بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليت مثقفينا يقرأون: العلاقات السودانية الحبشية في عهد المهدية .. بقلم: عبد الرحمن الغالي
نشر في سودانيل يوم 19 - 01 - 2021


بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
طرفة بن العبد
(2)
أمة قد فتَّ في ساعدها بغضُها الأهل وحب الغُربا
حافظ ابراهيم
(3)
ما فتئت المجموعة المتعلمة المتنفذة في المشهد الثقافي السوداني تؤذينا بجهلها لتاريخ بلادها وتعيد على مسامعنا أسطوانة جهل خليفة المهدي وظلم المهدية معتمدة على كتب كتائب حملة غزو السودان. وبالرغم من ظهور آلاف الكتب في تاريخ السودان الحديث والمهدية ورغم تحول الدراسات التاريخية من تهافت تلك الكتابات المغرضة إلى كتابات أكثر منهجية وصرامة علمية وموضوعية قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن، إلا أن تلك " الصفوة" ما زالت تجتر (نعوم شقير) و( سلاطين) وأضرابهما بدون أدنى حياء من ذلك الجهل بتطور الدراسات التاريخية لا سيما في تاريخ المهدية.
وما أن تجيء سيرة العلاقات الأثيوبية السودانية ألا وينبري لنا أساطين الجهل بالتاريخ منددين بموقف خليفة المهدي عليه السلام من عرض (منليك) ملك الحبشة مستدلين بتلك الوقائع على جهل الخليفة وانغلاقه وتعصبه – حاشاه كل ذلك - في مقابل الحس الافريقي الوطني لمنليك دون قراءة الوثائق الخاصة بتلك الفترة التي تثبت عكس ذلك تماماً.
إليك أيها (المثقف) وإليكم يامن تدعون الآخرين لقراءة التاريخ هذه الأسطر علها تضيء ظلام جهلكم إن كان علة ما تسطرون الجهل، وظلام نفوسكم إن كان ما تكتبون بسبب إظلام نفوسكم وحقدها على دولة أرادت كرامة الانسان السوداني ولكن البعض تعشيه وتجهر ناظريه أنوار الحرية فيغمض عينيه ويحني ظهره ليركب عليه أسياده.
(4)
أشعل الامام المهدي ثورة شاملة على الحكم التركي المصري، شملت كل السودان في وقت واحد. ولم يكن شرق السودان استثناءً. كانت المهدية حركة مقاومة وطنية أفريقية ضد الغزو التركي المصري. لم تقف اثيوبيا – باختلاف ملوكها- موقفاً داعماً لحركة التحرر الوطني السودانية ولم تقف أيضاً على الحياد بل تعاونت مع الحكم التركي المصري لاجهاضها قبل أن تنتصر الثورة الشعبية كما تعاونت لاحقاً مع الأوربيين في سبيل مصالحها بعد قيام الدولة المهدية وإليكم " مثقفينا" التفاصيل مأخوذة من مصادر لا يمكن وصفها بمولاة المهدية منها " شقير" نفسه:
في يونيو 1884 قبل انتصار الثورة استعانت الحكومة المصرية بالملك يوحنا ليفك حصار قوات المهدية عن القلابات. أرسلت الحكومة المصرية الاميرال (هيوت) و (ماسون بك) – من ذوي العيون الخضراء – لذلك الغرض فوافق الملك وأرسل جيشاً من 15 ألفاً من الجند في أغسطس 1884- فبراير 1885 ( أنظر شقيرك ص 568).
استنصر أهل " قدبى" في حربهم ضد المهدية بالأحباش – قبل تحرير الخرطوم – فعاونهم ( الرأس دهنشوم) بثمانية ألف مقاتل في 26 نوفمبر 1884وقتلوا الأنصار وأخذوا الغنائم وفروا إلى الحبشة ( شقير ص 567).
وفي يونيو 1885 فك الأحباش حصار الأنصار على منطقة (الجيرة) السودانية.
كان منليك ملكاً يحاول توسيع ملكه ولم يكن قائداً افريقياً نزيهاً ولا معنياً بالوحدة الافريقية: وقف ضد المهدية واحتل هرر من الصوماليين بعد أن استلموها من الجيش المصري في 1887 (شقير 572). وسنرى لاحقاً أن منليك رفض عرض الخليفة بمنع الأوربيين من دخول اثيوبيا وسنرى رفض الخليفة طلب منليك تعاون الخليفة مع الفرنسيين ورفع العلم الفرنسي هذا فضلاً عن تعاون منليك مع الفرنسيين ثم اتفاقه مع البريطانيين وأطماعه في السودان لمناطق تصل حتى النيل الأبيض والخرطوم!!.
