شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    المنتخب يتدرب وياسر مزمل ينضم للمعسكر    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة السودانية ما بين المجلس العسكري والمجلس الضرار؟ .. بقلم: عبدالله مكاوي
نشر في سودانيل يوم 11 - 12 - 2020


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الاتفاق مع المجلس العسكري لم يكن وليد قناعة لا بشخوص المجلس ولا مكوناته، لدي قطاعات واسعة من انصار الثورة. وذلك ببساطة لانه شكل ذراع العنف والارهاب الذي حمي البشير ورهطه الفاسدين طوال سنين. وما زاد الطين بلة، ما تعرض له جهاز الدولة بصفة عامة واجهزة الجيش والامن علي وجه الخصوص، من ادلجة تنظيمية، حرفت طبيعتها وعقيدتها من الحيادية وحماية الدولة، الي تشكيلات عصابية واساليب عمل مافيوية، تقوم علي الطاعة العمياء و تتغذي علي الفساد. والحال كذلك، تمت ازاحة الجمهور العام وحقوقه الي الهامش، بعد ان تركزت السلطة وملحقاتها في يد اوليغارشية وحشية جشعة، متعطشة للتسلط والنهب والقمع، عبر ادواتها العسكرية والامنية.
وبما ان الانقاذ سلفا قد اتت بصورة غير شرعية، فقد فرض عليها ذلك زيادة الانفاق علي المؤسسة العسكرية والاستثمار في الاجهزة الامنية، علي اعتبار شرط الحماية مقدم علي ما سواه. وعموما اي نظام غير شرعي هو عسكري او امني حتما. وهذا بالطبع ليس بالتفصيل البسيط، ولكن له تبعات علي طريقة ممارسة السلطة، بل وطبيعة السلطة ذاتها. وعلي العموم من افرازاته اسلوب الحكم العضوض، الذي يجعل لقيادة الاجهزة العسكرية والامنية درجة من النفوذ، تتاتي من وفرة الاموال والسلاح والرجال تحت ايديهم وامرتهم بصورة مطلقة. والمفارقة انه كلما زاد التهديد للسلطة او حدة الصراع حولها، زادت سيطرة ونفوذ قادة تلك الاجهزة، وتاثيرها علي موازين الصراع، في حال لم تتحول هي نفسها لادوات ذلك الصراع، عندما تداعب طموحات السلطة خيالهم و تؤرق وجدانهم. والحال ان ذلك امر طبيعي، اي زيادة النفوذ والسيطرة تتناسب طرديا مع الطموحات السلطوية. ولكن هذا الصراع بين مراكز القوي يضعف السلطة نفسها، وهنا يكمن مكر التاريخ والانسب مكر السلطة! اي زيادة الانفاق علي حماية السلطة، ينتج فاعلين اقوياء، يطمعون في السلطة ذاتها.
وكما هو معلوم ان نظام الانقاذ في حقيقته تشكيل عصابي (لا يعترف بالقانون وحقوق الآخر لطبيعة وعيه البدائي)، ويمارس السلطة باساليب المافيا، وقاد هذا في نهاية المطاف الي الاستعانة بالمليشيات، كدرجة متقدمة في حماية السلطة بكافة الوسائل. ومع دخول المليشيات ساحة الصراع حول السلطة، بعد ان اشتدَّ ساعدها، انقطعت الصلة بين السلطة والدولة! وتاليا اصبح صراع السلطة يهدد بقاء الدولة ذاتها. اي بعد ان كانت السيطرة علي السلطة تدور حول خدمة اجندة عقائدية والاصح اجندة طفيلية، تحول الصراع علي السلطة الي واحدة من الاجندة الاقليمية! وهي بطبعها تستثمر في التناقضات الداخلية، وآخر ما يعنيها مصالح الداخل او مراعاة هشاشة مكوناته! والاسوأ من ذلك، انها تجعل عملية التواصل والتلاقي بين مكونات الداخل في حكم المستحيل! وساعد علي ذلك ان وعي الدول الحديثة يعاني الالتباس والارتياب بين ذات المكونات، وكلٌ يراها في ليلاه! وهو ما يبيح القول اننا كمكونات داخلية لم نرتقِ بعد لوعي هكذا مرحلة، بعد ان ادمنت نخبنا اهدار الفرص، وآخرها ثورة ديسمبر التي لم يجف حبرها بعد.
