم المفكر والمؤرخ السنغالى الكبير الشيخ " أنتا ديوب" الذى إعتبر البعض رسالته للدكتوراة حول حضارات وادى النيل السوداء بمثابة إنجيل التاريخ الأفريقيى. فتح الإطلاع على نتائج تلك الدراسات والبحوث نقاشا طويلا داخل صفوف الحركة حول رؤية السودان الجديد من منظور تاريخى. فالتأريخ هو أحد أهم مكونات الدعوة لوحدة السودان كما أن الإلمام بالتاريخ مهم من أجل المصالحة الداخلية بين الشعوب السودانية، والمصالحة عالميا مع الحضارات الإنسانية الأخرى.
لقد كان الإنسان الأسود فاعلاً وحاضراً فى مسيرة التاريخ العالمى، وهذا مهم لمواجهة النظرة الدونية للسود فى العالم. هذا ماذكره أيضا الشيخ "أنتا ديوب" فى كتاباته. ولذلك فالدفاع عن التنوع التاريخى للسودان هو الذى يسند وحدته، وكما أشرت فى كتابات سابقة: "فإن الأنتقاص من تاريخ السودان هو الذى إنتقص من وحدته". فالذين يريدون ان يوحدوا السودان عليهم أن يتصالحوا مع تنوعه التاريخى حتى يتصالحوا مع تنوعه المعاصر.
لن تكتمل اى عملية مصالحة وطنية حقيقة إلا بقراءة موضوعية لتأريخ السودان لاسيما فترة تجارة الرق والأثار والجراحات العميقة التى خلفتها فى قضايا البناء الوطنى ووحدة السودانيين ونظرتهم لبعضهم البعض. دراسة تلك الفترة والكشف عن ما جرى فيها والإنتقاد الواضح والشفاف للمارسات التى حفلت بها ومخلفاتها اللاحقة ومكافحة العنصرية الحالية التى تمخضت عنها، وأصبحت تشكل أحد المكونات الثقافية والمرارات التى تعوق البناء الوطنى أمرا هاما لمستقبل التعايش بين السودانيين.
لن يتم كل ذلك إلا ببناء دولة مواطنة متساوية وأن تتخذ الدولة سياسات واضحة لمكافحتها من خلال التربية والمناهج التعليمية وإرثاء ثقافة مجتمعية متكاملة واصدار التشريعات الصارمة لمكافحتها . يجب أن لا نعتقد أن بإمكاننا تجاوز مرارات تلك الفترة بمحاولة إغفالها و السماح لها بضرب النضال المشترك للسودانيين من أجل مستقبل أفضل. كما يجب أن لاتتسب فترة تجارة الرق والعنصرية التى خلفتها فى تقسيم قوى التغيير وتعطل عملية توحيدها فى معركتها لبناء مجتمع جديد معافى.
إن أجندة المستقبل يجب ان تبنى على الحقائق دون تزويغ او تزويد. لقد عبّر الشهيد "جوزيف قرنق أوكيل" من قبل فى إطار حديثه عن فترة تجارة الرق وعن "هوبكنز" ودور الإستعمار والكولونياليه فيه التى وفرت الاسواق لترويجها، وضرورة الإستفادة من دروس تلك الفترة لمواجهة قضايا اليوم دون أن نظن أن الخصوم الداخليين أشد وطأة من الخارجيين، وتأكيده على ضرورة إنهاء الإستغلال الداخلى ومواجهة الإستغلال الخارجى، مشبهاً الذى يهرب من إستغلال الجلابة لإستغلال الرأسمالية العالمية كمن يهرب من بيت المرفعين الى بيت الاسد!
لذلك علينا أن نواجه ماضينا بجرأة لنصنع ما هو أفضل بمستقبلنا، فتأريخ السودان يحتاج الى إعادة قراءة وكتابة مبنيّة على الحقائق، وبأيدينا دون وجل؛ وفى تكامل وشمول وفى إعتراف تام بمساهمات كافة أقوام السودان.
هنالك مساهمات عديدة فى هذا الخصوص من السودانيين، ومن بعض الأجانب المهتمين كانت الحقيقة مقصدها فى تتبع دروب التاريخ الشائكة والمؤلمة فى كثير من الأوقات. لذلك نحن نحتاج فى توجهنا نحو المستقبل ان نربط أنفسنا بمراسي تأريخنا، فالسفن التى لا تربط فى المراسى بحبال متينة يجرفها التيار بعيداً. فالنربط أنفسنا بحبال تاريخنا. فليس بإمكاننا تبيّن دروب المستقبل قبل أن نجاوب على أسئلة من شاكلة : من نحن ومن أين جئنا، والى أين نود الذهاب؟ فحاضرنا ومستقبلنا سيأخذ من ملامح ماضينا.
الصوفية التسامح والتعايش- المسيحية والديانات الإفريقية
شكّلت الصوفية ملامح الإسلام السوداني بطابعها المتسامح والقادر علي التعايش مع الديانات الاخري، ونشرته بالموعظة الحسنة والحكمة والرايات المطرزة بالنذور على مدى تسعة قرون، وتفاعلت مع الثقافات الإفريقية وأخذت منها أيقاعاتها وتبنت بعض وظائفها الاجتماعية والتى تفاعل معها شيوخ الطرق الصوفية. ورغم ما علق بالتصوف وبعض المتصوفة من شوائب إرتباطهم بالحكومات الشمولية، لكنها تظل ترياق ضد الإسلام السياسى والسلفية الحربية. فالطرق الصوفية راسخة الجذور فى مجتمعنا، وفى حملات بناء الحركة بعد إتفاقية السلام نشأ ود ومحبة بين شيوخها وبين الحركة، وانضم بعضهم الى الحركة. لقد قامت الصوفية على التسامح فى تفاعلها مع التنوع السودانى ولذلك علينا ان نستمر فى التفاعل الإيجابى معها لترسيخ قيم الفضيلة والتسامح واحترام التنوع فى بلادنا.
لاتزال هنالك مجموعة مقدرة من سكان السودان تعتنق الديانة المسيحية، والديانات الافريقية، حتى بعد إنفصال الجنوب، مما يستدعى الإهتمام بقضية التنوع الدينى فى بلادنا. قضية التنوع الدينى لن تحل بشكل جذري إلا بالوصول الى سودان جديد ديمقراطي علماني يفصل بين الدين والدولة، ويؤسس دولة المواطنة المتساوية ويقف على مسافة واحدة من جميع الأديان ومن المؤلم أن هذا النظام إستهدف المسيحيين السودانيين بشكل عام، كما شرد آلاف الأقباط السودانيين فى فجاج الأرض. ولذا فإن قضايا المسيحيين السودانيين والمؤمنيين بالديانات الافريقية شديدة الصلة والإرتباط بإقامة نظام ديمقراطي ومواطنة متساوية.