وأثناء حصار كسلا فكرت الحامية التركية المصرية في التسليم لقوات المهدية ولكن أرسل " الرأس ألولة" رسولاً يدعوهم لعدم التسليم حتى يمدهم بنجدة ( شقير 649) والرأس ألولة هذا كان قد قتل الشيخ محمد عوض ناظر الحلنقة لما علم بقصد انضمامه لعثمان دقنة بكسلا( شقير)
هجوم الرأس عدار على (القلابات) و ( تبارك الله) أوائل يناير 1885 بحجة عدم استجابة أمير المهدية لطلب تسليم أحد قطاع الطرق بالحبشة دخل السودان ( شقير 727).
وفي خطاب خليفة المهدي عليهما السلام للملك يوحنا رداً على الهجوم على القلابات أوضح عدم رغبة المهدية في قتال الأحباش قبل الاعتداء وطرح عليهم مقترحات تجنب البلدين الحرب فقال في خطابه ( كنا معك ملاحظين إشارة سيد المرسلين : اتركوا الحبشة ما تركوكم ومن ثم لم نصرح لجيوش المسلمين بغزو جهتك حتى حصل منك التعدي البليغ على ضعفاء المسلمين الذين بالقرب من بلدك المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة بالقتل والأسر والنهب والضر وصار يأوي إليك كل من يرتد عن دينه من المسلمين " كصالح شنقة" و" عجيل" و" إدريس أبي جن" و"مضوي".)...( فإن كنت تريد رفع المحاربة عنك وعدم غزو جيوش المسلمين لبلدك فأولاً بادر بإرجاع جميع الأسرى المسلمين من ذكر وأنثى حر وعبد صغير وكبير باكرام واحترام حتى لا تترك عندك ولو كالغلام ثم أمره بإرجاع المتمردين السودانيين للسودان إن أقروا بإسلامهم وإن رفضوا فليبقوا معه ولن يتم الاعتداء عليهم باعتبارهم من الرعايا الاثيوبيين ( نعدهم من قومك وحزبك وأهل ملتك وجندك على حد تعبير خليفة المهدي عليهما السلام). ثم طلب منه كف التعدي على بلاد الاسلام والتزام حدوده قائلاً: ( فإن فعلت ذلك فاعلم أننا نكف الحرب ولا ندع جيش المسلمين يدخل بلدك) (شقير ص 730-731).
أما قضية عرض (منليك) فسنفصلها في الأسطر التالية:
تفاصيل المسألة الإثيوبية والتعاون الإفريقي في وجه الإستعمار:
اتخذ كثير من الكتاب والمؤرخين من قضية عرض منليك التحالف مع المهدية ضد الدول الأجنبية مثالاً لضيق أفق المهدية وتعصبها، وسنرى في ما يلي من أسطر أن الخليفة تعامل مع العرض بكل جدية ولم يقفل الباب حتى بعد أن اتضحت له الدوافع الإثيوبية، وحتى بعد أن ثبت له تنسيق الإمبراطور منليك مع فرنسا على الأقل هذا إذا لم تصل للخليفة أنباء اتفاقه مع بريطانيا.
أولاً: رواية الدرديري محمد عثمان
روى الدرديري محمد عثمان في مذكراته ملخصاً للمفاوضات التي تمت بين السودان وإثيوبيا وكان والده محمد عثمان مبعوث الخليفة لمنليك فقال:
{وإتماماً للوثائق التي تمكن المؤرخ من تبين الحقائق فقد رأيت أيضاً أن أنقل للقاريء ما حوته سجلات وزارة الداخلية السودانية بشأن تلك السفارة التي قام بها المغفور له والدي بين المرحوم الخليفة عبد الله التعايشي طيب الله ثراه وبين جلالة امبراطور الحبشة آنذاك:
(في عام 1896 بعث الإمبراطور منليك الثاني جبرتياً يدعى أحمد الطيب إلى الخليفة عبد الله التعايشي خليفة الإمام المهدي الكبير وحاكم السودان في ذلك الحين يبدي رغبته في إقامة علاقات ودية وإبرام معاهدة صداقة بين السودان وإثيوبيا.
وقد تجاوب الخليفة مع هذه الرغبة ووافق على الطلب، إلا أنه اشترط أن يتلقى رسالة مكتوبة توضح التفاصيل وتؤكد المعاني الواردة في أقوال الرسول.
ولم يلبث الإمبراطور منليك الثاني عقب عودة الجبرتي أحمد الطيب وإبلاغه اشتراطات الخليفة عبد الله، أن بعث برسول آخر يدعى الحاج أحمد الجبرتي، وحمله رسالة مكتوبة أكد فيها ما سبق أن بينه الرسول السابق الجبرتي أحمد الطيب من رغبة الامبراطور في إقامة العلاقات الودية وقيام تعاون صادق بين البلدين.