ومن سوء حظ ثورة الشباب السوداني، رغم عظمتها، وتاثيرها علي المحيط الاقليمي، كتدشين لموجة الربيع العربي الثانية، إلا انها اندلعت في وقت كل الظروف كانت تعمل ضدها، خاصة وان الاسلاميين وبسبب حشفهم وسوء كيلهم (جهلهم باساليب الحكم الحديث وفنون ادارة الدولة الحديثة) حولوا الدولة السودانية، من دولة واعدة، الي دولة ميئوس منها! وفي ظل هذا المناخ المعادي لم تكن الثورة في صالح اي جهة، ما عدا شباب الثورة ومناصريهم! بل هنالك قطاعات كبيرة من الجماهير، استمرأت العيش في ظل نظام الانقاذ الفاسد، بعد ان كيفت امورها عليه. واحتمال مصدر العظمة الذي يحاكي بسالة هؤلاء الثوار، هو مجابهتهم لهذه الظروف و التحديات، ليس علي مستوي عنف وارهاب النظام العدمي فقط، ولكن قبل ذلك علي مستوي الكم الهائل من الياس والاحباط الذي تم تكريسه عبر الزمن. اي كأن الثورة نبتة صالحة في بيئة تحللت بالفساد، او خيط رفيع من الضياء في وطن حالك الظلام. ولكن رغم ذلك، ما الحق بالثورة اعظم الضرر، هم اولئك الذين في صفها ويعملون ضد مراميها واهدافها، ومن كان يُرجي منهم نصرتها، ولكنهم فضلوا الانحياز ضدها! اي في حين كانت الثورة فرصة للتخلص من اسباب الفشل التاريخي والفساد المستشري، التفت عليها اسباب الفشل وداهمتها مقدمات الفساد، وعلي راسها سيطرة المجلس العسكري واعوانه من فاقدي البصر السياسيين، والبصيرة في الحركات المسلحة.
فهذا المجلس لا يمثل القادة البائسين الذين يتصدرون المشهد، ولكنه تجسيد لكل اخطاء الماضي وفساده. فاذا كانت علة الدولة السودانية الاساس، هي سيطرة الاستبداد ممثل في المؤسسة العسكرية، فهذا المجلس لم يستفد من كل الموبقات الماضية، التي بسطت منطق ولغة وادوات العسكر علي فضاء الدولة، رغم انف طبيعتها المدنية! اي عملت علي عسكرة ما هو مدني وتمدين ما هو عسكري، لنحصد الخيبة والفشل في كلا الميدانيين. وكعادة الوعي العسكري، الذي يؤمن باستخدام نفس الاساليب، ويتوقع نتائج مختلفة، فضل المجلس العسكري السيرعلي ذات النهج، ولكن بمستوي من القيادة اكثر بؤسا وفقدان للكفاءة! وما البرهان والكباشي إلا دلالة، من ناحية، علي العطب والخراب الذي طال المؤسسة العسكرية وتردي بها الي مهاوي تسنم قيادتها لكل من هب ودب! اي المعيار الوحيد للترقي داخلها هو انعدام المعايير. ومن ناحية ثانية، علي مستوي الانحطاط الذي اصاب شكل الاستبداد العسكري الذي مارسته هذه المؤسسة. فبعد ان كان استبداد يستقوي بالخارج لسد فراغ نقص الشرعية في الداخل! انحدر لخدمة مشاريع الخارج نظير السيطرة علي الداخل. وفي هذا السياق بروز شخصيات هلامية كطه عثمان، وتصدرها المشهد، وقدرتها علي التاثير علي مجريات الاحداث امر ذو دلالة! وذات الامر ينطبق علي تمدد وزيادة نفوذ حميدتي! وهو ما يدل ليس علي استقلال السلطة عن الدولة، ولكن رهن الدولة للسلطة المستقلة. وعموما، مجرد ظهور هكذا شخصيات مغامرة، من دون مؤهلات، علي مسرح الاحداث، يدل علي مستوي الخراب الذي وصلته الدولة، وما ينتظرها من مفاجآت غير سارة، بعد سيطرة نصف قرن للمؤسسة العسكرية علي السلطة! وهي سلفا تفتقر لمهارة الادارة والقيادة والوعي الكافي بمقومات نهوض الدولة والالمام بحاجات المواطنين. لانها ببساطة تم اعدادها وتكوينها لاغراض مختلفة. وبلغة العسكر التي ربما يفهمونها، لكل معركة ميدانها وادواتها واستراتيجية ادارتها. ولذا اصرار العسكر ولمدة نصف قرن، علي خوض معركة ليست معركتهم، واستخدام اسلحة ليست اسلحتهم، لم يخلف لنا إلا الهزائم الكاسحة علي كافة المستويات! اي ما نابنا من سيطرة العسكر، لا تنمية اثمرت ولا كرامة مواطنين ابقت ولا سلامة دولة حافظت، ولكن مجرد سيطرة موازية لمليشيات هي اقرب للانفلات المسلح.
