أصدر الحزب الشيوعي بياناً كئيباً آخر. وهو البيان الذي رد فيه على الوثيقة الخزعبلة التي روج لها الصحافي واصل علي على صحيفة "السوداني" عن انقلاب 19 يوليو 1971. وقالت إن الانقلاب ثمرة تدبير سوفيتي وعربي شيوعي حصل في اجتماع انعقد في تشيكوسلوفاكيا في 15 يوليو 1971. وجنح الحزب الشيوعي في بيانه إلى نهجه المعتاد. فهو يطعن في هوية الراسل بأكثر من طعنه في نص الرسالة. فمن بين ست فقرات في التصريح خصص واحدة فقط للرسالة وخمس للراسل. فهكذا يعفى نفسه من تفكيك النص وتكذيبه باتهام الراسل بسوء النية تجاه الحزب لأنه لم يأت بجديد لم يطرأ من قبل. ويدخل الحزب بعدها في نوبة "تِنبر" بشرفه وميثاقه مع شعب. ثم ينتهي إلى أنه لن يقف مكتوف الأيدي وسيطال الراسل. وكانت يا عرب. بينما قال واصل إنه وجد الوثيقة في محفوظات الشرق الأوسط في جامعة أكسفورد تجد الحزب تجاهل هذا المنشأ وعاد بها إلى أمريكا أم الأمور التي عداء الشيوعية "كارها". فقال تصريح الشيوعي إن من نشرها (ربما لأول مرة) هو مركز ويلسون الأمريكي الذي أنشأته أمريكا في 1968. وهذا نسب الشر (الغول في عبارة للفنان بولا) الذي يصدر عنه كل ما يشوه سمعة الحزب وصورته بين الجماهير. وجاء التصريح بغير مسوغ بملابسة في سياستنا اليوم لابد أنها مسؤولة بتجديد نشر الوثيقة لنفس الهدف. وهذه الملابسة هي تصريحات صدرت من المكون العسكري توعد فيها القوى الثورية وشيطنها باتهامها باغتيال الشهيد بهاء الدين نوري كما اتهم حزب البعث بالتخطيط لانقلاب. فصدور الوثيقة في الواضح ليس صدفة. وله تفسير قريب المأتى. ثم تطرق التصريح للدروس في بولتيكا مثل هذه الوثائق التي تعلمها الحزب. فالمراد منها هو ضرب الديمقراطية بالهجوم على الحزب مما يصب في مصلحة الثورة المضادة. وأعلن الحزب براءته من التكتيك الانقلابي الذي هو موضوع الوثيقة لأنه رفضه دائما ملتزماً بالعمل بين الجماهير للتغيير. ثم "تنبر" الحزب. ووصف عداته بأنهم إنما يلعبون بالنار لأن نار الحزب حارقة وجذوره راسخة في أرض الوطن. وسيرد الصاع صاعين بكشف الحقائق ومقاضاة كل متطفل عليه. هذا البيان "نجرة" من الحزب في وجه خصومه لم يفكر معها بالجمهور المحايد، أو حتى العاطف، الذي بلغته المعلومة وربما رغب أن يسمع من الحزب رداً يطمئن. فلن يغني عن دحض "الخزعبلة" قول الحزب إنها صادرة عن سوء نية من لدن معهد ويدرو ولسون. فليست هذه مرة سماع الكثيرين الأولى لذائعة تورط الشيوعيين و"سادتهم" السوفييت في الانقلاب. بل صارت هذه من المعلوم عن الانقلاب والشيوعيين بالضرورة. فقد سهر خصومهم على ترويج هذه المعلومة منذ حدوث الانقلاب في 1971 بمكبرات صوت نظمهم المستبدة التي تعاقبت. وربما كشفت ثورة ديسمبر، التي لم ينفذ خصومها إلى الطعن فيها إلا من باب زعمهم اختطاف الشيوعية لها، أن الحزب الشيوعي إنما يعيش في تاريخ كتبه المنتصرون حقاً. فالشيوعيون حسب هذا التاريخ هم من عارض استقلال السودان باعتزالهم اتفاقية 1953، وهم من هادنوا نظام عبود بدخولهم مجلسه المركزي المزيف في 1963، وهم من سرقوا أكتوبر 1964، وثورة 1985، وهم أول من دعا للتطهير، ومن قام بانقلاب 1969 وانقلاب 1971 على الطائر، وهم من حملوا نميري لقتل الأنصار في الجزيرة أبا وود نوباوي. ولما استولى الخصم على سردية تاريخ الحزب الشيوعي لم يبق لهم سوى الإنكار. واتوصم تاريخهم ب"الشينة" من فرط الإنكار. فمن يا ترى يصدق أنهم كانوا ضد الانقلابات ملتزمين العمل الجماهيري طول الوقت كما قال التصريح! ففي رصيدكم يا شيوعيين انقلابان أحدهما معرة والثاني تراجيديا وأنتم تنكروهما حطب بلا اختشاء. لا أحتاج أنا لدرس عصر حول أن المبدأ فينا كان العمل بالجماهير وإلى الجماهير للتغيير الاجتماعي. ولا أعرف من أحصى عورات التكتيك الانقلابي والمسلح عدداً مثلنا. ولكن كان حظنا مع ذلك انقلابين أبلحين. وليس هذا القدر مما يربك الماركسي. فقال ماركس نعم يصنع الناس تاريخهم ولكنهم مع ذلك يرعون بقيدهم في جبر التاريخ. فتأتى المنايا وأنت قائم في طلب الأماني. وقال أيضاً إنه جائز للحزب الثوري أن يخطئ دون الخطأ القاتل كما ربما فعلنا. والاستدراك ممكن لو اشتبكنا مع تاريخنا خيره وشره بشجاعة وبملكة لتعليم الجماهير شيئاً مهماً عن جبر التاريخ بدلاً عن الإنكار بعد الإنكار. فالإنكار ليس سذاجة فحسب بل استهانة نكراء بشعب تريد له أن يقتحم التاريخ بالوعي. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.