وبناء على هذه الرسالة، ووفقاً للاتجاه السوداني الرامي إلى تعزيز صلات المحبة والوفاق بين السودان وجاراته فقد عين الخليفة عبد الله: محمد عثمان حاج خالد ليقوم بمهمة التفاوض، وحمله رسالة مكتوبة وأخرى شفوية أوضح فيها الأسس التي يجب أن يبنى عليها الإتفاق وهي:
1) رفض كل تدخل أوربي في شؤون البلدين، وعدم السماح للأوربيين بدخول الحبشة أسوة بما هو متبع في السودان.
2) وقف الاعتداءات التي تقع في الحدود.
3) فتح أسواق القلابات وهاشمي للأنصار والأحباش على السواء.
وفي 30 سبتمبر 1896م غادر السيد محمد عثمان حاج خالد أمدرمان في طريقه إلى إثيوبيا يرافقه الحاج أحمد الجبرتي.
وكانت الرحلة شاقة عسيرة محفوفة بالمخاطر نظراً لوعورة الطرق وصعوبة المواصلات وعدم توفر أسباب الأمن.
وعندما وصل السيد محمد عثمان ورفيقه إلى مدينة لبو قابل الرأس منقشا حاكم المدينة حيث شرح أمر الرسالة التي يحملها واتفقا على وقف الاعتداءات في الحال.
وفي أديس أبابا قابل السيد محمد عثمان الإمبراطور منليك الثاني، واتفق معه على النقاط التي حددها الخليفة عبد الله.
وفيما يلي ملخص لما دار بين الرسول والامبرطور من حديث:
1) قال الإمبراطور إنه لا علاقة له مع الأوربيين إلا التجارة التي هي من مصالح البلاد، وإن إبطالها سيكون سيئاً على البلدين عامة وأشد سوءاً على الحبشة خاصة، بالإضافة إلى أن معظم التجار الأوربيين قد عاشوا في الحبشة لسنين طويلة وارتبطت مصالحهم بها.
2) أبدى الإمبراطور منليك استعداده لقبول اشتراطات أخرى.. ثم عرض مساعدة الحبشة للخليفة بالجيش والسلاح في حالة إغارة أي جيش أوربي على السودان.
3) وافق الإمبراطور على فتح الأسواق السودانية والحبشية للتجارة بين الأنصار والأحباش، وأصدر أوامره للرأس منقشا لكي يبلغ الناس بأن الأحباش والأنصار قد أصبحوا أصدقاء وأن الأسواق قد أصبحت مفتوحة للجميع حتى أمدرمان.
4) تساءل الإمبراطور عما إذا كان من الممكن إطلاق سراح الأسرى المعتقلين في أمدرمان فرد السيد محمد عثمان بأنه لا علم له بهذا الموضوع وأنه لا يحمل إذناً للتباحث فيه.
5) قال الإمبراطور: إن الإيطاليين يحتلون كسلا وهي المنطقة التي يحكمها الرأس منقشا فإذا كنتم تريدون الإتصال به فإني سأتخذ الإجراءات لإخطاره بذلك.
ولما وافق السيد محمد عثمان على عرض الإمبراطور طلب الإمبراطور منقشا في الحال وأمره بأن يقدم أية مساعدات يطلبها ( الأنصار).. وهنا طلب السيد محمد عثمان أن يكتب منقشا للخليفة رأساً.
وعاد السيد محمد عثمان وقد رافقه رسول آخر من قبل الإمبراطور منليك وقابل الرسول الخليفة عبد الله وتباحث معه بشأن الأسرى الأحباش، وأبدى له شديد رغبة الإمبراطور منليك واستعداده لإرسال أي شيء يطلبه الخليفة... كما أن الإمبراطور سوف يلجأ إليه إذا أعوزه شيء كذلك.
وقد وافق الخليفة على إطلاق سراح الأسرى، وعبر عن سروره بنتيجة المفاوضات التي توصل إليها السيد محمد عثمان مع الإمبراطور. ثم كلف الخليفة الرسول بأن يبلغه أن (نور الفدري) قد خرج عليه وأنه استولى على بني شنقول وطلب إليه القيام بتأديبه.
وفي عام 1897 أرسل الإمبراطور منليك رسولاً آخر يسمى محمد الطيب ليبلغ الخليفة بأنه قد أرسل جيشاً كبيراً لمحاربة (نور الفدري) وللمحافظة على الحدود كما رجا منه ألا يصغي لأية أخبار تناقض ما يحمله الرسول، وأن يعتمد على الصداقة التي بينهما. وأن يكون يقظاً في محاربة الأوربيين. وأن لا يألو جهداً في طردهم من بلاده.