الديمقراطية وحقوق الإنسان
قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان واحدة من القضايا التى تستحق المراجعة الدقيقة فى تجربة الحركة. والحركة مثلها مثل كثير من حركات الكفاح المسلح إعتبرت الأخطاء والجرائم التى أرتكبت أنها أخطاء وجرائم عابرة لابد من المرور بها أثناء إنجاز مهام التحرير، وأن الأهداف السامية للتحرير تعلو على مثل هذه الأخطاء المؤقته. لقد كان هنالك الكثير من الضحايا لتلك الممارسات لاسيما فى حروب الهامش الداخلية الطويلة التى كانت فى غالبيتها بدفع من حكومات الخرطوم. والحركة والجيش الشعبي خاصة فى البدايات لم يأخذا قضايا حقوق الإنسان كمكون رئيسى فى ممارستهما، وقد الحق ذلك تشوهات بالتجربة.
إتضح من تجارب العديد من حركات التحرر الوطني إن إغفال قضايا حقوق الإنسان اثناء عملية التحرير لايمكن تداركه بعد التحرير.
وبعد اتفاقية السلام 2005 لم تعط الحركة الإهتمام المطلوب لقضايا التحول الديمقراطي وركزت جل إهتمامها على تنفيذ الجوانب التى ستؤدي الى الإستفتاء على حق تقرير المصير على الرغم من أن التحول الديمقراطي كان ركناً رئيساً من أركان الإتفاقية. كما لم تتمتع الحركة بالحساسية المطلوبة تجاه كثير من الممارسات المخالفة لحقوق الإنسان التى ارتكبتها أجهزة المؤتمر الوطني أثناء الفترة الإنتقالية. و كان مركز السلطة وحزب المؤتمر الوطني يساومان لإغفال قضايا التحول الديمقراطى فى مركز السلطة مقابل تنفيذ جوانب الإتفاقية المؤديه لحق تقرير المصير. وقد تطلب تحقيق الإستفتاء على تقرير المصير معارك شاقة، زاد من مشقتها غياب التحول الديمقراطى الذى دفع ثمنه الجنوبيون والشماليون معا بعد الإنفصال، فبقاء النظام القديم معادٍ لكلا شعبى السودان.
ولأن قاعدة الحركة الصلبة فى جنوب السودان كانت تريد أن تنجو بجلدها من دولة الفاشية الإسلامية لذلك لم تهتم كثيرا بقضايا التحول الديمقراطي.
إن حركات الهامش جمعيها إهتمت أكثر بقسمة السلطة والثروة والتى أصبحت قسمة فوقية بين الصفوة ولم تؤد لتحول ديمقراطى فى بنية السلطة وإعادة توزيع الثروة لمصلحة الفقراء والمهمشين وبدون ذلك لا يمكن إنهاء التهميش.
إن قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان تمثل أحد أهم الآليات لإنهاء التهميش وقد آن الآوان لوضعها فى صلب برنامج حركات الهامش ونضالها، فبدون ديمقراطية لايمكننا بناء مجتمع جديد يؤدى الى إنهاء التهميش، وهذه القضية يجب أن تشكل أحد أعمدة فكر السودان الجديد.
الديمقراطية الداخلية وانتخاب القيادة
أشرنا من قبل بضرورة أن تشكل الديمقراطية أحد أعمدة فكر السودان الجديد دون ضبابية، والديمقراطية ليست بالأمر السهل واذا أردنا ان نحققها فى المجتمع علينا أن نطبقها داخل تنظيمنا ففاقد الشئ لا يعطيه. لقد عانت الحركة من مصاعب حقيقية فى الديمقراطية الداخلية و كان للعمل العسكري والتراتبية العسكرية تأثير سلبى واضح فى ذلك، بل إن الجناح السياسي للحركة لم يأخذ ملامحه و يتشكل إلا فى وقت متأخر وكانت البداية الفعلية هى المؤتمر الأول للحركة فى "شقدوم" عام 1994. والآن بعد مضى وقت طويل منذ التأسيس الأول للحركة فى 1983 لابد أن ننتبه لقضية الديمقراطية الداخلية، وان تأخذ موقعها المستحق حتى تزدهر الحياة الداخلية للحركة وتنطلق بمساهماتها نحو المجتمع.
إن أحد المقومات الرئيسية للتنظيمات الحديثة هو إنتخاب القيادة فى ظل نظام داخلي يتيح الديمقراطية والتبادل السلمي للمواقع القيادية وهو ما يجب أن يشكل ملمح رئيسي لما نود أن نقوم به من تجديد تنظيمى.
حركة إصلاحية أم ثورية !
يجب أن تكون الحركة التى نحن بصددها حركة ثورية تحررية واضحة الأستراتيجية وتتبنى تكتيكات ملائمة لتحقيق تلك الأستراتيجيات. من الطبيعى أن تمر الثورة عبر محطات الإصلاح ولكن قطارها لا يتوقف عندها كمحطات نهائية فمشروعنا أبعد من الإصلاح وهو مشروع ثورى تحرري يرمى لبناء سودان جديد لمصلحة كل السودانيين.
حركة حقوق مدنية ديمقراطية فى المدن
إعتمدت الحركة فى غالب تأريخها على الكفاح المسلح والآن بعد التغيير الكبير فى التركيبة الديموغرافية والطبقية فى المدن و وخصوصاً مناطق الإنتاج الحديث أضحت الوسائل الناعمة أكثر ضرورة من أى وقت مضى.
لم يجد توظيف الوسائل الناعمة معالجة كافية من الحركة رغم أن محاولات عديدة بذلت فى هذا الإتجاه. الآن لامناص من بناء حركة حقوق مدنية تحررية فى مدن السودان مرتبطة عضوياً بالريف ومنفتحة على القوى الديمقراطية والتقدمية والمستنيرة لانتصار مشروعنا. إن الحركة التى ندعوا لها يجب أن تكون ذات أجندة واضحة فى قضايا المواطنة المتساوية وضد العنصرية وتناضل من أجل الخبز و السلام والتحرر وتحسين شروط الحياة المعيشية لكافة السكان، وتربط بين قضايا العدالة الإجتماعية والمواطنة وتحقق ديمقراطية الثقافة والسلطة. مثل هذ الحركة هى التى يمكن أن يعول عليها فى بناء الكتلة التاريخية من جميع القوميات ولمصلحتها جميعاً، معتمدة على استخدام وسائل اللاعنف والعمل السلمى المدنى الديمقراطي وهى أحدى وسائلنا نحو المستقبل. الذي يجدر ذكره ان هناك قضايا ذات خصوصيات بعضها مؤقت، أصبحت تشكل اجندة جديدة من ضمنها قضايا الاراضي، السدود، الإبادة الثقافية، البيئة، تجمعات المزارعين، الرعاة، المفصولين تعسفيا والنازحين واللاجئين وغيرها تحتاج الي إنتباهة خاصة.
