وودت لو صبرت على الدكتور النور حمد ليفرغ من أحاديثه عن أثيوبيا وعنا بهذه الصحيفة قبل التعليق عليها. ولكن رأي النور الحسن في أحباش القرن التاسع عشر وسوء ظنه بقادتنا أزعجني من قبل وكتبت عنه بعد زروة لأثيوبيا (2007). ونعيت على كتابنا تقويمهم الظالم للخليفة عبد الله الذي جعلوه مضرب المثل في ركوب الرأس العقائدي لتعاليه على عروض الأحباش بالسلم والتضامن ضد الغزاة الأوربيين. وقلت إن الخليفة شقي. فقد حجبت تاريخه عن أهل النيل الأوسط "خٌمارة التاريخ" مما روته حبوباتنا عن شطط جنده حتى "خرتو" عجين خماراتهن. ثم ها هو الجيل يجد في الخليفة سابقة تاريخية ل "صناجة" الإنقاذ العقائدية. قلت أمس إننا لن نجد سنداً في التاريخ للصورة الزاهية للتآخي المسيحي الإسلامي (إلى حد كبير) في الحبشة. وسمعت ، للمفارقة، أن نظام مانقستو الماركسي هو الذي رد بعض مظالم المسلمين التاريخية في أثيوبيا. ومن جهة أخرى فالنور انتزع عرض ملوك الحبوش للخليفة بالتضامن ضد المستعمرين من سياقه. فأكتفى بنص الرسائل المتبادلة عن العرض دون فحص إن كان ذلك النص مما كان في الإمكان أن يتنزل واقعاً في الملابسات المخصوصة. فأنت لاتجد في حديث النور ذكراً لاتفاقيات عقدها الملوك الحبوش مع بريطانيا، خصم المهدية المستكبر، وحرصوا على تنفيذها بحذافيرها مما أغضب الخليفة الذي لم يقيده الأوربيون بشيء من أغلالهم. لن تجد في حيثيات من أذاعوا "تعصب" الخليفة و"براغماتية" الحبوش أي إشارة لإتفاقية هيوت (1884) بين الملك يوحنا (1872-1889) مع الإنجليز أو بتواثق الإنجليز مع الامبراطور منليك باتفاقية 14 مايو 1897 .ففي اتفاقية هيوت التزم يوحنا بفك عزلة الحاميات التركية المصرية بشرق السودان بكسلا وغيرها التي قطعتها المهدية. وتعهد أن يبلغ بها بر ميناء مصوع. وفي مقابل ذلك حصل يوحنا على تسهيلات تجارية شملت استيراد السلاح. وقال مؤرخ أن يوحنا نفذ ما يليه من الاتفاقية بإخلاص مقارنة بنكد بريطانيا في ما يليها. وأدى التزام يوحنا بنجدة حاميات الترك إلى صدامه العنيف مع المهدية والذي انتهى بمقتله في معركة المتمة في 1889. وكانت إتفاقية بريطانيا مع منليك في 1897 سبباً لينفر الخليفة من عهده للسلم والتحالف. ولكن يعيب كتابنا على الخليفة التأبي على محالفة منليك جزافاً مع نهوض الشواهد أن الخليفة مال إلى عرض الحبش. بل أكرم وفادة مبعوثهم بالمكروه عمداً ليفك عقدة لسانه كما قال مؤلف "التكالب على أفريقيا" المشهور. ولكن أهم من ذلك اختلاف المؤرخين حول صدقية عرض منليك للخليفة. وشهدت "مجلة التاريخ الأفريقي" في الستينات جدلاً بين المؤرخ الأمريكي ماركوس والإنجليزي ساندرسون (عميد كلية آداب الخرطوم في الستينات) حول جدية منليك. وكان من رأي ساندسون أنه جاد بينما شك ماركوس في ذلك. ويبدو أن كتابنا ورثوا ساندرسون المختص بتاريخ السودان وأهملوا ماركوس المختص بالتاريخ الاثيوبي توسعت في عرض رأي ماركوس في مكانه. فقد أكد أن عرض منليك للخليفة كان "حبالاً بلا بقر" خلا من تحديد الالتزامات المتبادلة التي ألح عليها الخليفة. بل ربما علم الخليفة بإتفاق منليك مع بريطانيا في 1897 الذي أرادت به بريطانيا فض التقارب السوداني الحبشي. وكان أول شواغل بريطانيا في الاتفاقية أن يلتزم منليك بوقف تسرب السلاح عن طريق الحبشة للسودان لقاء منافع ملموسة. وقد وقفت على نص هذه الاتفاقية مؤخراً واسترعى إنتباهي أن بند وقف السلاح للمهدويين جرى تنفيذه حتى قبل المصادقة النهائية على الاتفاقية بطلب من بريطانيا. لنقرا الخليفة كخليفة للصديق لا كصحيفة سوابق للإنقاذيين.