وأرسل الإمبراطور للخليفة علماً فرنسياً لكي يرفعه أمام الجيش إذا تقدم الإنجليز لمحاربته، مبيناً له أن هذا العلم سوف يمنعهم من التقدم.
غير أن الخليفة عبد الله رفض استلام العلم وأعاده مع الرسول قائلاً: إنه إذا التقت الأرض والسماء ضده فلن يرضى أن يكون تحت حماية أوربية.)
علق الدرديري محمد عثمان قائلاً:
(هذا ما سجلته الوثائق المحفوظة في وزارة الداخلية.. وهي تصور التفكير السوداني السياسي في أواخر القرن الماضي، وهو تفكير يلتقي فيه الماضي والحاضر على أساس وطيد من مصلحة السودان وخلق أبنائه وطباعهم ونزعاتهم الحرة).
ثانياً : ورقة البروفيسور هارولد ماركوس: عن إتفاق رود/ منليك
وجاء في ورقة نشرها البروفيسور هارولد ماركوس في مجلة الدراسات الإثيوبية الآتي عن بعثة رود ومهمته:
1. تلخصت أسباب الرحلة والمفاوضات في الآتي: بعد هزيمة منليك للإيطاليين في عدوة في أول مارس 1896م تغير توازن القوى في منطقة القرن الإفريقي بشدة وتقلص الدور الإيطالي واتجه منليك للتوسع في كل الحدود التاريخية للحبشة. وردت تقارير عن تزايد النشاطات الإثيوبية في منطقة أرض الصومال وهي المنطقة التي تقع ضمن الحماية البريطانية التي حددها البروتوكول البريطاني الإيطالي في 1894م، كما وردت أخبار عن توقيع منليك اتفاقية مع فرنسا يعد فيها بتقديم دعم دبلوماسي وعسكري للمصالح الفرنسية في الإقليم، وأشارت نفس التقارير أن الفرنسيين حثوا منليك على تقديم المساعدة في المجهود الحربي السوداني ضد البريطانيين. وفي ديسمبر 1896م علم البريطانيون أن وفداً إثيوبياً كان قريباً في أمدرمان وأن طرق التجارة بين أثيوبيا والسودان عبر القلابات والقضارف قد أعيد فتحها.
وفي ظل التقارير السابقة بدت هذه المعلومات نذير شؤم بالنسبة للحكومة البريطانية والتي قررت أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوات لمنع اية تجارة سلاح محتملة بين أثيوبيا والسودان. وكذلك صار واضحاً أن العمليات العسكرية البريطانية في السودان تتطلب في نهاية المطاف ضبط مساحة واسعة على الحدود الإثيوبية، ولذلك قررت إرسال بعثة دبلوماسية للإمبراطور منليك برئاسة السير "ر. رود" كبير ضباط اللورد كرومر في القاهرة.
2. وفيما يخص السودان في هذه البعثة جاء في الورقة:
(ولأن السيطرة على حوض النيل كانت لها الأولوية في تفكير صانعي السياسة البريطانيين فقد بدأت التوجيهات للبعثة بمسألة الحدود السودانية الإثيوبية. فقد نصح لورد كرومر بأن تسعى البعثة لتحرير منليك من فكرة أن التقدم "البريطاني" في وادي النيل ليس موجهاً ضده بأي شكل من الأشكال وبناءً عليه فقد وجه "رود" بتوضيح أن العمليات ضد الخليفة تهدف فقط لاستعادة المحافظات التي كانت تحت الحكم المصري في السابق ولن تتضمن أي تعدي على أراضي الحبشة.
وقد اقترحت مذكرة وزارة الخارجية أن يُعطي منليك خيارين فيما يتعلق بالحرب الأنجلو مصرية في السودان: إما أن يبقى محايداً، وفي هذه الحالة ستضمن بريطانيا العظمى ألا يحدث تعدي على الحدود الحبشية كما كانت موجودة قبل الثورة المهدية. أو أن يمنح بريطانيا العظمى مساعدات عملية وفي هذه الحالة فإن حكومة جلالتها ستكون مستعدة لاستخدام مساعيها الحميدة لضمان تعويض مناسب من الأراضي للحبشة. اتبعت المذكرة أيضاً مقترح لورد كرومر "بأن يسمح للأثيوبيين بالنزول على الضفة اليمنى للنيل الأزرق مثلاً من كركوج حتى فامكا، وأضافت أن هذا التنازل ومعه نصيب في التنمية التجارية لمنطقة بني شنقول سيكون أكثر من مرضٍ لطموح منليك في هذا الصدد، وعليه فقد تم إخطار "رود" أن يوضح أن بريطانيا العظمى ليس لها اعتراض في الاعتراف بالحدود الحبشية بين خطي عرض 10-15 درجة شمال والذي لا يتجاوز مجال النفوذ المخصص لإيطاليا وفق بروتوكول 15/4/1891م، وستوافق على توسع لإثيوبيا حتى إقليم النيل الأزرق الذي يقع بين كركوج وفامكا إذا كان ذلك ضرورياً لغرض ضمان تحالف منليك وتعاونه ضد الدراويش.)