من كل ما سبق نخلص لحقيقة جلية، وهي ان الاستبداد وبالاخص في نسخته العسكرية (الانقلابية)، يقود البلاد لهاوية ليس لها من قرار. لانه يعمل علي احلال القوة محل العقل والخوف محل الحرية والتهور محل الحكمة والفساد محل الشفافية. والحال كذلك، بدل الحلم ببناء دولة محترمة تليق بكرامة الواطنين، يصبح مجرد بقاء الدولة ذاتها يحتاج لمعجزة! خصوصا بعد ان تتكاثر الفتن وتتعاظم محفزات انهيار الدولة، من الحروب الاهلية والاحقاد المجتمعية والتفاوتات الطبقية، وليس آخرها تمدد الجوع والمسغبة وانعدام الامن! لنصل مرحلة مجرد توافر ضرورات الحياة يصبح انجاز دونه خرط القتاد. ويصح ان كل النظم الاستبدادية ذات سمات عامة مشتركة في التآكل من الداخل، إلا ان بعضها يفوق الآخر سوء وانحطاط. خاصة عندما يجمع الاستبداد بين العسكرية والايدولوجيا التطهرية الكاذبة كنظام الانقاذ! لان الاخير ليس له خطوط حمراء يميز بينها وبين الدولة وحقوق المواطنين، فكله يستوي لخدمة شعارات فارغة، تخفي تحت بريقها كل تشوهات النفس البشرية.
المهم، المكون العسكري غير آهل للثقة، وتاكد ذلك عبر مماطلته حول كيفية ادارة الثورة، وسعيه الحثيث لمصادرتها! لتصل مرحلة القطيعة التامة بعد تورطه في مجزرة فض الاعتصام الغادرة، وكان سلفا قد تعهد بحماية الاعتصام والمعتصمين. وهي جريمة من البشاعة بمكان، لدرجة يصعب مجرد تصورها، لتعكس قدر من الخسة والدناءة، تتكشف عبرها نوعية وطبيعة وحقيقة من يقودون هذا المجلس. كما ان جريمة فض الاعتصام شكلت انكسار في علاقة ورؤية وتقييم المدنيين للعسكر، قبل ان تحفر مجري الذكري الدامية في تلافيف الذاكرة السودانية، كماساة تحمل كل عناصر النكبات التاريخية. ومصدر الوجع الممض، انه بقدر ما كان المعتصمون علي درجة من النبل والشجاعة والصدق وحب الخير للبلاد واهلها، بقدر ما كان الغادرون علي درجة من التجرد، من كل ما يمت للرجولة والشرف والمروءة والوطنية والانسانية بصلة. اي اكتسبت مجزرة الاعتصام كل هذا الزخم والحضور المكثف للحزن والاسف، نسبة لالتقاء النقيضين عند حدثها الفاجع. ولذلك هي تتعدي ازهاق ارواح المعتصمين، للتعدي علي القيم النبيلة واحلام وشعارات الثورة ومستقبل تحرر الوطن وحرية واستقلال المواطنين. اي هي نهوض للشر الكامن في نفوس اعداء الثورة، واصرار الاشرار علي مواصلة حربهم ضد التغيير، ولاستدامة علاقات الاستغلال واحتكار الامتيازات لطبقات طفيلية، لا تشبع من نهب ثروات البلاد وسرقة عرق وعافية الكادحين. وعموما، جريمة فض الاعتصام لن تسقط بالتقادم، لانها تتعدي الشق الجنائي الي البعد الاخلاقي، او بالاصح تضع الحد الفاصل بين تعريفنا كبشر او كامساخ بشرية. ولذا الموضوع ليس له علاقة بلجنة نبيل اديب المغلوبة علي امرها، ولكنه يتصل بحقوقنا كبشر اسوياء، وببلاد تستحق ان تتشرف باسمها، قبل ان يشرفنا الانتماء اليها. اي بصريح العبارة، معيار وطنيتنا وحريتنا ووعينا وحساسيتنا تجاه مسالة حقوق الانسان، مرتبط بالموقف من مجزرة فض الاعتصام. وصحيح ان موازين القوي الحالية لا تسمح بمعاقبة الجناة الحقيقيين! ولكن ما لا يجب ان يغيب عن البال، ان مسالة وقوفهم ضعفاء امام القضاء العادل، رهين بمدي