إتفاقيات السلام والإندماج فى النظام القديم
لاشك أن إتفاقية السلام الشامل هى كبرى الإتفاقيات التى تمت، وكانت ذات أثرٍ كبير داخلياً وخارجياً. أحد أركان الإتفاقية هوالتحول الديمقراطي ، وقد كان هو الضمانة العضوية لتغيير السودان عبر إنتخاب سلطة جديدة فى بداية النصف الثانى من عمر الإتفاقية. كما أن الإنتخابات والأستفتاء على حق تقرير المصير كانا أهم آليات تغيير الأوضاع القديمة. ولكن عند التطبيق تم عن عمد تجاهل التحول الديمقراطى الذى هو الأساس لعلمية التغيير، ولو تم التحول الديمقراطي؛ لأحدث أثراً إيجابياً كبيراً لمصلحة الوحدة، وتحقيق السلام بين البلدين فى حالة الإنفصال. كذلك لم تأخذ القوى السياسية المعارضة الحقوق الواردة فى نصوص الإتفاقية حول التحول الديمقراطى مآخذ الجد، ولم يسع معظمها لإستخدام وثيقة الحقوق الدستورية لفرض الأمر الواقع على الحكومة، بل إعتبرت ذلك من مهام الحركة، وهو جزء من الأسباب التى أدت الى الحفاظ على النظام بشكله القديم. رغم ذلك فان تغييرا بشكل من الأشكال قد تم رغم محدوديته وقتها ولم يعد الحال مثل ما كان قبل الإتفاقية.
تم توقيع إتفاقيات عديد بعد نيفاشا خارج وداخل السودان، لكنها لم تؤد الى التغيير المطلوب مما يطرح سؤالاً مركزيا حول كيفية تحقيق السلام والتغيير معاً، إذ لا يوجد سلام فى ظل الحفاظ على النظام القديم. هذا هو أحد الاسئلة التى تحتاج لإجابة، ونحن نعمل لتجديد الحركة والإنفتاح على الآخرين. فهل من الممكن ان نصل الى اتفاقية سلام خارج الدائرة التقليدية لتقسيم السلطة والثروة؟
حركات التحرر: تراجع الأحلام الكبيرة
فى ظل الليبرالية الجديدة والرأسمالية المتوحشة – كما أشرنا من قبل – تواجه حركات التحرر الوطنى فى بلدان الجنوب اوضاعاً عالمية غير مواتية لوجودها لتحقيق التنمية وبناء المجتمعات الجديدة. وكما تابعنا فى السنوات الأخيرة فقد تم القضاء على دول بكاملها نتيجة للتدخلات الخارجية كما حدث فى العراق وليبيا. فى ظل هذه الأوضاع فإن حركات التحرر الوطني الحاكمة او التى فى المعارضة تجابه اوضاع شائكة. إن تجارب حركات التحرر الوطني فى الحكم انتهى معظمها الى فشل فى تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان لشعوبها، ونحا كثير من قادتها ورموزها للدكتاتورية بدلا عن الحرية والتحرر فى ظل مناخ عالمى سلبي انتشرت فيه الحركات القومية الضيقة والشعوبية والتوجهات الإثنية والتيارات الدينية المحافظة فى أكثر البلدان تقدما إقتصاديا.
يضاف الى ذلك تشابكات العولمة والتطور فى أجيال البرمجيات، وتأثيرها الكبير ايجابا وسلبا على عقولنا فإن إنسدادا بيّنا فى الآفاق وتناقص فى الأحلام الكبيرة والرؤى الطامحة لتحقيق عالم أكثر انسانية أصبحت على المحك. وفى هذا الوقت ورغم ما يدور من حولنا إقليميا ودوليا فإننا ملتزمين بمحاولتنا بالتمسك بالأحلام الكبيرة وبرؤية السودان الجديد.
إن المناخ الإقليمي والعالمي يشهد أنحداراً بلغ فى بعض الأحيان درجة طرح الأفكار العقيمة البالية من أعلى منصات المسرح العالمي. ان هذه الأوضاع تؤثر بشكل او بآخر فى واقعنا الداخلي وتشجع الأنزواء السياسي والفكري وتدعم تصاعد قضايا الإثنية الضيقة والتطرف الديني.
على الجانب الآخر فإن الإرهاب الذى يستهدف المدنيين يجد أساسه بصورة او أخرى فى أزمة النظام العالمي وعدوانه الذى لم يترك آفاقاً للتطور والعدالة لملايين الفقراء على مستوى العالم ولا سيما بلدان الجنوب.
فى هذا المناخ المضطرب تصبح محاولتنا للتمسك برؤية تقدمية مثل رؤية السودان الجديد، وبناء منظمة وطنية ديمقراطية أمرا ضروريا وحيوياً لشعبنا وللبلدان المجاورة لنا، وهى المنظمة التى يمكن ان تساهم بفاعلية فى الحفاظ على وحدة السودان والسلام فى جوارنا.
إنفصال جنوب السودان والإتحاد بين بلدين مستقلين
نحن الذين حاربنا مع أبناء شعبنا فى جنوب السودان وأحببنا الجنوبيين والجنوب مثل حبنا للشماليين والشمال لا نفرق بينهما فقد تعلمنا محبتهما معاً.
إن حقيقة إنفصال الجنوب والإبادة الجماعية فى السودان هما حدثان من الضخامة بمكان ليدفعا كل وطنى لاعادة النظر فى المشروع الوطني القديم واستبداله بآخر على نسق مغاير.
لكننا نعلم أن النظام الفاشي الحاكم وبحكم طبيعته لن يعيد النظر فى نظامه القديم إلا مجبراً. ولذا فإننا نتوجه الى قوى التغيير خاصة قوى السودان الجديد وقوى التقدم والاستنارة التى نسعى معها لبناء منظمة ثورية، ومثلها نتوجه الى قوى التغيير العريضة للعمل على إزالة النظام، والإتفاق على أسس جديدة للمشروع الوطنى عبر مؤتمر دستورى ينقلنا لترتيبات دستورية ديمقراطية تعيد هيكلة الدولة السودانية. هذه مهام تواجه جميع الشعوب السودانية. إن رؤية السودان الجديد رؤية سودانية خالصة انتجتها أرض بلادنا و تشكل نقطة تلاحم والتقاء بين الشعبين فى دولتى السودان. يضاف لذلك أن مجموعات كبيرة من المواطنيين السودانيين شاركوا فى حرب التحرير فى جنوب السودان، وهى نقطة تلاحم أخرى من النضال الذى قادته الحركة ضد التهميش حمل كثيراً من المواطنين الجنوبين الى نضال فى مناطق متفرقة فى شمال السودان.