وفي 10 مارس غادر رود مصر لإثيوبيا ومعه ونجت مدير الاستخبارات العسكرية والكابتن كونت قليشين عضو قسم المخابرات بمكتب الحرب وآخرون.
قرر رود تأجيل تصحيح وضع الحدود الغربية "أي السودانية" حتى تتم هزيمة المهدية أولاً وحينها "سيكون لنا قوة معنوية تدعمنا في توضيح مطالبنا بشروط واضحة نفتقدها كلياً الآن. وأكثر من ذلك أحس ونجت أنه إذا أجرينا مفاوضات الحدود هذه في غياب قوة بريطانية فعلية على أرض الواقع في السودان فمن المرجح أن يشجع ذلك الملك على المضي قدماً وبقوة كبيرة في الاحتلال الفعلي. وأكثر من ذلك فقد علم البريطانيون أن السياسة الفرنسية هدفت لإحباط وإعاقة السياسة البريطانية في مصر وأنها إذا ضمنت النفوذ في أعالي النيل فسيؤدي ذلك لجلاء البريطانيين عن مصر. ولذلك إذا كان منليك حقيقةً حليفاً لفرنسا فإن الموافقة على تنازلات كبيرة جداً في وادي النيل فقط لكسب مساعدة منليك ضد المهدويين سيؤدي لتقوية الطموحات والإدعاءات الفرنسية في هذا الاتجاه.
3. وفي 7 مايو قدم رود على طاولة المفاوضات موضوع حياد منليك في الحرب ضد المهدويين وموضوع اتفاقية أكثر الدول تفضيلاً . وعد منليك بسهولة "بالعمل بأقصى ما يستطيع لقطع مرور السلاح والذخيرة عبر إمبراطوريته للمهدويين والذين وصفهم بأنهم أعداء إمبراطوريته". ومن الواضح أنه لم تكن له نية حقيقية في مساعدة الخليفة وشعر بأن التعهد بعدم التدخل في السودان ربما ينتج عنه تنازلات مجزية من البريطانيين له في أرض الصومال.
4. في 14 مايو 1897 وقع "منليك" و"رود" معاهدة من ثمانية بنود في احتفال كبير شملت التجارة، وحدود الصومال، وفتح طريق زيلع هرر، ومعاملة تفضيلية لبريطانيا، ودخول البضائع لأثيوبيا عبر ميناء زيلع، ودخول الذخيرة والسلاح لأثيوبيا عبر أرض الصومال البريطانية، وتعهد منليك بمنع حركة السلاح والذخيرة للخليفة وقواته.
5. في رده على الانتقادات التي وجهت للبعثة وأنها فشلت في مهمتها وأعطت الاثيوبيين تنازلات أوضحت الورقة رأي المفاوض: "كان من المستحيل إجلاء الأثيوبيين عن النقاط التي كانوا يحتلونها دون اللجوء للسلاح وكان الفشل في الوصول للتسوية سيؤذي مساعينا في تأمين حياد ايجابي وصداقة على الجبهة الغربية". وقال صاحب الورقة: شعرت الحكومة البريطانية أن التنازلات ليست إلا خسائر بسيطة مقارنة بإنهاء النزاع الحدودي، وتأمين صداقة ماكونين، ورغم أن تلك التعهدات بعدم تزويد الخليفة بالسلاح تبدو واهية ولكن الأيام أثبتت أنها كانت عظيمة الأهمية للحكومة البريطانية في ذلك الوقت.
6. وعن مطامع منليك في السودان ورد الآتي في ورقته للتفاوض:
(قال منليك إن الوثيقة التي قدمها "تضع ما يعتقد هو أنه الحدود الحقيقية للإميراطورية الإثيوبية وتحدد من ناحية أخرى ما يمكن وصفه منطقة نفوذ يضم كل الأراضي التي كانت تخضع لإثيوبيا في أية فترة سابقة وأن رغبته المعلنة إعادتها مرة أخرى لسيطرته.( بعث "رود" بنسخة من هذه الوثيقة الشهيرة والتي تظهر أن الخط الذي وضعه الملك منليك يقطع الجزء الأكبر من المحمية البريطانية في أرض الصومال تاركاً شريطاً ضيقاً على البحر بينما على الجانب الغربي من إثيوبيا تضم منطقة أكبر من أي تنازل يمكن لأي تعليمات أن تفكر فيها، تمتد المنطقة فعلياً حتى النيل الأبيض نفسه، بينما تمتد المطالبة النظرية حتى فكتوريا نيازا والخرطوم.
