التفكير الاستراتيجي ورؤية الصورة في كليتها ما ينقص ساستنا ومفكرينا. وقطعاً هذا الخلل يشمل النخب في الثقافتين العربية والإسلامية ولا تنفرد به حصرياً نخبنا السودانية دون العالمين. ولذا يغلب الطابع التكتيكي على طرحنا الفكري، وفي تحليلاتنا لمشكلاتنا وأزماتنا، وكأنما فكرنا يقتات "رزق اليوم باليوم"، ويتحرك برد الفعل. وهذا عقل يمارس نوعاً من الحصار الذاتي. عقل لا يملك القدرة على الحركة الذاتية، ينتظر ما يحركه من خارجه. يظل خاملاً، ساكناً في حالة أقرب للموات إذا لم يجد مهمازاً "ينخسه" ليتحرك. فهو لا يملك الإرادة ولا الشجاعة التي تدفعه للمبادرة والمغامرة والإبداع. (2) أنظر الآن إلى ما نحن مستغرقون فيه من جدال وهرج حول قضية التطبيع مع دولة إسرائيل، تجدها وقد أغرقتنا في طوفان جرفنا بعيداً عن قضايانا الجوهرية، وعن الأهداف التي من أجلها ثار الشباب ولم يبخلوا بدمهم من أجل تحقيقها. وما التطبيع سوى قطعة للإلهاء رمتها في طريقنا القوى التي لا علاقة لها بالثورة وأهدافها لنا. التقطناها كالأطفال من قارعة الطريق مهللين، وكأنها غاية همومنا، وانصرفنا إليها جدالاً محموماً ما بين مؤيد ومعارض. جعلناها قضية قضايانا، وانقسمنا حولها، ولم نضعها في مكانها اللائق والمنطقي في سياق أهداف ثورتنا الاستراتيجية. - فمن عارضوها – عروبيون وإسلامويون – دفعوا معارضتهم لها بأسباب دينية وقومية عاطفية زائفة، مموهة بطلاء أخلاقي برَّاق، ولأسباب أيديولوجية هلامية سموها "مبدئية سياسية". - وأما من أيدها بين الأحزاب، أو في السلطة بشقيها السيادي والتنفيذي، فقد فعلوا ذلك تحت اسم "المصلحة الاقتصادية" الفضفاض، وبالتركيز عليها، بعد فصلها وعزلها عن المصالح الوطنية الأخرى. وعن النتائج والآثار المترتبة جرَّاء ذلك على الأهداف الاستراتيجية العليا للثورة . وما يدلك على غربة هؤلاء الناس عن الثورة، تغييبهم للشعارات التي دفع شعبهم دمه من أجل تحقيقها. ولا يسعك سوى التخمين بأنهم، وبينما الشوارع تغلي كانت بالهتافات والزغاريد ورجع صداها الرصاص والغاز والهراوات لتحقيق الحلم بوطن جديد. كانت في تلك اللحظات أعين هؤلاء الساسة يقظى تحدق مصوبة بتركيز على مقاعد الحكم والسلطة والمال والنفوذ. شاركوا الناس الهتاف والنشيد ... ولم يشاركوهم الحلم. وها ترى الآن لسان حال الثوار يقول: "لكم حلمكم وليَّ حلم". فالساسة والنخب الآن في وادٍ (غير ذي زرعٍ بالمناسبة). والثوار في وادٍ آخر. وهذا الجدل العقيم لا يعني الثوار في شيء. وإلا فليخبرنا أهل العلم هل دعت لجان الأحياء لمسيرات مع التطبيع أو ضده؟. وهل خرجت سوى مسيرات فلول الأحزاب ؟!. ليس التطبيع أو عدم التطبيع هو قضية قضايانا. ولكنه "العقل المسكين" الذي يشحذ مواقفه رزق اليوم باليوم هو ما يجعله كذلك، طالما ألقاه له "الآخر المطبِّع" ليقتات عليه. وتغيب عن أذهان الغائبين أسئلة تكشف غيابهم عن الشارع وغربتهم عن أهداف الثورة والثوار، أسئلة مثل: - هل كان خروج الشباب من الجنسين للثورة على نظام الكيزان بسبب الجوع، حتى يكون التطبيع مع إسرائيل بطاقة التموين لنشبع؟. - هل خرجت الجموع للثورة لأن نظام الكيزان كان مقصِّراً في حق فلسطين ولم يقم بما يلزم لتحرير الأرض المحتلة وإعادة اللاجئين، لنعيد السودان إلى موقعه القومي المطلوب ضد التطبيع كدولة مواجهة ضد "دويلة الكيان الغاصب !" ؟!. إ - أم أننا خرجنا لأن أمريكا حاصرتنا اقتصادياً بسبب "دورنا المؤثر" في الحرب على