لقد ساهمت الحركة فى إنتاج وعى مغاير وعلاقات مشتركة بين دولتى السودان لا تزال صالحة لمد يد الأخوة الشريفة بينهما.
بإنفصال الجنوب إنتهى شكل من أشكال الوحدة، والفرصة الآن لإعتماد شكل آخر جديد للوحدة بين بلدين مستقلين على أساس الإحترام المتبادل لإستقلال وسيادة كل منهما وخلق علاقة إستراتيجية تسندها المصالح والجغرافيا والتاريخ والدماء واقامة (اتحاد سودانى) بين الشعبين والدولتين.
هذه هى الدعوة التى يجب أن تتبناها الحركة والكتلة التاريخية التى تنتمى اليها فى السودان. على هذه الكلتة أن تأخذ على عاتقها مهمة الوصول لذلك الاتحاد السوداني لمواجهة تعقيدات بلدان الجنوب والإسهام الإيجابي إقليمياً وعالمياً لاسيما وحدة إفريقيا والتعاون الإستراتيجي بين الأفارقة والعرب خصوصاً أن أغلبية العرب تتواجد فى إفريقيا.
لاشك ان كلا البلدين محتاجين لإقامة الوحدة على أساس التنوع، والى مشروع وطني ديمقراطى داخل كل منهما، ويحتاجان للتعاون والشراكة الإيجابية مع الإقليم والمجتمع الدولى وفق المصالح الوطنية لكليهما. وإن كانت مصالح بلدان الجنوب فى بناء علاقات دولية متكافئة لمصلحة جميع الشعوب تقتضى توحدها، فمن باب أولى أن نبداء بجنوب السودان الذى نشاركه التاريخ والثقافة وأطول حدود دولية ومصالح فعلية لمواجهة إشكاليات وتحديات عالمية كبيرة. ويجب أن يكون هذا الاتحاد مقدمة لإتحاد أكبر مع جميع بلدان الجوار.
إن تجارب عديدة إستطاعت أن تقيم أشكال مستحدثة من الوحدة ففى اوروبا يمكنك الذهاب من إسبانيا حتى الحدود التركية بترتيبات اوروبية مشتركة ونحن أحوج لمثل هذه الترتيبات من غيرنا، وهذا يشمل جميع بلدان الجوار، ولكن علاقتنا مع الجنوب لها وضعها الخاص والمتميز ولها مكانة فى قلوبنا وافئدتنا، وحينما غاب الجنوبيون فقدت بلدنا ملحها وفقدت بعض طعمها ومذاقها.
الإطار التنظيمى الجديد
ولأن "الدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدة" كما انشد شاعرنا الكبيرالراحل الاستاذ تاج السر الحسن، فإن بلادنا تحتاج الى مشروع وطني مغاير قادر مع الآخرين على بناء كتلة تاريخية، وتوحيد الضمير الوطني والسياسي لسكان المدن والريف.
إن تجديد الرؤية الذى يأخذ المتغيرات والممارسة العملية يعنى بالضرورة تجديد الإطار التنظيمي بما فى ذلك الوسائل والآليات والديمقراطية الداخلية وانتخاب القيادة والتبادل السلمي والديمقراطي للسلطة داخل التنظيم ومن ثم فى المجتمع العريض.
إن تجديد الرؤية والآليات التنظيمية هما مفتاح رئيسى للإنتقال بالحركة الى وضع جديد، وهى قضايا مترابطة إذ لا يمكن تجديد إحداهما دون تجديد الأخرى. لقد جاء الوقت لضخ هواء نقى جديد فى رئة الحركة يبعدها عن التكلس والجمود، ويمدها بروح نضالية جديدة جاذبة للمهمشين وللسودانيين من كافة دروب الحياة.
إن الهدف هو خلق حركة على نمط جديد واختبار أراضي وآليات جديدة وذلك هو المدخل الصحيح لإعادة بناء الحركة والمساهمة فى بناء الكتلة التاريخية. عند القيام بذلك علينا ان نحدد مصادر القوة وان نضع إستراتيجية واضحة لبناء هذه المصادر وهذه هى أولى مهام البناء التنظيمى.
لماذا لم يتمكن تنظيمنا من تغيير المركز
بعد انتفاضة إبريل 1985 كنت حينها من قادة حركة الطلبة الذين شاركوا مع الملايين فى إنتفاضة إبريل التى أطاحت بنظام نميرى. كنت قد أمضيت عاما قبل الإنتفاضة فى سجن كوبر جذبتني فيه رؤية الحركة مثل المجاذيب فى كل زمان ومكان، واطربتني إيقاعات ودفوف الكفاح المسلح التى أخذت حيزاً واسعاً منذ ستينات القرن الماضي. وعلى أيام نميرى كنا نطالع تجارب الكفاح المسلح فى افريقيا وامريكا اللاتينية، وتوصلنا الى ان الكفاح المسلح يحتاج الى حركة سياسية سلمية كجناحي طائر ليحلق. قمت مع أصدقاء العمر "حسن نابليون" و"على العوض" بمحاولة تكوين جماعة " الخبز والسلام والتحرر" ودخلنا فى نقاشات مطولة مع آخرين وكنا ننوى بناء جناح سياسي فى المدن للحركة لجذب قوى هائلة معطلة الطاقات لتناصرها ولتطرح قضايا الخبز والسلام والتحرر وتناضل من أجلها فى شوارع المدن. ولكننى حينما ألتقيت بالمسؤلين عن مكتب الحركة فى الخرطوم ومنهم الراحل الدكتور " بيتر نيوت" و " أدوارد لينو" و"يوهانس يور أكول" ولمحاذير التاريخ والسياسة والجغرافيا وترصد أجهزة الأمن ومفارقات الإثنية التى تتغذى على أكل الثقة بين مختلف القوميات، لم تجد فكرتنا صدىً عند مكتب الحركة السري فى الخرطوم.
بعد ذلك اتجهت للإنضمام للجيش الشعبي. وحينما وصلت معسكر اللاجئين فى "إتنغ" فى الحدود الأثيوبية السودانية بالقرب من مدينة "قمبيلا" فى يناير 1987 قمت بترجمة برنامج حركة "الخبز والسلام والتحرر" مع الراحل والصديق الصحفي "شول كوانج" والصديق العزيز " جورج ماكير بنجامين" وأعطينا نسخة للراحلين الكبيرين "اروك طون اروك والعم اليجا مالوك" ولاحقا ناقشتها مع الدكتور جون قرنق حينما التقيته للمرة الأولى فى المدرسة السياسية فى معسكر" الزنك" فى أحدى ضواحى قمبيلا فى منتصف 1987، تناقشنا فى هذه القضية الهامة التى ظللت أطرحها بإستمرار فى مختلف منابر الحركة ولكنها لم تجد العناية اللازمة على مر سنوات الحرب الطويلة مع ان قرنق ويوسف كوة مكى كانا من مؤيدى هذا الطرح، لكن الكفاح المسلح ظل يفرض أولوياته باستمرارعلى الحركة.
