جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    مشار وكباشي يبحثان قضايا الاستقرار والسلام    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الأمم المتحدة: آلاف اللاجئين السودانيين مازالو يعبرون الحدود يومياً    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن نفاق العسكر وسطوة العسكرية!! .. بقلم: عبدالله مكاوي
نشر في سودانيل يوم 29 - 12 - 2020


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
درج القادة العسكريون علي ارسال التطمينات المجانية والوعود الزائفة، عند كل فرصة تتاح لهم، بعد ان توافرت لديهم عديد المنصات بحكم مناصبهم السيادية. وهذا الاسراف في الكذب البواح، من نوعية، نحن مع الثورة، ولسنا طامعين في السلطة، وغايتنا فقط حماية مصالح البلاد. اصبح يصيب الثوار بالتقزز والاحتقار للعسكر! لان الكذب المشهود يدلل علي النفاق، وتاليا يتخطي الطمع في السلطة، الي الانحطاط بالمصداقية اسفل سافلين. وما يجعل اقوال امثال البرهان وياسر العطا والكباشي وحميدتي، وغيرهم من القادة الاقل شانا وقيمة امثال عبدالخالق، تثير الغثيان من شدة ابتذالها، ان الفرصة التاريخية لاثبات حسن نواياهم وصدق وطنيتهم ومدي شجاعتهم، قد اتتهم في مكانهم تجرجر اذيالها، بعد ان قدمها لهم اشجع وانبل من انجبت هذه البلاد. وبدلا عن رد الجميل بمثله، كان الرد كم هائل ومؤلم من الجبن والخسة والنذالة والعار! ولذا منذ لحظة فض اعتصام القيادة، بتلك الطريقة الهمجية الدموية الغادرة، تم الختم نهائيا علي عدم مصداقية ووطنية هؤلاء القادة (الغير قادة)! وهي وصمة من الشنار بمكان، بحيث ليس هنالك مساحة لمحوها، او التسامح حيالها، إلا بالتصرف كالقادة الشجعان، عبر التنحي فورا عن مناصبهم، وتقديم انفسهم طوعا للعدالة، قبل القتلة الآخرين. وعليه، كل ما ترتب علي اوضاع ما بعد فض الاعتصام، يندرج في خانة حكم الامر الواقع! وهو حكم لا تسنده شرعية حقيقية، ولا تتوافر في ظله عدالة من اي نوع، بقدر ما تحكمه موازين القوي، ومخاطر تفكك الدولة، والدخول في دوامة الحروب الاهلية المهلكة.
ولكن السؤال اين تكمن العلة في هذه العلاقة المعتلة، بين العسكر والمدنيين، رغم انهم نظريا ينتميان لذات الدولة؟ وحقيقة هو سؤال شائك، وقد تتعدد وتتضارب اجوبته، او تتفاوت في مدي مقاربتها لاصل العلة. ولكن من اوضح ملامح هذه العلة، تجسدها اشكالية ضبط المفاهيم والمسميات والمصطلحات والاهم الادوار والوظائف. فمثلا الدولة نفسها تتجاذبها تاويلات متضاربة تعبر عن مصالح المتصارعين، وهو ما ينسحب علي السلطة المتحكمة فيها. ولذلك اصبح هنالك تشويش خطير في معني الوطنية، الذي يبيح التصرفات المعبرة عن المصالح العامة وحدودها. فالسلطة المسيطرة وطريقة واساليب سيطرتها، تضع مفاهيم وحدود للوطنية تتطابق مع مصالحها حصريا، وويل لمن يخالف ذلك! وبما ان هذه المفاهيم والحدود من الضيق بمكان، فهذا ما يبيح لقوي معارضة للسلطة، منطقها الخاص للتفسير والتعبير. وباختصار، في غياب اجماع او اتفاق عموم المواطنين، علي نوعية الدولة وطبيعة السلطة، فليس هنالك مكان للحديث عن مؤسسات او اجهزة تتطابق مع وظيفتها، ولا كذلك مكان للحديث عن الحيادية او العدالة او الحقوق، ناهيك عن سلامة القيم والمعايير. وعليه، تصبح طبيعة العلاقة بين المكونات طابعها السيطرة والتغول من قبل الجانب الاقوي، والظلم والاذلال علي الجانب الاضعف. والحال هذه، لا معني لوجود دساتير، غض النظر عن شمولها وجودة صياغتها، لان المرجعية مضروبة او منزوعة القيمة! ولا لاحاديث منمقة ووعود براقة، تسعي جميعا لاخفاء العطب البنيوي لاختلال العلاقة! وهو ما تفضحه الوقائع والافعال الفعلية علي ارض الواقع. ولذلك الثورات ليست اكثر من رد علي تلك الاختلالات، ورغبة في اعادة ترتيب الاوضاع الي طبيعتها والعلاقات الي توازناتها. وبالطبع، اجهاض الثورات ليس اكثر من محاولة مستميتة لبقاء الاوضاع علي حالها، او صناعة علاقات جديدة اكثر اختلالا.