إسرائيل، لنستحق "صك الغفران" الأمريكي بالتطبيع ويُفَك عنَّا الحصار؟. لا شيء من كل أولئك كان سبب خروج الناس على حكم العصابة الإسلاموية الفاجرة الداعرة. ولكنه حوَّل البصر الفكري وعتم الرؤية الضيِّقة الغبشاء، جعل من التطبيع قضية قضايانا، في دولة لم تكمل دولنة كيانها بعد، وبالكاد تستحق هذه الصفة. (3) العقل السياسي عندنا يعاني من مشكلة مزمنة تجعله يفصل بين الشعار والمفهوم. وذلك بتفريغ الشعار من مضمونه المفاهيمي العملي. وإقامة جدار حديدي بينهما لم يبلغ هذا العقل النضج بعد، ليتبيَّن الرابط العضوي الذي يفرض عليه، أو يدفعه لترجمة الشعار على أرض الواقع. فهو عقل اعتاد رفع الشعارات مكتوبة على لوحات الأقمشة، وهتافات تلوِّح بها قبضات المتظاهرين في مسيراتهم، وتغنيها في الأناشيد الحماسية. أما ترجمتها في خطط وبرامج عمل واقعية قابلة للتطبيق، لتحقيق التغيير المطلوب فلا يخطر لهم ببال. وإلا، فما هو أول شعارات الثورة، أليس هو: الحرية؟. يمكنك بالطبع أن تسأل معترضاً على هذا السؤال: ما الذي يدعوك لطرح هذا السؤال في ما أنت بصدد مناقشته هنا الآن؟. ما علاقة التطبيع بتحقيق مبدأ الحرية كمفتاح لتحقيق أهداف الثورة؟. تسأل هذا السؤال، ولن تعدم بين النخب إياها من يفتيك بأن التطبيع سيطلق أسر اقتصادنا من الحصار بإسقاط العقوبات، وبالتالي سينطلق قطار التنمية، وتمطرنا الاستثمارات الأجنبية ذهباً "وقمحاً ووعداً وتمني"، فنتحرر من الفاقة والجوع. سيقول لك هذا، ولكنه سيكون كاذب محتال إذا قال لك: أن هذا سيكون مجاناً وبلا ثمن مقابل. العقل التكتيكي الذي يقتاد رزق اليوم باليوم حين يطرح قضية التطبيع بمثل هذه الخفة والاستهتار فإنه يخادع نفسه ويعرِّض مصيره لخطر وجودي مؤكد. قصد ذلك أم لم يقصد. ففي العلاقات بين الدول، كما هو الحال في المعاملات التجارية. حين يعرض التاجر، أو حتى الشخص العادي – الذي يحتاج ل"لكاش" – سلعته، مهما بلغت قيمتها في السوق فإنه، لاضطراره، سيبيعها مكسورة(1). أي بأقل من سعرها الفعلي. أي يبيعها بالخسارة. كذلك في حالة تطبيع علاقتنا مع إسرائيل وفق الشروط الأمريكية من ناحية، ووفق الأسباب التي يبرر بها جماعتنا اضطرارهم له. فإنه سيكون تطبيعاً بالكسر. ما يعني إننا سنطبع بالخسارة. ومثلما يمكنك أن تسأل البائع ناصحاً: لماذا لا تحتفظ بسلعتك في الخزنة وتبحث عن حل آخر لمشكلتك؟. كذلك تستطيع أن تسأل الحكومة: لماذا لا تجربون حلولاً أخرى لحل المشكلة الاقتصادية، بدل التطبيع بالخسارة؟. تسألهم ناصحاً، وفي وعيك ما يعرفه العالم ويشهد من إمكانات الموارد السودانية المتعددة والمتنوعة. التطبيع تحت ضغط الحاجة الآنية أو بدافع الخوف ليس تطبيعاً حقيقياً ومنطقيَّاً بين إرادتين حرتين. وبالتالي، وبما أنه تحت الضغط، فلا بد من الخسارة فيه. (4) والسؤال هنا: ما الذي ستخسره الدولة، ليس من التطبيع وحده، بل ومن المكاسب التي يمكن تحقيقها من التطبيع؟. ما ستخسره الدولة هو: حرية قرارها واستقلاله. لأن الدولة الواقعة تحت ضغط الحاجة الآنية بالاستجابة لتطبيع علاقتها بدولة تملك مفتاح حل المشاكل التي تعاني منها، سترهن إرادتها وحرية قرارها لها. وهي ستطبِّع علاقتها مكرهة مقابل أن تخرج من "ذنقتها" الآنية. بكلمة أكثر صراحة ووضوحاً تخسر حريتها. وهذا أول خرق مناقض لمبدأ الحرية الذي رفعته الثورة شعاراً. إذ لا يمكن لدولة رهنت قرارها لدولة أخرى، تحت أي ذريعة، أن تكون حرة بأي معنى من المعاني. وأخطر