لم تتمكن الحركة لأسباب عديدة أخرى ومثلها حركات الكفاح المسلح فى مناطق السودان الأخرى من التحليق بجناحين، ولم تستطع ربط الكفاح المسلح فى الريف بالعمل السياسي السلمي فى المدن والمزج بين القوى الناعمة والخشنة. كان ذلك سيستنهض جماهير واسعة المشارب كتلك التى إستقبلت قرنق فى الساحة الخضراء لاحقاً. هذه الجماهير بالضبط هى ما كان يحتاجه الكفاح المسلح ليلحق الهزيمة بمركز السلطة، وجماهير المدن تحيط بالحاكمين إحاطة السوار بالمعصم، خصوصا إن المدن على أيام الحرب الأولى كانت تعج بملايين المهمشين من جنوب السودان والمناطق الأخرى.
على الرغم من أهيمة الدور الذى لعبه الكفاح المسلح ولازال يلعبه ضد فاشية الإسلام السياسى إلا أن حرمان الكفاح المسلح من أهم حليف إستراتيجي الحق الضرر بقضايا المهمشين.
الحركة بوصفها كبرى حركات الكفاح المسلح، والأم الروحية لحركات الهامش، مؤهلة للإتجاه صوب المدن وبناء حركة تحرر للحقوق المدنية والسياسية والإجتماعية، تصادم ولا تهادن أنظمة الخرطوم، وتحرر مركز السلطة بتلاحم العمل السلمى الديمقراطي المدني فى الريف والمدينة، مما يعطى روح جديدة لا تجعل حركات الكفاح المسلح نهباً للإتفاقيات التى تؤجل حل القضايا، وتقدم أطواق نجاة للنظام القديم. وقد آن الأوان للحركة أن ترد الإعتبار لنضال مهمشي وفقراء ومثقفى المدن، وأن تصعد درج سلم المدن نحو بناء حركة جماهيرية جذرية قادرة على فرض أجندة المواطنة المتساوية وبناء دولة ديمقراطية لا تغفل العدالة الإجتماعية وديمقراطية الثقافة والسلطة وتبصر الإضطهاد بعينين.
الحركة فى ذلك لا تبدأ من الصفر، فلها وجود فعلي فى مدن وريف السودان، ولديها تنظيمات ذات تجربة وبنية تحتية طوال الفترة الإنتقالية (2005-2011)، وقد تبلورت ظاهرة جديدة فى الحرب الثانية لم تكن موجودة من قبل، فقد برز قادة من الحركة في كل الولايات والقطاعات أعلنوا مواقف صريحة ضد النظام وتحملوا السجون ومعاناة النضال وهم من سيقود العمل التنظيمي والسياسي الذى ننشده.
قضايا التنظيم والممارسة التأريخية
ترتبط قضايا الحركة التنظيمية إرتباطاً لا إنفصام لعراه بممارساتها الفعلية وحصاد الممارسة فى العقود الماضية، ولابد من تقييم وسائل عملها وهياكلها خلال هذه الفترة والنتائج الفعلية التى توصلت لها. توفرت للحركة موارد بشرية جيدة، وقد ظل عشرات الألاف من الشباب ومن كادر الحركة متفرغين بشكل يومى لآداء المهام التى تطلبها القيادة، ومع ذلك يمكن القول ان هذه الموارد البشرية الضخمة لم تستخدم بكفاءة عالية على الرغم من مجهودات بناء القدرات السياسية والعسكرية.
يشار أيضاً الى إن فئات المثقفين الذين إنضموا للحركة لم يجدوا الفرص الكافية والمساحة المناسبة لتمدد قدراتهم. يرتبط النجاح المحدود فى إستغلال مقدرات الأعضاء بشكل رئيسى بقضية إعتماد الحركة على الكفاح المسلح دون الأشكال الأخرى. كما اعتمدت الحركة عسكرة بنيتها التنظيمية لإدخال الإنضباط فى صفوفها بجانب انها ورثت تجارب الأنانيا الأولى وكثير من سلبياتها، كما أن قادتها الكبار الذين أتى معظمهم من الجيش السوداني قاوموا فى كثير من الأوقات التحديث الثورى الذى أدخله قرنق. كذلك إستنزف إختلاط ما هو موضوعي مع الذاتي فى قضايا الهامش والتباعد وعدم الثقة التاريخية بين القوميات المهمشة الكثير من الوقت والطاقات. والآن بعد مضى كل هذا الزمن فإن الحركة تمتلك تجربة ثرّة حول ما يمكن أن تتحصل عليه من الكفاح المسلح وما ينقصها من آليات وهياكل جديدة للإنفتاح على قوى أكبر. ولذلك فإننا حينما نتجه لتجديد الرؤية علينا أن نتجه الى تجديد الوسائل والهياكل والأليات فقضايا التنظيم مثلها مثل الرؤية تحتاج الى إعتماد وسائل كفاحية وهياكل تنظيمية تتناسب مع المهام التى تطرحها الرؤية، والتجديد الذى نتطلع للقيام به والدروس المستفادة من تجارب الماضي.
إن الحركة لن تحرز تقدم الآ إذا اعتمدت وسائل وهياكل وآليات جديدة مرنة تسمح بالقدر المطلوب من الديمقراطية الداخلية والمساواة الحقيقية بين اعضائها، غض النظر عن خلفايتهم الإجتماعية والثقافية والجغرافية ووسائل نضالهم، ولابد من انتقاد الممارسات فى السنوات الماضية التى عملت على تحجيم الحركة فى داخل الحواضن الإثنية للكفاح المسلح. أن كثير من القضايا التنظيمية الجديدة ستستفيد من تجاربنا السابقة وتغتنى وتحل قضايا المستقبل بالنظرة لماضى التجربة، فالنظرية نفسها تتطور من خلال الممارسة.
حقوق المواطنة المتساوية وحقوق العضوية المتساوية
يحتاج الوصول الى حقوق وواجبات دستورية متساوية لكل المواطنيين معيارها الوحيد هو المواطنة بالضرورة الى حركة يساوى دستورها وممارستها الفعلية بين عضويتها فى الحقوق والواجبات. يجب أن لا تتسبب الوسائل المختلفة التى يشارك بها الأعضاء كل من موقعه فى النضال فى التفرقة بين الأعضاء على أسس غير موضوعية.