والحال، ان ما جعل الصراعات تفتقد لاي مرجعية. اي صراعات عبثية ليس لها اضافات وانما خسائر متواصلة (اما صراع من اجل الصراع، او صراع من اجل السلطة في مفهومها الامتيازي المجاني الضيق) هي ضبابية المرجعيات وعدم حسمها منذ الاستقلال! الشئ الذي مهد الطريق للتدخل العسكري، ليس كحل، ولكن كرد علي غياب الحلول! والمحبط، ان ما كان في السابق سهل الحسم يسير الضبط، اصبح مع مرور الزمن شديد التعذر، بعد تنازع السلطة، وصبغها بالعنف العسكري.
وعموما، اكبر معضلة واجهت الدولة السودانية، واعاقت دنامية تطورها بصورة طبيعية، هي المؤسسة العسكرية. فعقيدة هذه المؤسسة (اذا كانت لها عقيدة اصلا) يشوبها الالتباس، او عدم تحديد دورها في البلاد، وموقفها من السلطة. وقد اشار البعض وهو صادق في ذلك، لتاريخ هذه المؤسسة و دورها منذ الاحتلال الانجليزي، وهو الانحياز للسلطة الحاكمة غض النظر عن شرعيتها، ولكن في الغالب الاعم هي من تجهض الشرعية، بحجج واهية، وتحل محلها كسلطة حاكمة. وهذا ما يبيح القول ان القوات المسلحة مرجعية لذاتها، ولذا فهي من جهة، تتعالي علي النقد والاعتراض، ومن جهة، تسفه خيارات ورغبات المدنيين! اي تتمتع بقدر غير قليل من التعظيم والقداسة في نظر منتسبيها، وتصر ان تعمم هذه النظرة علي الآخرين! وفي هذا السياق، تُختصر تضحياتها في هذا النطاق.
وصحيح، ان الجنرال عبود استلم السلطة بصورة طوعية من السلطة المدنية. ولكن المؤكد ان هنالك رغبة مسبقة، او قابلية لاستلام السلطة والاستفراد بها من قبل العسكر! لانه لو كانت هنالك عقيدة عسكرية، تُحرم تورط العسكر في السلطة، بصورة حازمة، تُخرج من الملة العسكرية. لكانت هذه العقيدة مُلزمة بصورة بدهية، كحال الجيوش الاحترافية. ومن ثمَّ لرفض العسكر استلام السلطة مهما كانت المبررات، لتعارض ذلك مع عقيدة، هي نفسها سبب وجود هذه المؤسسة. والحال كذلك، بانتهاك هذه العقيدة، ينتفي مبرر وجودها، او تصبح اي شي غير كونها مؤسسة عسكرية احترافية. ومن ثمَّ اي سردية حول كونهم عساكر او جيوش من منصة غير عسكرية (سياسية سلطوية اقتصادية)، هي نوع من لغو الكلام او تزييف الوقائع وتزوير الحقائق.
والحال، ان مصيبتنا مع المؤسسة العسكرية، ليست في عدم وجود عقيدة، ولكن في ان العقيدة التي تعتنقها، هي عقيدة متوهمة، تعشش فقط في اذهان العساكر وجدران الكلية الحربية! بدليل ان مرجعية العقيدة، ليست متعالية علي المؤسسة العسكرية، ولكنها للمفارقة خاضعة لها، وبالاصح لكبار جنرالاتها! اي بصريح العبارة، عقيدة المؤسسة العسكرية تؤول الي إله عجوة، يتم التهامه متي ما جاع الجنرالات ( روادتهم شهوة السلطة)! وللاسف هو إله من الرخاوة والحلاوة بمكان، لدرجة ان التهامه كان القاعدة، والتزامه كان السراب. ولهذا السبب تحديدا كانت المؤسسة عرضة لاختراقات اليسار ومكر اليمين وطموحات كل معتوه.