التزامنا بالانتصار للدولة المدنية، طال الزمن ام قصر! بل حتي من تتقاصر عنه يد العدالة، ويسبقنا ملك الموت لخطف روحه الخبيثة، فان اللعنات ستلازم سيرته الوسخة الي يوم يبعثون. اما مسالة التسامح والغفران مع هكذا مجرمين وجرائم يندي لها الجبين، فهو ما لا يجوز مهما كانت المبررات، لانه ببساطة هم من اختار هذا الخيار الاجرامي بمحض ارادتهم وتفكيرهم القاصر واطماعهم الدنيئة! إلا في حالة واحدة، ان يعترفوا بجريمتهم الحقيرة ويعتزلوا السلطة ويطلبوا الغفران من كل اهل الضحايا.
وكان من عقابيل هذه الجريمة البشعة، ان زاد تنمر المجلس العسكري! لتقابلهم جموع الشعب بهبة جماهيرية شاملة، طافت كل ارجاء البلاد، في ذات الثلاثين من يونيو! وكأنه موعد مع القدر، لغسل ادران هذا التاريخ، الذي ارتبط في مخيلتنا باسوأ ذكري سياسية (الانقلاب الاسلاموي المشؤوم). وبعد ضغوط داخلية وخارجية، رضخ المجلس العسكري للحوار والتوقيع علي وثيقة دستورية، وهو كاره لها ويستبطن الغدر كلما اتيحت له الفرصة، وهو ما لم تقصر فيه قوي الحرية والتغيير من جهة، وحكومة (الماسورة) حمدوك، من جهة مقابلة. ورغم ان الثقة مفقودة في هكذا مجلس غادر كما سلف، إلا ان هنالك عدة عوامل جعلت الدخول معه في حوار هو الحل الانسب، لدولة خرجت من حكم عصبة مجرمة وقابلة للمتاجرة بكل ما يقع تحت بصرها ويدها! اي دولة مضعضعة وهشة وفاشلة وقابلة للضياع. اي شئ شبيه بانقاذ ما يمكن انقاذه بطريقة سلمية وحضارية (لغة السياسة اذا جاز التعبير). ومن هذه العوامل اولا، ان السلطة فعليا كانت بيد المجلس العسكري. ثانيا، حقن دماء المواطنين ومنع شلالات الدماء في البلاد، من قبل جماعة لا تتورع عن فعل ذلك متي ما شعرت بالخطر. ثالثا، قطع الطريق علي سلسلة الانقلابات واستفراد العسكر بالسلطة. رابعا، طبيعة تكوين المجلس العسكري وتاريخه في خدمة نظام الانقاذ، يؤكد انه لن يترك السلطة بالساهل. خامسا، الثورة لكي تنجح لابد لها من استقطاب الوطنيين في الاجهزة العسكرية، ولكن التخريب الطويل الذي تعرضت له هذه الاجهزة، جعل مسالة انتصار الثورة بصورة حتمية في حكم المستحيل! وعليه لابد من وجود تسوية ما، توازن بين صعوبة امتلاك كل شئ، واحتمالات خسارة كل شئ. خامسا، كان هنالك تصور ان قوي الحرية والتغيير، وبخبرتها السياسية، ومن خلفها قوي الثورة. عند دخولها في حوار مع العسكر، بمعرفتهم الضحلة بالسياسة وكيفية ادارة الدولة! قادرة علي التوصل الي حلول مرضية، بل والحصول علي مكاسب تليق بعظمة الثورة وتضحيات الثوار! وقبل ذلك كان هنالك تصور قاصر، ان قوي التغيير سترتقي لتطلعات الثورة وطموحات الثوار. اي ان تشكل الثورة فرصة لقوي التغيير نفسها للاستفادة من الاخطاء السابقة، وتاليا حدوث تغيير جذري في طريقة تعاطيها مع الشأن العام، وتاليا التضامن والاتفاق علي الحد الادني، فيما يخص معالجة اختلالات السلطة وتوزيع الثروة والخدمات في الدولة، وبصورة ادق ترميم العلاقة بين المواطن والسلطة والدولة. ومنع والاصح التصدي لافتئات مكون او فئة علي بقية المكونات والفئات الاخري، وبالاخص المكون العسكري الذي تسبب بتغوله وافتئاته علي المكونات الاخري في تراجع الدولة بصورة مطردة.