إن الذين يشاركون فى الكفاح المسلح من مصلحتهم جذب اكبر قطاعات تتخذ وسائل العمل السلمى الى صفوفهم وإظهار رحابة فى النضال المشترك لبناء كتلة تاريخية بإفق استراتيجى للقضاء على المظالم الإجتماعية والتهميش من كافة جوانبه. لقد أثبتت إتفاقية السلام ان هنالك قطاعات شعبية واسعة مستعدة للكفاح المشترك من أجل إقامة مجتمع جديد. وبالرجوع لتجربتنا فإن المساواة فى الحقوق والواجبات الدستورية بين جميع أعضاء الحركة لن تغفل العطاء والكفاءة والولاء والآداء والمساهمة التأريخية للأفراد والجماعات، وتجربة المؤتمر الوطني الإفريقي وحلفائه لاسيما تجربته قبل وصوله للحكم تجربة جديرة بالدراسة فى كيفية خلق منظمة عابرة للإثنيات، على الرغم من المتاعب التى يعانيها المؤتمر الإفريقى الآن.
الإنتاج الفكرى والثقافى
التخريب الذى طال كل مناحى الحياة لا سيما العقول بعد تجربة الإسلام السياسي ولد أسئلة جديدة لن نستطيع ان نجاوب عليها، وشق طريقنا نحو المستقبل إلا بإنتاج فكرى وثقافى يفوق هذا التخريب، ومالم نتفوق فكرياً لن نتفوق سياسياً، ولن نستطيع ان نتفوق سياسياً وفكرياً وثقافياً إلا بجذب المثقفين والأكاديمين والباحثين للمساهمة الفاعلة فى الإجابة على الأسئلة بشكل صحيح. لقد إبتعد كثير من المثقفين والأكاديميين من العمل السياسى إما لفقر العمل السياسى او لأن مطالب الحياة قد أنهكتهم، او بالهجرة الى خارج السودان التى باعدت بين بعضهم وبين الإهتمام بالقضايا الفكرية. وعلينا أن نولى هذه الجبهة الإهتمام اللائق بها وأن نزلل العقبات التى يضعها العمل السياسي والهياكل التنظيمية والبيروقراطية ومطالب الولاء التنظيمى الطاردة حتى نمكنهم من المساهمة الفاعلة.
النساء
تمثل قضية المرأة قضية رئيسية لأى منظمة تقدمية، والنساء هن مهمشات المهمشين كما ذكر قرنق، وهن صاحبات المصلحة الأكبر فى إنهاء المظالم وإقامة المجتمع الجديد، لأن مظالم النساء هى الأعمق فى التاريخ الإنساني.
لقد دفعت النساء السودانيات ثمناً فادحاً تحت حكم فاشية الإسلام السياسى، ولذا فإن قضاياهن ونهوض حركة المرأة تظل قضية مفتاحية فى بناء اى منظمة ديمقراطية جديدة.
تصحيح مظالم المرأة يقتضى تمثيل النساء فى مواقع إتخاذ القرار والتمييز الإيجابى لمصلحتهن وطرح برنامج جرئ يعطى الأولوية لإنصافهن ووضع قضيتهن فى أعلي الاجندة الوطنية امر لابد منه.
أولت الحركة طوال تاريخها إهتماما ملحوظا بقضايا النساء وهى أكثر خبرة بقضايا المرأة الريفية، لكننا لا نزال نحتاج لتطوير برامجنا لمخاطبة قضايا النساء فى المدن ومراجعة تجربتنا حينما وصلنا الى الحكم وما قمنا به لإنصافهن. علينا أن نضع برنامجاً واضحاً منحازاً للنساء والوقوف بوضوح ضد القوانيين واستخدام الإسلام السياسى للدين بطريقة ممنهجة ومدروسة لإضطهادهن.
ثمثل قضايا المرأة لبنة أساسية لازمة لبناء حركتنا ولبناء الكتلة التاريخية، فالنساء أكثر الفئات المتضررة من المجتمع القديم، وقد أظهرت تجارب الحرب إن النساء لعبن دورا رئيسياً فى صمود الحركة وجيشها، ودفعن كلفة باهظة فى كل الحروب التى جرت فى مناطق الهامش.
تقوم نظرتنا على إن انصاف النساء فى تنظيمنا هو المقدمة الطبيعية لأنصافهن فى المجتمع العريض وعلينا أن نقدم نموذجاً جديداً ومغايراً فى قضايا المرأة وتحريرها، فلن نصل الى تحرير المجتمع مالم يتم تحرير النساء.
الطلاب
تمكن الطلاب السودانيون بشجاعة من إعلاء رأية الحركة فى الجامعات والمعاهد العليا مستخدمين العمل السلمي، وتضحياتهم محفّزة وتجربتهم ثرّة لنقلها الى جميع الفئات الإجتماعية الأخرى. تلك التجربة الثرّة يجب أن تنفتح على كل الطلاب من جميع القوميات والإثنيات وكذلك على المراحل الدنيا من مؤسسات التعليم. وتحتاج الحركة أن تولى عملها فى وسط الطلاب أهمية فائقة فهم يشكلون قوى حاسمة فى بناء حركة جماهيرية وفى التأثير على المجتمع العريض بجانب أنهم فئة تقدمية قابلة لإستيعاب الجديد وتوظيفه، ويمتلكون مهارات متنوعة يمكن توظيفها لخدمة أجندة التغيير.
قدمت الحركة الطلابية السودانية المعارضة تضحيات كبيرة فى مقاومة النظام، ولم تستسلم طوال الثماني وعشرين عاماً الماضية. للحركة أرث طويل فى حركة الطلبة التى رفدتها بقيادات كثيرة على مدى سنوات الكفاح المسلح. للطلاب طاقة جبارة يمكن توظيفها لبناء حركة حقوق مدنية ديمقراطية فى مدن السودان المختلفة، وبناء ونقل حركتنا الى المدن سيلعب فيه الطلاب دوراً رئيسياً. ولذلك من الضرورى أن يجد النقاش لتجديد رؤية الحركة وآلياتها إهتماماً مبكراً وواسعاً فى أوساط الطلاب المنتمين للحركة أو المنتمين لغيرها. ولتمكين الطلاب من لعب دورهم الفعال فى عملية التغيير نحتاج لبذل المزيد من الجهد فى بناء حركتنا فى اوساطهم فهم بمختلف إتجاهاتهم الثورية ما بخلوا بالتضحيات فى سبيله وقدموا الشهيد تلو الشهيد لإنجازه.