وهنالك امر آخر، كان له اثر حاسم، في اضعاف مدنية الدولة. وهو ان القوات المسلحة هي حامية الدولة. وهذا ما جعل انحرافها، ذو تاثير كاسح في الذهاب برياح مدنية الدولة، سواء كمؤسسات او سلطة ديمقراطية او فصل بين السلطات. اي عندما تحولت احد مرتكزات الدولة الرئيسة، الي غول ابتلع الدولة، لدرجة اصبحت الدولة، وتاليا الوطنية تعرف بها حصريا! وما صعَّب من معالجة هذا الاعتقاد الباطل، ان المعالجة تحولت الي نوع من المؤامرات، التي تحكم العلاقة بين العسكر والمدنين، او بالاصح يعتقد العسكريون المهجسون ان المدنيين ينسجونها للايقاع بهم! المهم، هذا التضخم الذاتي لم يتوقف عند ابتلاع الدولة مؤسساتها، ومن ثمَّ اعادة انتاجها، لتعمل في خدمة قادة الانقلابات ومناصريهم من ارباب الايدولوجيات السياسية فقط. ولكنه تعداها لتجريف الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وصولا للاستهانة بكرامة وحياة الانسان السوداني! اي الحكم العسكري بمثابة الارض المحروقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بل وكليا. والنتيجة، أُصبنا منذ الاستقلال، بحالة تضخم العسكرة، وانحسار وظيفة الدولة وقيمة الانسان.
وما زاد الطين بلة، ان قادة المؤسسة العسكرية الانقلابيون، الذين يفتقرون للمواهب القيادية، ويؤمنون بالتحكم، عوضا عن الادارة، ومن اجل احكام السيطرة علي المدنين، لجأوا لتطعيم المؤسسة العسكرية الخاضعة لهم، بقوي امنية، تزداد توحشا مع زيادة طغيان وخوف الجنرال الانقلابي. ومع زيادة عزلة الجنرال الانقلابي، تزداد شكوكه وجنون عظمته، وعندها تتجلي مظاهر شخصنة الدولة وسحق المواطنين. والحال هذه، تتحول المؤسسسة العسكرية الي بندقية في يد الجنرال يوجهها انَّي اراد. وفي الغالب، تجاه الاعداء في الداخل، سواء كانوا حقيقيين او متوهمين. ولهذا السبب ولغيره، عملت المؤسسة العسكرية من خلال انقلاباتها المتكررة، علي رد الدولة الي فترة المهدية واعتقالها فيها! اي كسلطة حربية، تمتلك الدولة بوضع اليد، وتتصرف في مواردها كما تشاء! ومن دون وضع اي اعتبار لهشاشة الدولة وتباين مكوناتها! اي رفاهية السلطة مقدمة علي سلامة المجتمعات. وهذا ما جعل من السهولة بمكان، وراثة الدولة بواسطة قوات الدعم السريع، كحالة من التعايشية المستحدثة. وكان من اسباب تكريس هذه الردة (عن شوية حداثة تم اكتسابها بالعافية)، ان استولت علي المؤسسة العسكرية، التي حرمت المواطنين تاريخيا من دولتهم، جماعة اسلاموية عدمية، لها مرجعية حصرية، تتمحور حول الاستيلاء علي السلطة وتابيدها بكل الوسائل! وهذا ما جرد سلطتها من اي توجهات سياسية او اقتصادية او اجتماعية، ذات ابعاد انسانية! ولذلك عملت علي اعادة صياغة جذرية، لتعريف ووظيفة المؤسسة العسكرية، لتصبح اداة طيعة في خدمة اجندة ايديولوجية، بقدر ما هي عابرة للحدود، بقدر ما هي غارقة في الاوهام والنرجسية. وبما ان البنية المؤسسة لهذه الايدولوجية، هي في الاصل عنفية حربية، بسبب هاجس السيادة الذي يتحكم في دوافعها وسلوكياتها، ويلخص شعاراتها وتطلعاتها! كل ذلك ضاعف من عنف مؤسسة عسكرية، لا ينقصها العنف، تجاه المدنيين وحقوقهم في دولتهم. بعد ان زودتها بطاقات جهادية، نقلت معاركها من خانة السياسة القابلة للاخذ والرد، الي خانة القداسة التي لا تؤمن إلا بالنصر او الشهادة. اي تحولت الحرب من وسيلة الي غاية! والحال كذلك، بدل ان يؤنب القتل الضمير، اصبح الضمير مورد للقتل الجماعي، بعد ان انعشته اسواق الشهادة واستثمارات الجنان.