ولكن للاسف تمخض الحوار ليلد وثيقة كاملة العوار، مما يذكر بصلح الحديبية، في ميلانه لكفة علي حساب الاخري. مع الفارق المهول بين نبي يؤمن بقضيته وحتمية انتصاره علي كافة الظروف والتحديات وبما فيها ظلم الاتفاقات. ووفد تفاوض مطأطأ الراس، يعتبر كل ما يناله من الفتات، لهو انتصار كامل في عرفه! اي علي قدر اهل العزم اتت العزائم، وعلي قدر الطموحات المتواضعة تحققت الانجازات الباهتة! وبصريح العبارة كان وفد التفاوض علي درجة عالية من الهواية. ورغم ذلك لم تكن هذه المشكلة، ولكنها تجسدت بوضوح في افتقاد الرؤية والارادة والهدف! ولذلك تم التفريط بسهولة حتي في المكاسب المتواضعة المتحصل عليها! اي الاصل في المسالة مرتبط بقوة الايمان بالحقوق والقضايا، والاصرار علي نيلها غض النظر عن التحديات.
المهم، وبعد توقيع الوثيقة الدستورية، تفرغ المجلس العسكري للاخلال ببنودها ومواقيتها، والسخرية من قوي الثورة، والتغول علي كامل السلطة الفعلية (الامن والمال والعلاقات الخارجية والتفاوضات الداخلية). وكعادة كل سلطة حرص المكون العسكري علي استدامة ذات الاوضاع السابقة التي منحته الامتيازات، غض النظر عن كونها من اسباب الثورة! وفي سبيل تثبيت تلك الامتيازات وعدم المساس بها، سعي المجلس العسكري، بكل ما يملك، لشق صف الثوار وزيادة الشقائق بينهما! والاصطياد في الماء العكر، باستقطاب العناصر الرخوة في قوي الحرية والتغيير، والهشة في الحركات المسلحة، وغيرها من مكونات كانت تدعي الوقوف مع الثورة! ولم يستنكف اعضاء المجلس العسكري الاستعانة بالفلول ومحاور الخارج للوصول لمبتغاهم او المحافظة علي اجندتهم الخاصة، التي دأبت علي نهب موارد الدولة، لتوردها موارد الهلاك!