7. وجاء تقييم ضابطي الاستخبارات البريطانيين: ونجت وقليشين بعد أن قررا أن وجود ونفوذ الإثيوبيين لا يتعدي قندر، وأن حدود السودان تحت قبضة المهدية، جاء تقييمهما على النحو التالي:
(خلص ضابطا الاستخبارات إلى أن لمنليك القدرة على احتلال جزء كبير من الحدود الغربية ولكنه يمتنع من ذلك فقط لأنه يعتقد أن اللحظة الحاضرة ليست مناسبة للدخول في مشروع ربما يجعله وحيداً في مواجهة المهدويين ولكن إذا كانت قوات الخليفة مشغولة بمواجهة الزحف الإنجليزي المصري من الشمال فمن المعتقد ألا يتردد منليك في احتلال ليس فقط مقاطعة بني شنقول الشمالية ولكن كل البلاد الواقعة بينها وبين النيل الأبيض).( أنظر مذكرة ونجت وكونت 7 مايو 1897) .
ثالثاً: رواية هولت:
(أ) قال هولت: (كان الخليفة على علم منذ أمد طويل بالأطماع المتعلقة بهذا الجزء من أملاكه كما تلقى صحفاً من مصر علم منها بأمر المفاوضات الجارية بين إنجلترا وإيطاليا بشأن الحدود الشرقية في صيف 1890م.. فقد تم الوصول إلى اتفاق في 15 أبريل 1891م إنجليزي إيطالي اعترفت بمقتضاه إيطاليا بمطالب مصر وحقوقها في السودان بما فيها كسلا على أن يسمح لها بإحتلال كسلا مؤقتاً إذا تطلب القتال مع المهدية ذلك) ، ثم تحدث عن التكالب والتنافس الأوربي لا سيما الصراع الفرنسي البريطاني حيث (نبه مجلس الوزراء الفرنسي في 17 نوفمبر 1894م على وزير المستعمرات بضرورة احتلال أكبر مساحة ممكنة من الأراضي توقعاً لزحف بريطانيا من أوغندا)، (كما فرضت فرنسا نفوذها على الحبشة. ومع توتر العلاقات بين منليك وإيطاليا عقب إلغاء معاهدة أوتشيللي طلب حاكم الحبشة معونة فرنسا، وسمح سراً بمرور السلاح عن طريق الصومال الغربي)، (وقد وصل لاجارد حاكم الصومال الفرنسي إلى أديس أبابا في مارس 1897م في مهمة خاصة وحصلت الحبشة على تأييد فرنسا القوي لكل ادعاءاتها في الضفة اليمنى من النيل الأبيض من خطي 5 – 14 درجة شمالاً).
(ب) وذكر هولت أن منليك بعد أن ألغى اتفاقه مع إيطاليا وتخوف من حربها أرسل مسلماً إسمه محمد الطيب عارضاً السلام ولكن رسالته كانت شفهية وأورد رد الخليفة التالي: ( لسيد الأحباش منليك نخبرك أن محمد الطيب الذي أرسل من قبلك طلباً للسلام وصل إلى بلاطنا وأبلغنا شفهياً برغبتك ألا وهي طلب السلام والمذكور محمد الطيب عائد إليكم فإذا كنتم راغبين في السلام كما ذكر مبعوثكم فاكتبوا إلينا بذلك كتاباً رسمياً عليه ختمكم تطلبون فيه ذلك حتى يمكننا النظر فيه وإعطاءكم رداً شافياً والسلام على من اتبع الهدى) صفر 1313 يوليو أغسطس 1895م.
(ج) ولما جاء الرد الاثيوبي المكتوب أوضح الخليفة شروطه في خطاب أورده هولت جاء فيه: (وأما فيما يتعلق برغبتكم في تحقيق السلام بيننا وبينكم فاعلموا أنه لا يوجد بيننا وبين الأوربيين إلا علاقة الحرب، ونحن لا نقبل مجيء الأوربيين إلى بلادنا الإسلامية من أجل الشراء والبيع أو بحجة الترحال. فإذا كان موقفك مثل موقفنا بحيث ترفض دخول الأوربيين لبلادك إلا في حالة الحرب وبحيث لا تتصل بهم كما هو حالنا فيمكن في هذه الحالة عقد اتفاق سلام بيننا وبينكم). ص 256.