الشباب
إجترحت حركات الشباب السودانية أشكالاً عديدةً ومتنوعةً ضد حكم الإنقاذ، أخرها تجربة العصيان المدنى. ظلت الحركة ذات صلة مباشرة بحركات الشباب وأولت إهتماما كبير بهذه الحركة الناهضة. لقد تعرض الشباب السودانى الى موجات قمع واسعة، واستخدم كوقود لحروب الإسلام السياسى وسُدت أمامهم آفاق الحياة الإنسانية اللائقة وتُركوا فريسة للعطالة والحرمان من الخدمات، وفرض عليهم فى مختلف جوانب الحياة برنامج سياسي متخلف لا صلة له بالعصر وتم عزلهم عن حركة التقدم والعلم والعالم من حولنا.
واليوم، يشكل الشباب أوسع شريحة ذات طاقة فى التغيير فمن الصعب إنجاز التغيير بدونهم أو المراهنة على المستقبل دون مشاركتهم ولذا فإن الإهتمام بهذه الشريحة التى تحمل مشاعل التغيير هى قضية من قضايانا المقدّمة لبناء حركتنا واحداث التغيير.
وسائل وأشكال جديدة للبناء والتنظيم
تحتاج الحركة بشكلها الجديد أن تستخدم أشكال متنوعة وجديدة للبناء ووسائل وادوات حديثة لا سيما إننا ندخل عصر البرمجيات الجديدة. وعلى الحركة ان تتجه بشكل أكثر فاعلية لإستخدام الوسائل الناعمة والى جماهير المدن وبالذات الى الشباب والنساء والطلاب والمثقفين، وان تنوع القضايا التى تهتم بها وان تربط بين وجودها التأريخي فى الريف وتَقَدمها نحو المدن وأن تطرح القضايا الجديدة مثل قضايا البيئة ونحن نحتاج فى ذلك:-
 تقوم الأجهزة القيادية للحركة على الإنتخاب وتحديد مدد بعينها لشاغليها وان تكون المؤتمرات واجتماعات الأجهزة القيادية ثابتة، وان نعلى من القدرات الإدارية فى المتابعة والمحاسبة على التنفيذ وان نرسى مناهج العمل الجماعى.
 الديمقراطية الداخلية يجب ان تتعمق وان نرسى تقاليدها فى بيئة تمكنها ان تنمو وتزدهر.
 إستخدام أدوات وبرمجيات التكنولوجيا الحديثة لحل قضايا العمل القيادى والتواصل بين القواعد والقاعدة وإتاحة فرص المساهمة للجميع والوصول لقرارات التنظيم عبر حوار داخلى يقبل بالمساهمات.
 بناء قوة إقتصادية وإستثمارية بمختلف الأشكال تتيح للتنظيم ان يتصدى لكثير من مهام العمل المطروحة امامه، والتجارب أمامنا ماثلة وعلينا إختيار أفضلها مع المحاسبة والتصدى للفساد فى القضايا التى تخص التنظيم والتطوير المستمر للموارد.
 تدريب الكادر وبناء القدرات وتوارث التجارب كقضية رئيسية ولاسيما لفئات الشباب والنساء والطلاب
والموارد البشرية والمادية هى التى تخلق تنظيم ذو أثر.
 الإعلام يظل قضية رئييسية لتوصيل رؤيتنا وبرنامجنا وتفاعلنا مع الجماهير وجذب أكبر قطاعات للتغيير والتصدي لخصومنا ونحن فى حاجة لدراسة تجاربنا السابقة فى هذا المجال.
 العمل السياسي يجب أن يقوم على فوائد ملموسة للمجتمع الذى تعمل فية المنظمة السياسية ويقدم خدمات وإصلاحات للمجتمع المعنى بداية من الإهتمام بإصلاح البيئة وبالمنظمات التعاونية والعون الصحى والقانونى والمشاركة فى تقديم الخدمات للفقراء وإعانة الفئات الأكثر حرمانا والدفع بقضايا الإستنارة وبرؤيتنا فى مختلف المنابر الثقافية وإحياء والتبشير بقيم الخير .
 التصدي للعنصرية ومفاهيمها ودراسة تأريخها وخلق مناخ ثقافى وبيئة صالحة للقبول المشترك.
 يجب أن نولى ذلك أهمية لتطوير تنظيمنا والمضى بذلك للتبشير بخلق مجتمع جديد من أحشاء المجتمع القديم.
 تجديد الحركة الشعبية مع قوى أخرى يحتاج ان نتعامل مع تلك القوى على قدم المساواة والقبول بصيغة ديمقراطية دون هيمنة اى من الأطراف، و أن نستطيع الإجابة على الاسئلة والمهام التى لم يستطع اى من المكونات السابقة الإجابة عليها على نحو مشترك وجماعي.
 المنظومة الجديدة تحتاج الى مرونة وسعة افق لإنجازها مع الآخرين.
 إننا نحتاج ان نتحول الى قوى قادرة على المنافسة الديمقراطية وان نصل إلى السلطة عبر صناديق الإنتخابات وان نحتكم الى الشعب وليس عبر اى شكل من أشكال المغامرات والإنقلابات التى جربتها قوى غيرنا والعاقل من يتعظ بتجارب الآخرين.
الإنفتاح على قوى الإستنارة والتقدم
ما نريد هو بناء تنظيم عضوى بين مهمشى المدينة والريف وفق رؤية السودان الجديد المنفتحة على كل قوى الإستنارة والتقدم. نريد بناء منظمة تنهل من أرث فكرى متقدم ومتفاعلة مع القوى المستنيرة فى مجتمعنا وفى ذلك لدينا مناقشات حيوية وتفاكر مع عدد من القوى الديمقراطية وقوى السودان الجديد. تنظيمياً نحن على إستعداد للإندماج فى تنظيم موحد مع هذه القوى لخلق حركة تَحرّرية للسودان الجديد، وتجربتنا فى الإنتقال الى مرحلة جديدة واحد من مهامها الإنفتاح على هذه القوى فى تفاعل مشترك وسنعمل لخلق تنظيم واحد مع الذين هم على إستعداد لخوض هذه التجربة . وجزء من مهام التجديد التنظيمي هو الإنفتاح على هذه القوى تنظيمياً دون شروطٍ أو تعالٍ.