وما اعلان مجلس الشركاء الاخير، إلا حلقة من حلقات التآمر علي الثورة لسحب البساط من تحتها، للمحافظة علي ذات الاجندة الخاصة! وبما ان تشكيل هكذا مجلس ضرار، تم بصورة مفتعلة ومرتجلة ولا تستقيم علي ساقين، فقد جاء متهافت ومتناقض ويتغول علي اختصاصات غيره! ليصبح كجسم دخيل علي الاتفاقية، يصيبها بالاذي والضرر، كأي طفيل او عدوي تصيب الجسد، ناهيك ان يكون الجسد اصلا عليل ولا مناعة له. وكانه لا يكفي ما تعرضت له الوثيقة الدستورية من تعديات وتجاوزات، تقع بالضرر علي كل ما يخدم شعارات الثورة، في الحرية والسلام والعدالة، وازالة التمكين، واعادة تاسيس الخدمة المدنية بصورة احترافية. اي باختصار عوض الوفاء باستحقاقات الثورة، عمد المجلس العسكري علي افراغ الوثيقة الدستورية من مضمونها! اي بعد ان صادر المجلس العسكري الفترة الماضية، بالتغول علي سلطات مجلس الوزراء، يحاول ذات المجلس ان يفرض هيمنته علي مستقبل البلاد، عبر خدعة مجلس الشركاء! والدليل ان هكذا مجلس تقف خلفه سوء النية ويؤسسه الطمع، ان المنطق يقول، حل اي خلافات او تباينات في وجهات النظر بين اي شركاء، يحتاج لجهة مرجعية ومحايدة ومؤهلة ومتفق عليها، لتبت في امر الخلاف! اي هي سلفا علي دراية بالقضايا مثار الخلاف ولها المقدرة علي الفصل فيها. وذلك اما بصورة الجودية علي طريقتنا السودانية، وفي هكذا حالة يمكن ان يتم اختيارها (الجهة) ممن لهم سيرة وطنية حسنة ومعرفة بالقانون والسياسة. او من خلال استخدام لغة الدولة ومنطقها عبر محكمة دستورية مستقلة. اقلاه هكذا مسار اخير، يعيد الثقة في مؤسسات الدولة، ويكرس ثقافة احترام حق التقاضي والقبول باحكامه. اما هذه الطريقة التي يمارس بها البرهان السلطة ومن غير مسوغات دستورية، تعبر فقط عن دكتاتورية مستجدة، ومساعٍ شريرة لتمكين ثالوث الشر البرهان وكباشي وحميدتي من مصير البلاد، عبر العاب بهلوانية لن تنطلي علي احد. وبكلمة محددة لا نية للعسكر في ترك السلطة. وهو ما يعني بدوره اعادة انتاج متلازمة الاستبداد، وافرازاتها الكارثية علي كافة المستويات. ولكن ما فات علي البرهان كدكتاتور مبتدئ، انه ليس هنالك دولة بالمعني المتعارف عليه (حالة سيولة)، لتتحمل المزيد من الاخطاء والكوارث والالاعيب، التي غالبا ما تقود لخسارة الجميع. والحال، ان هكذا مجلس ضرار هو في حقيقته وصفة جاهزة لاثارة الفتنة، وصرف الانتباه عن قضايا حقيقية، تؤثر علي سلامة واستقرار الدولة. ولذلك لا مندوحة من الرد العملي علي البرهان، ليس برفض هكذا مجلس وهمي، يضخم من اوهام البرهان حول نفسه وقدراته! ولكن بالزام البرهان بالوقوف عند حده، والقيام بما تفرضه عليه واجبات وظيفته! لان الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، ليست لعبة اطفال او طق حنك بين العشاق، ولكنها التزام دفع ثمنه الثوار من دماءهم. ولا يغرينك ان الثورة الفحلة يقودها مخنث، وضعه حظها العاثر في طريقها! فقبلك البشير راودته ذات الاوهام، فاين هو الآن؟ ناهيك وانت مجرد صورة باهتة منه؟!
وكل ما سلف ذكره، يستلزم بناء قوي ثورية جديدة، يبدو ان قدرها مواصلة النضال لانجاز شعارات الثورة، بالاستفادة من خبرة الفترة الماضية، وتجنب اخطاءها وعفويتها، وان تلتزم السلمية والتحضر في انجاز اهدافها. وكان يمكن التركيز علي تكوين المجلس التشريعي، لتدارك ما يمكن تداركه من شعارات الثورة! ولكن تضاءل العشم في قوي الحرية والتغيير، خاصة بعد مفارقة الحزب الشيوعي لها، وهو من هو، بتمثيله ضمير الثورة داخل قوي الحرية والتغيير، غض النظر عن الموقف منه.
واخيرا
تعددت الدعوات المخلصات لاجراء تسوية تاريخية، يحدد فيها دور العسكر، بعد اجراء مراجعة جريئة لتاريخهم مع السلطة في الدولة السودانية. ولكن ما يذري هكذا دعوات للرياح، ان التسوية التاريخية تحتاج لقادة تاريخيين، ومن يتصدرون المشهد العسكري الآن لا يستوفون شروط القادة العاديين، ناهيك ان يكونوا تاريخيين؟! بل كل الدلائل تشير الي ان المحكمة الجنائية الدولية، هي من تنتظرهم في نهاية المطاف، وليس كتب التاريخ التي تخلد الابطال. ودمتم في رعاية الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.