وعموما، هذه التحولات لم تكن بالشئ البسيط، بدلالة تحول عقيدة العسكر من تبرير حماية الفساد والاستبداد، الي عقيدة فاسدة تبيح مصادرة الدولة وقمع المواطنين المعترضين! ومن اسوأ آثار هذه الكوارث، التي سببها انحراف المؤسسة العسكرية عن مهامها الاساسية. انها لم تُزِح المدنيين عن الفضاء العام فحسب، وانما سمحت باستدخال قوات امنية ومليشاوية عليه، لدرجة انها اصبحت منافسة لها! وكل ذلك ضاعف من ازاحة المدانيين، عن الفضاء العام الي الاطراف القصية. وهذا ما جعل من عملية عودتهم او سيطرتهم علي الفضاء العام مرة اخري، مسألة ضعيفة احتماليا، بل وفي غاية التعقيد والخطورة عمليا. وتاليا همش دور السياسة ولغة السياسة، لصالح ثقافة الاستبداد ولغة الحكم العضوض. ليعيد ذلك فرض السؤال المصيري، الذي لازم الدولة السودانية كظلها، وهو كيفية رد السياسة للسياسيين والحماية للعسكريين (ما للسياسة للسياسة وما للعسكر للعسكر)؟ خاصة، وان تاريخ الدولة السودانية، هو تاريخ سيطرة العسكر، وتواطؤ بعض النخب الايديولوجية معهم! وما يجعل الكوميديا السوداء خير معبر عن احوالنا السياسية، ان ثورة سودانية عظيمة، شهد لها العالم بسلميتها وحضاريتها، في مواجهة نظام ارهابي عدمي. وبعد ان صمدت وانتصرت باعجوبة، تمَّ الاستيلاء عليها بواسطة القوات المسحلة والمليشيات المسلحة والحركات المسلحة! والحال كذلك، يبدو اننا نحتاج لما هو اكبر من الثورة، لاقناع القوي المسلحة الشرهة للسلطة، بالتخلي عما تعتقد انه ملكها، سواء بحكم الامر الواقع او الخلفية التاريخية العسكرية لهذه البلاد. اي وعي السلطة عسكريا كمسلمة لعملية الانقلاب، لا يفسح المجال إلا لحملة السلاح للوصول اليها. وهو ما يعني ان قفل المجال العام امام الحراك والنشاط المدني، لا يجرد السلطة فقط من مشروعيتها القائمة علي تداولها سلميا، ولكنه يجعل مرجعية الدولة تقوم علي حكم الغاب، اي رعاية الفوضي بدلا عن ضبط النظام! وكل ذلك يعني معادلة بسيطة في غاية البداهة، تفوت علي وعي العسكرية المفوت، وهو ان مزيد من العسكرة يعني المزيد من العنف وعدم الاستقرار. وهذا لوحده مبرر كافٍ للجم القوي العسكرية مدنيا.
المهم، استفادة الجماعة الاسلاموية، من حالة الانحراف المتاصلة، في هذه المؤسسة العسكرية. لتعمل ليس علي اعادة التاصيل لهذه المؤسسة فقط، ولكن عملت بمساعدتها علي اعادة صياغة كل فضاء الدولة، علي نموذج من الاوهام و الشعارات الفارغة، التي لا تغني شيئا عن صلابة الواقع وحقائقه واحتياجاته الموضوعية. اما المأساة التي انعكست علي المؤسسة العسكرية من شر اعمالها، فقد جسدتها بصورة فاضحة وجلية، الازاحة من الساحة العسكرية والتوغل بشراهة في المساحة الاقتصادية! لتتحصل علي الامتيازات المحروسة بقوة السلاح (عصابات منظمة)! وبصريح العبارة، انتقل كبار الجنرالات من الطبقة الوسطي المعنية بالتغيير، الي طبقة الملاك وكبار رجال الاعمال والمستثمرين، الحريصة علي بقاء الاوضاع كما هي (طبقة محافظة ضد التغيير). ولحراسة هذه الامتيازات، كان لابد من حسم اي صراع حول السلطة، لصالحهم وصالح شركاءهم الراسماليين. خصوصا، عندما نعلم ان طبيعة استثمارات الجنرالات ذات طبيعة ريعية، بحكم تكوينهم غير المنتج والشحيح الابداعية. وهذا بدوره ما يعتقلهم في خانة، الادوات التي يتم التحكُم بها، من قبل من هم اكثر خبرة ومعرفة ودراية، ليس بدنيا المال والاعمال فقط، ولكن الاخطر بفنون السلطة وادارة الدول.