من ذلك: أن حكومة هذه الدولة اللاحرة لا يمكن أن تمنح حرية الإرادة لشعبها، أو تقبل بالديمقراطية نظاماً لحكمها. ففاقد الشيء لا يعطيه. ولا يمكن لنظام طالما ارتضى لدولته أن تكون "تابعة" بلا إرادة، أن يقبل الحرية لشعبه. فالمستعبد لا يمنح الحرية لغيرة. بل من العكس تماماً. إن العبد المملوك يكون أشد قسوة وقهراً وإذلالاً وتسلطاً على من هو دونه في تراتبية الاستعباد. ولا تزال ماثلة في ذاكرة التاريخ قصة حكم الرقيق/ المماليك في مصر والمآسي التي خلفها، ولا تزال بعض آثارها، بشهادة بعض المؤرخين والمفكرين، باقية معاصرة، تمارس تأثيرها وتلقي بظلالها في الحياة السياسية والاجتماعية في الحياة المصرية إلى اليوم. لقد كان أول من استقل بحكم مصر من الرقيق أحمد بن طولون الذي انشق عن الخليفة العباسي في سنة 868 م. ويرجع بعض المؤرخين حكم المماليك بمصر إلى ما قبل هذا التاريخ، وتوالوا مذاك على حكم مصر، على نحو أو آخر حتى الملك فاروق الذي أطاح بملكيته انقلاب يوليو 1962. يقول نبيل هلال: " كان المماليك في المجتمع المصري يمثلون القوة والسلطة، ومارسوا قهر المصريين، ونهبهم، وألحقوا بهم أشد صنوف الاستبداد قسوة، مما أفرز – بالضرورة – خوف المصريين من السلطة وكل ما يتعلق بالسلطان والعسكر والحاكم، وكان المماليك في البدء عسكر الوالي وجند السلطان، ثم أصبحوا فيما بعد السلاطين والحكام، وترسخ وجودهم في نسيج المجتمع المصري، وأصبح تراثهم – تراث العبيد – أحد المكونات الأساسية، إلى جانب مكونات أخرى، في الضمير المصري. ولم يكن غريباً عندئذ أن تصاب هذه الشخصية بالسلبية السياسية المزمنة، بعد أن اعتادت أن يسوسها الغير، وبعد أن تعرضت لمعاول القهر والاستبداد"(2). نعود إلى ما كنا عليه خيار تنازل الحكومة عن حرية واستقلالية قرار الدولة مقابل ما ستكسبه سواء خوفاً أو طمعاً في حل ضائقتها الاقتصادية، لنسأل: هل لخيار التنازل عن الحرية (حرية الدولة) هذا مستقبل؟. والإجابة: نعم له مستقبل، ولكن ليس بيده. إنه لن يستطيع صنع مستقبله، لأنه قام بتسليم مفتاح صنع المستقبل لغيره. فما هو نوع تطبيع العلاقات مع إسرائيل الذي يراد له أن يكون مع السودان؟. مصادر وهوامش * paradigm برادغيم: في القواميس العربية المعاصرة تكتب بارادايم، هو مصطلح يوناني، يعني: "النمط أو النموذج الفكري"، ويتصف بصفات عدة، ربما أهمها أنه "الصندوق" الذي يحتوي على الخبرات والقواعد، والثقافة بما فيها من معارف، التي تؤدي إلى تكوين قالب ذهني، يتحكم، بشكل مباشر أو غير مباشر، بتواصلنا مع العالم المحيط بنا، وتقييمنا لما يحدث في هذا العالم، على ضوء ما نعتقده ونؤمن به من أفكار مُسبقة مكتسبة. ويستعمل غالباً مقروناً بالفكر مثل النموذج الفكري أو النموذج الإدراكي أو الإطار النظري. وقد ظهرت هذه الكلمة منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين في اللغة الإنجليزية بمفهوم جديد ليشير إلى أي نمط تفكير ضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة. (1) بيع الكسر مصطلح معروف في السوق الموازي كالدلالات وأسواق البدل والمقايضات، حيث تتحكم الحاجة للنقد "الكاش" في تحديد قيمة وسعر السلعة. (2) نبيل هلال هلال، الاستبداد ودوره في انحطاط المسلمين، الكرتوني، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، رقم الايداع بدار الكتب المصرية: 22408- 2004م، ص 9. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.