(د) ورغم رفض منليك قطع علاقاته مع الأوربيين إلا أن علاقة البلدين ظلت جيدة رغم عدم عقد التحالف حسب رواية هولت حيث قال: (ورغم تحسن العلاقات بين منليك والخليفة فيما بين عامي 1895-1898م وبرغم تقدم المفاوضات الخاصة بعقد تحالف بينهما منذ الصيف السابق إلا أنه لم توجد أية محالفة رسمية).
(ه) وتعضد رواية هولت للوقائع استنتاجاتنا التي سنذكرها أدناه على الرغم من عدم وصوله لنفس الاستنتاجات.
العرض الإثيوبي وتعامل الخليفة معه:
ومما مضى من سطور يتضح لنا من موقف منليك الآتي:
1. أنه ما عرض التعاون مع المهدية إلا بعد أن دخل في عداوة مع إيطاليا بعد أن ألغى من طرف واحد اتفاقية أوتشيللي فأراد أن يؤمن جبهته الغربية.
2. أنه بدأ التعاون مباشرة مع الفرنسيين لدرجة التحالف العسكري كما سبق أن أوضحنا وإن أخفى ذلك وادعى أنه لأغراض التجارة.
3. وأنه ختم ذلك بالتعاون مع بريطانيا بل والتحالف معها، فقد عرضت عليه بريطانيا إما الحياد في حربها مع المهدية أو التعاون معها فاختار التعاون معها، وتم الاتفاق على منع مرور السلاح والذخائر للمهدية، وفي المقابل أُعطي تنازلات في بقية المناطق بل وفي داخل السودان نفسه.
4. ومما يؤكد عدم حسن نواياه تجاه السودان ودولته سرعة استجابته للمطالب البريطانية بشأن السودان والمهدية كما روى المفاوض البريطاني، وثانياً عرضه لخريطة توضح أطماعه في السودان تصل حتى النيل الأبيض، وثالثاً ما ذكره للبريطانيين من أنه يعتبر المهدويين أعداءً له. ولما أرسل وفده الأخير للسودان في 1898م كان قد عقد سلفاً ذلك الاتفاق اللئيم مع بريطانيا في مايو 1897.
5. ومما يدل على مكره – الذي لم يفت على بصيرة الخليفة النافذة وذكائه الفطري- أنه:
(أ) أرسل عرضه بصورة غير رسمية مع أحد المسلمين من رعاياه، ولم يرسله مع أحد رجال دولته المفوضين، وأرسله شفاهة ولم يرسله مكتوباً، فكان رد الخليفة الأول كما رواه هولت رد رجل دولة حصيف تضمن المطالبة بكتابة عرض واضح بأسس السلام ومختوم بختم الملك حتى يتم دراسته والرد عليه، فعل الخليفة ذلك حتى لا يكون العرض من باب العلاقات العامة ولا يستغل العرض للتلويح بالتحالف مع المهدية لرفع سقف مطالبه مع بريطانيا التي خشيت بالفعل من مثل هذا التحالف فسارعت للاتفاق معه وتقديم تنازلات في الصومال الغربي وفي حدود السودان.
(ب) وفي كل مباحثاته مع الخليفة لم يتعهد بقطع العلاقات مع الأوربيين بل ادعى أنها علاقات تجارية لازمة له والشاهد أنها كانت علاقات عسكرية سياسية.
(ج) ومما يدل على طبيعته الماكرة من العرض السابق: إرسال الرسالة الشفوية حتى لا يؤخذ عليه شيء، ومراوغته البريطانيين حيث أخذ منهم ما يريد وأرسلهم في النقاط الصعبة في التفاوض لحاكم أرض الصومال لإكمال التفاوض بحجة عدم معرفته بالتفاصيل نسبة لتشدد ذلك الحاكم في قضايا حدود إقليمه. ومن مكره إنكاره معرفة ما لايرغب فيه. ومن مكره طلبه تبسيط لغة الاتفاق مع بريطانيا ونزع كل الاشتراطات خوفاً من المكر البريطاني، وحرصه على ترجمة فرنسية للاتفاق مع بريطانيا تكون مرجعاً إذا اختلف النصان الأمهري والإنجليزي وفي هذا ما لا يخفى من التحوط والتقوّي بفرنسا من باب خفي. ومن مكره إرساله وفداً بعد اتفاقه مع البريطانيين يحض الخليفة على قتال البريطانيين وهذا ما يريده لينقض على السودان أو على أقل تقدير ليأمن انصراف الخليفة وانشغاله بحدوده الشمالية. وكذلك من مكره إرساله رسالة تطلب من الخليفة ألا يسمع لأية أخبار مخالفة لما جاء به الوفد في خطوة احترازية لاحتمال سماع الخليفة باتفاقه مع البريطانيين ضده.