وما يهمنا هنا، ان حالة تشوه الوعي وانحراف السلوك، يجسدها المجلس العسكري، ومن خلفه كبار الجنرالات ابناء التربية الاسلاموية. بل في الحقيقة، هذا المجلس بحالته الراهنة، يشكل نوع من التشوه المضاعف والانحراف المكعب! والسبب ان ما يحوزونه من رتب، لا يستوفون مستحقاتها، بعد ان تحصلوا عليها، كجزء من غنائم الدولة الفوضوية المستباحة التي صنعوها. والحال، ان فوضي الرتب والشهادات المزورة، لا تعمل بكفاءة، إلا في حالة غياب او تغييب المعايير المعتمدة. وعليه، تصبح حالة الطوارئ والاحوال غير الطبيعية، واجواء الازمات الحقيقية او المفتعلة، هي الوحيدة التي تسمح ببقاء وسيطرة هؤلاء! اي بقدر ما هم نتاج لازمات متراكمة، وحلول جذرية مؤجلة او معدومة، بقدر ما هم سبب لتعقيد ذات الازمات، واستحالة وصولها لحلول ومعالجات. ويا لها من متاهة مقلِقة ومغلَقة، ارتهنت لها الدولة المدنية، منذ ولوج العسكر ساحة السلطة. وكلما حاولت الثورات المدنية، شق طريق الخلاص وانارة النفق المظلم، بعد كفاح طويل وتضحيات جسام، تواجه بتجار الازمات من العسكر المؤدلجين، ليعملوا معاول الخراب في جسدها الغض.
المهم، هذا المجلس العسكري، مثَّل سدرة منتهاة الانحطاط والانحراف العسكري، عن كل ما تعودنا عليه، حتي من قبل العسكرية المنحرفة السابقة! وكأنه طور اساليب الانحراف ومدي الانحطاط! بدلالة ما حدث في ساحة الاعتصام (حرم العسكر) بدم بارد. لأن هكذا حدث اجرامي غادر، غير انه قطع خيط الاحترم والثقة في هذه المؤسسة (حتي اشعار آخر)! إلا انه اضاع فرصة ذهبية، اتيحت للامة السودانية، بعد رحلة عناء واذلال ويأس طويلة، وذلك ليس علي مستوي اعادة بناء الدولة المدنية الموعودة، ولا رعاية مصالح امة سحقت دون رحمة، ولكن علي مستوي المؤسسة العسكرية نفسها، لاعادة تاسيسها جذريا علي اسس، ترد الاعتبار لدورها المتعارف عليه في الدولة المدنية. وهو ما يسمح باعادة الحياة والحيوية والانضباط لها، كجزء من بناء متكامل للدولة. كما انه دور كان سيمنح منتسبيها كل احترام وتقدير كواجب وطني. اضافة الي انه كان سيقطع الطريق علي الشكوك التي تطال كل اقوال وافعال ونوايا جنرالات هذه المؤسسة المشبوهة (سوابق انقلابية في فايلها)! لانك عندما تستمرأ سلوك المسالك المنحرفة، وتعتاش علي لعب ادوار استبدادية في الدولة! فعلي المجتمع المدني عدم تصديقك او منحك ثقته، بل تدعوه الفطنة وتجارب الواقع وتاريخ المؤسسة، علي الاشتباه والشك في كل تصرفات ومواقف الجنرالات المنتمين لهذه المؤسسة المتعدية علي الحقوق والتطلعات المدنية (حتي يثبت العكس).