الكتلة التأريخية وشكلها التنظيمى
ليس لدينا سيناريو مكتوب لبناء الكتلة التاريخية، ويعتمد بنائها على عوامل كثيرة وعلى الصراع السياسى الدائر الآن وفى المستقبل. كما أنها تعتمد على عملية البناء والتجديد التى نمر بها وعلى التحالفات التى بإمكاننا القيام بها مع فئات وقوى إجتماعية جديدة ومع كل الراغبين فى سودان جديد. وهذه مهمة إستراتيجية لا يمكن إنجازها بتجميع الراغبين فى السودان الجديد او الإندماج مع تنظيمات ديمقراطية تناضل من أجله، فالكتلة التاريخية مهمة أوسع وأكبر من هذه العملية السياسية المحدودة، وهنالك قوى واسعة فى المجتمع المدنى، ومن المهنيين والعمال والمزارعين و الرعاة والنساء والشباب والطلاب والإتحادات والنقابات والتجمعات الأهلية التقدمية وغيرها، ستكون من ضمنها. وبنائها يعتمد على نتائج الصراع السياسي الواسع الذى تقوم به قوى السودان الجديد وإمكانياتها للإستجابة لمصالح إجتماعية واسعة فى داخل مجتمعنا. لقد أقعد غياب الكتلة التاريخية حركات الهامش وأدى الى إنفصال الجنوب، ولذلك فإن الوصول اليها يعتمد فى إنحيازنا لمصالح قوى إجتماعية عريضة متضررة من الأنظمة التى حكمت السودان وأدت نتائج حكمها الى ما نحن عليه الآن وهى مهمة معقدة وتحتاج الى كثير من التضحيات ولن تتم دون مواجهة حقيقية مع مركز السلطة والمستفيدين منه.
عمل أجهزة الأمن ومهام البناء التنظيمى
صنع نظام الإنقاذ أجهزة أمنية عديدة لتخريب الحياة السياسية والإجتماعية كجزء من آليات السيطرة على السياسة والمجتمع، وقد تحول عمل هذه الأجهزة لشدة رسوخه على مدى ثلاث عقود الى ثقافة فرعية راسخة فى الحقل السياسي والإجتماعي. ستصطدم محاولات بناء حركة حقوق مدنية وديمقراطية فى المدن بممارسات الأجهزة الأمنية والإسلام السياسى ومحاولات التخريب، ولدينا تجارب سابقة، وعلينا دراسة كيفية تفادى التخريب الذى طال البنية السياسية والإجتماعية وكيفية بناء منظمة لا تصل أجهزة الأمن الى نواتها الصلبة وهى قضية مهمة أهمية المشروع الذى نطرحه.
ظاهرة الإنشقاقات
بعد ثلاث عقود من تحّكم النظام فإن الإنقسامات الأثنية والجغرافية والإجتماعية تعصف بمجتمعنا وبكافة القوى السياسية، ويكرّس النظام هذه الظاهرة كجزء من آليات السيطرة. كما أن الحروب الطويلة وافقار الريف والمدن أدت الى إنقسام فى الوجدان الوطني والإجتماعي والسياسي، وعملية البناء التى ننشدها ستواجه كل ذلك. وبناء منظمة من تنوع مجتمعنا وقومياته وثقافاته ومصالحه التى تبدو أحياناً متضاربة يحتاج لرؤية وبرنامج يجيب على الأسئلة التى تولد التناقضات، ويعزز العلاقات بين أصحاب المصالح المكونة لهذه المنظمة، ويحتاج لترسيخ القيم والمبادئ وبناء القدرات والتدريب السياسي والوضوح الفكرى لاسيما على مستوى القيادة.
الخط التنظيمى الثورى
إنشاء منظمة ثورية يحتاج لوسائل وأدوات عمل تنظيمية ثورية حتى تضمن المنظمة نموها وبقائها وتطورها وحمايتها لمصالح جماهيرها، وهو الذى سيحمى هذه المنظمة من عاديات وتعديات الأنظمة الحاكمة.
الخاتمة : قرنق والسباحة فى بحر من المتناقضات
فى ختام هذه المساهمة أود ان أهديها الى زعيمنا وقائدنا وصديقنا وآخانا الكبير الدكتور جون قرنق دى مبيور، وأن نشكره على تلك السنوات الزاهرات المضيئات التى أمضيناها معاً، ولحسن قيادته وقوة شكيمته وعصيانه على الإنكسار، وقدرته الفذة فى تحويل الكارثة الى منفعة، والسباحة فى بحر من المتناقضات المعاصرة والتاريخية و الداخلية والخارجية، وتناقضات الجغرافيا والثقافة والإثنيات، وتصميمه على العبور الى الضفة الأخرى؛ الى وحدة السودان وإفريقيا، رغم بعد المسافة ووحشة الطريق.
مستلهمين روحه الوثّابة وقدراته الفذة كمقاتل عنيد من أجل الحرية، ها نحن نعود مرة أخرى اليه، الى رؤية السودان الجديد فى ظل متغيرات وطنية وإقليمية وعالمية واسعة وعلى رأسها أن السودان نفسه لم يعد بلداً واحداً. نعود اليه ونحن نعلم أن بعض أخطاء اليوم ترجع فى بعض جوانبها الى أيامه. ولكننا ندرك إدراك الحاضرين والمشاركين فى التجربة، والتى نتحمل معه أخطائها قبل إيجابياتها الكثيرة، وندرك أيضاً أنه لو كان بيننا اليوم لما توانى أو تردد فى طرح المعالجات بعقلية نقدية. فعندما وضع رجله فى الساحة الخضراء كانت تلك لحظة فارقة وكان على أبوب الإنتقال الى مرحلة جديدة ، وقد كان أكبر من أن يحتمله خصومه.
ونقول لخصومه إن قرنق لو عاد اليوم لما ترددنا للإنضام لصفوفه مرة أخرى.
إن الرجوع لرؤية قرنق نقطة صلبة لإلتقاء الشمال والجنوب مجدداً، فتحت رؤية قرنق وقيادته إجتمع الجنوبيين والشماليين؛ فهو السياسي السوداني الوحيد الذى يحظى اليوم بالإحتفاء فى ضفتى السودان.
علينا أن نأخذ من قرنق قدرته وبراعته فى تحويل الكارثة الى منفعة، وقديماً قال الثورى والقائد الفذ محمد أحمد المهدي: "إن المزايا فى طئ البلايا والمنن فى طئ المحن"، وهى مقولة تحمل سمات الجدل الثورى من ثائر غيّر المركز.
وفى الختام، فبعد عقودٍ من الممارسة الطويلة للحركة فإن البعض إتسمت نظرته بالجمود والسلفية السياسية، ولم ينظر للتجربة بعين فاحصة وناقدة، لكننا عازمون على الدفع فى طريق التجديد بكل قوتنا، وعازمون على بناء نموذجاً مغايراً يتجاوز القديم حتى الذى صنعناه بأنفسنا.
في كل الاوقات، حينما نعالج القضايا الكبرى علينا الرجوع الى الجماهير فإن إجاباتها دائما حاضرة.
قد تطول رحلتنا، لكن ثقتنا فى شعبنا لا حدود لها
انتهى
ياسر سعيد عرمان
20 سبتمبر 2017
————-
1- الشهيد والقائد والمفكر الثورى أملكار كابرال (1924 -1973)
2- ذات المصدر
3- ياسر عرمان ، جريدة التيار السودانية، يوليو2017


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.