(د) ولا ننسى أن منليك كان قد استعان بالطليان في الإطاحة بالإمبراطور الإثيوبي والجلوس مكانه على العرش، وعقد معاهدة اوتشيللي التي اصبحت أثيوبيا بموجبها تقريبا محمية ايطالية ولما تمكن انقلب على ايطاليا وهزمها مستعينا بأسلحة فرنسا.
(ه) ومما يؤكد كل هذه الشكوك التقرير الذي كتبه ونجت وكونت وأشرنا إليه أعلاه.
كيف تعامل الخليفة:
ومع كل ما سبق ذكره من نقاط كان بعضه معروفاً حينها وكان بعضه خافياً، نجد أن تعامل الخليفة قد إتسم بقدر كبير من المرونة والتغاضي مع منليك، فهو:
1) لم يقفل أبداً باب التفاوض حتى مجيء آخر وفد قبل أشهر قليلة من دخول كتشنر. وكان الوفد محل حفاوة وإكرام ذكره هولت في كتابه.
2) كان يفرق بين الدولة الوطنية الإفريقية والدول الأوربية الإستعمارية، فلم يرفض التعاون مع الحبشة مع أنها دولة مسيحية بل تجاوب معها ولم ترد في رده أية إشارة لذلك بل كان واضحاً في ربطه التعاون مع الحبشة بعدم تعاونها مع الدول الأوربية الإستعمارية والتي كان يعلم كما أوضحنا اتفاقاتها على تقاسم أفريقيا.
3) ومن الملاحظ أن حروبه مع الحبشة إتخذت طابعاً دفاعياً وحتى حينما انتصر عليها في مرات عديدة اكتفى بالرجوع إلى قواعده بالسودان الذي حررته المهدية من الحكم التركي.
4) ونلاحظ أيضا أنه لم يتشدد في قضايا الحدود مع لإثيوبيا بل طلب من منليك وقف إيواء المنشقين على الدولة والمحاربين لها وقد أشار هولت لمرونته في قضية بني شنقول.
5) وافق الخليفة على طلب منليك بإطلاق سراح الأسرى
هذا هو ملخص القضية الإثيوبية لأن بعض المصادر تصور الإثيوبيين في صورة الساعين للوحدة الإفريقية وتصور الخليفة شخصاً محدود الأفق متعصباً رافضاً لذلك التعاون. وهي تعكس واقعية الخليفة وإدراكه الواسع للبيئة الدولية والاقليمية التي تحيط به كما يكشف عن تفريقه بين الدول التوسعية الطامعة والدول الافريقية وان اختلفت معه في العقيدة وتبين سعة أفقه وسعة صدره وفهمه لأسس التعامل بين الدول وتوضح بجلاء معرفته لأولوياته ومكامن الخطر على دولته وكما قال هولت في خاتمة كتابه: (فالظروف السائدة في أواخر القرن التاسع عشر كانت لا تسمح ببقاء دولة إسلامية مستقلة في جزء من إفريقيا يتعرض لصراع الدول الأوربية الإستعمارية.)
عبد الرحمن الغالي
هوامش:
الدرديري محمد عثمان: مذكراتي ص 83-87
Harold G. Marcus: The Rodd Mission of 1897, Journal of Ethiopian Studies
Vol. 3, No. 2 (JULY 1965), pp. 25-35
http://www.jstor.org/stable/41965725?seq=1#page_scan_tab_contents
والتي تعطي معاملة تفضيلية في التجارة والعبور الخ لبريطانيا
نهاية تلخيص الورقة
هولت سابق 38-39
ذكر هولت العمل المشترك مع الفرنسيين لاحتلال أعالي النيل تحت إشراف لاجارد في 1897 وذكر تقدم حملة إثيوبية مصحوبة بأوربيين من أعضاء بعثة بوتشان وصلت حتى ملتقى السوباط بالنيل في مارس 1898 كما ذكر شقير حديث مارشان مع كتشنر في فشودة وأنه كان ينتظر وصول العون الذي طلبه من فرنسا لمقاتلة الأنصار ليأتي عبر الحبشة.( شقير ص 942 )
قال هولت : وعندما وصل المبعوثون لأم درمان في ذي القعدة ( مارس – أبريل 1998 ) كانت قوات كتشنر قد وصلت إلى العطبرة وقوبل الضيوف هذه المرة بتشريف كبير ووضعت ترتيبات متعددة للترحيب بهم الخ ص

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.