لكل ذلك، اي خطوة تخطوها هذه الجنرالات، وبما فيها قرارات خوض الحروب، او الجبن عن خوضها، فهي تخص هؤلاء الجنرالات حصريا، لانها تخدم مصالحهم الخاصة! مهما حاولوا تلبيسها شعارات الوطنية والبطولة والمسؤولية. لان هذه الشعارات مزيفة، طالما هي صادرة عن قادة مزيفون، يشغلون مناصبهم بحكم الامر الواقع (قسريا). وعليه، ليس هنالك سبيل لقطع الطريق، علي اختطاف القرارات المصيرية، بواسطة جنرالات الامر الواقع. وكذلك لرد الاعتبار للمؤسسة العسكرية، في المخيلة والوجدان الجمعي، إلا بالرجوع لمنصة التاسيس، والعمل جماعيا من اجل بناء الدولة المدنية والسلطات المنتخبة، التي تكون قيِّمة علي البلاد، وبما فيها القرارات الخاصة بالحروب. والحال كذلك، هي دولة مدنية تلتزم فيها المؤسسة العسكرية بدورها المنصوص عليه دستوريا، دون مزايدات او زيادة في الطموحات. عندها فقط يضرب تعظيم سلام لهذه المؤسسة ومنتسبيها. اما اي شئ غير ذلك، فهو ردة عن وظيفتها الاصلية، وهذا ما يفتح الباب امام سيناريوات المغامرات الفاشلة والتدهور المطرد للبلاد. الشئ الذي تترتب عليه اثمان غالية يدفعها الجميع، ومن ضمنهم المؤسسة العسكرية، كوظيفة وقيمة ومؤسسة اعتبارية. وللاسف هذا ملخص الدولة السودانية منذ الاستقلال، ولا يبدو في الافق ما يشير الي اخذ العظة والاعتبار.
وضمن هذا السياق الاخير، تجدر الاشارة الي ان المؤسسة العسكرية، رغم تاريخها الغادر بالدولة المدنية، وحرمانها حقها الطبيعي في النمو والتطور. إلا ان هنالك شريحة من الضباط الاكفاء الوطنيين الشرفاء، انتموا لهذه المؤسسة عن قناعة بدورها المهني الوطني. ولكن للاسف، كان عددهم دائما صغيرا، وضعيف الاثر، لارتباطه بالرتب الصغيرة. غير انه يحسب لهم، انهم كانوا دائما، عند حسن الظن بهم، وتاكد ذلك في سندهم ودعمهم للثورات المدنية. لدرجة انهم كانوا السبب الاساس في نجاح كل الثورات السودانية. عبر انحيازاتهم الكاملة، ومواقفهم البطولية الشجاعة، الداعمة لمطالب الثوار والقوي المدنية. رغم خطورة هذه المواقف علي وظائفهم، بل وحياتهم شخصيا. ومن هنا تستحق هذه الشريحة، نوط الشجاعة والجدارة والتقدير والاحترام. ولا اعتقد ان هنالك احترام يسمو علي احترام يمنحه الشعب طوعا لابطاله في كل المجالات، وعلي الاخص المجال العسكري.
وعموما، السلطة الشرعية المطلوبة آنيا، وفي ظل اوضاع الانتقال المتعثرة الراهنة! لا تمثلها حكومة العجز والفشل بقيادة (الافندي الاممي) حمدوك! ولا ما ينوي تكوينه هذا القيادي الفاشل من حكومة مرتقبة، تعبر قبل كل شئ، عن كنكشته في كرسي اكبر من حجمه! ولكن تكوين مجلس تشريعي منتخب من لجان المقاومة، يفتح المجال لمشاركة القوي الثورية الحقيقية، بدرجة تسمح بالتاثير علي القرارات التي تعبر عن شعارات الثورة. وبما ان هكذا مجلس يصعب تشكيله، بواسطة ذات الاجسام والآليات التي انتجت حكومة حمدوك (الهمبولية)، والمجلس السيادي، ذو المكون العسكري التغولي التنمري، علي شريكه حكومة حمدوك! ولذلك لابد من اجتراح وسائل واساليب عمل جديدة، تعيد التوازن، الذي يخدم قضايا الثورة، ومستقبل الدولة المدنية الديمقراطية. والحال، انه في ظل غياب هكذا مجلس/برلمان يعبر عن رغبة الشعب في التحكم بمصيره، وتحديد ما يناسبه من خيارات، سواء تعلقت بطبيعة الحكم او شكل الدولة. سنستمر في سماع التبريرات الفطيرة للفشل والعجز، من حكومة حمدوك (البطة الكسيحة)! ونغمات النفاق وتهديدات الاستفزاز من المكون العسكري! ولكن الاسوأ من ذلك، ان هذه الثورة المغدورة، ربما تكون آخر فرصة، لانقاذ دولة فاشلة يتهددها السقوط.
واخيرا
لن يستقيم ظل الدولة المدنية، وعودها العسكري اعوج. ودمتم في رعاية الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.