حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



19 يوليو 1971: من يومية التحري إلى رحاب التاريخ.. بقلم: د.عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 18 - 07 - 2011

لولا ظروف لصدر هذا الكتاب "إنقلاب 19 يوليو 1971: من يومية التحري إلى رحاب التاريخ" في ذكرى الانقلاب الأربعين كالكراسة الثانية في سلسلة "كاتب الشونة" (الدورة الثانية). وهي سلسلة كتابات نقدية غير دورية في مسألة الثقافة السودانية" صدر منها في 2010 كتابي "بخت الرضا: الاستعمار والتعليم" وانتهز سانحة العيد الأربعين لانقلاب 19 يوليو فأنشره عساه يبدد وحشة هذه الحادثة المأساوية في سوء الأسئلة غير الذكية عنها. وكراسة الانقلاب من 3 أجزاء أنشر الجزء الأول منها في هذه الحلقة ويرد ما بعده في الأيام القادمة
كاتب الشونة 2
كتابات غير دورية في مسألة الثقافة السودانية
انقلاب 19 يوليو 1971: من يومية التحري إلى رحاب التاريخ
عبد الله علي إبراهيم
يوليو 2010
مقدمة
يريد هذا الكتاب أن يجدد النظر في انقلاب 19 يوليو1971 على نظام البكباشي جعفر نميري. لم يدم الانقلاب في الحكم سوى ثلاثة أيام عاصفة وأودى بزهرة قادة الحزب الشيوعي السوداني الذين أٌتهموا بتدبيره. ولقصر عمر الانقلاب المتناهي والأحلام التقدمية التي أذاعها على الملأ جعلنا لفصله الأول عنواناً هو "علم اجتماع الضل (الظل) الوقف ما زاد" بالنظر لمقطع لواحد من حداة التقدم، المرحوم الشاعر عمر الطيب الدوش. وهو وإن لم يقله في مصير 19 يوليو تحديداً إلا أنه مما ناسبه. فظل 19 يوليو انحسر وطوى بين دفتيه حركة إجتماعية غراء للكادحين مثيلها قليل.
يريد الكتاب في تجديده النظر للانقلاب أن يخرج به من "الصندقة"، في العبارة الإنجليزية، التي حاكمته كنبأ وكوزر ثقيل . فالنبأ، في وصف الصحافي الأمريكي جيمس روستون، ما يتسامعه الناس عن الواقعة في الأطراف. ولكن كل واقعة في الحقيقة هي بنت مجتمع وتستحق الدراسة في تدافع أهله. وقد ذهب الناس في تأويل النبأ مذاهب وضعه أكثرها في "سياسات" الحرب الباردة". أما محاكمته كوزر فلها ظرف سياسي سوداني مخصوص. فقد كان الحزب الشيوعي شديد النقد للتكيتك الإنقلابي في العمل السياسي ملتزماً بما أصبح إكلشيهاً: "العمل الجماهيري الدؤوب" لبلوغ الغاية. وروج على نطاق واسع لفكرة أن الانقلاب هو خطة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة للتغيير السياسي والاجتماعي. ثم رآه الناس ضالعاً في انقلابين: 25 مايو 1969 و19 يوليو 1971 فأتهموه بالنفاق واللامبدئية. ومتى رددنا الانقلاب إلى علم اجتماعه فهمنا لماذا نهى الحزب عن شيء وفعل مثله. وليس مطلبنا هنا تبرئة الشيوعيين بل تحسين الطريقة التي نقرأ بها النص كما يتنزل في مجتمع لا يملك منشيء النص لجوائحه دفعا.
يتكون الكتاب من 3 مباحث كٌتبت في فترات متباعدة: 1994، 2005، 2007. وهي إن لم أقصد عند إنشائها جمعها في كتاب إلا أن ما دعاني إلى ذلك هو أن ناظمها هو النظر النقدي للانقلاب والخطاب الذي اكتنفه. وسترى أن المباحث رواحت بين المقال الأكاديمي القسيم (1994)، إلى الكتابة القسيمة غير الأكاديمية (2005) إلى أبواب بالصحف السيّارة (2007). ولربما ترتب عن ذلك لت وعجن من تكرار نأمل ألا يشقى به القاريء.
جئت في المبحث الأول بفكرتين. أولهما وجوب أن ننظر إلى علم اجتماع الانقلاب في تحليل الشيوعيين لأوضاع بلدهم الاجتماعية وحيل طبقاتها وقواها على المسرح السياسي. وبدأنا في المبحث تحليلنا للفحولة السياسية للبرجوازية الصغيرة التي قال الشيوعيون إن الانقلاب هو ديدنها. وجئت في الفصل بنظرية "الوجه والقناع" لتفسير اضطراب الشيوعيين بين النهي عن الانقلاب وارتكابه في وقت معاً. فقلت إن نهيهم عنه هو وجههم الذي يريدون لحزب عمالي مثابر لا يختلس السلطة بليل. أم القناع فهو تورطهم مرة بعد مرة في ارتكاب الانقلاب. ورردت ذلك إلى غلبة البرجوازية الصغيرة في الحزب التي ظلت تخفي خطها الانقلابي تتمضمض خط الحزب "البروليتاري" مضمضة حتى تحين "ساعة الصفر" فتتلمظ السلطان مسارعة إليه.
وعالج المبحث الثاني فحولة البرجوازية الصغيرة في عرينها الانقلابي: ضباط القوات المسلحة. فتعرضنا للعلاقة بين الضباط الشيوعيين والحزب بعد قيام انقلاب 25 مايو الذي كان بعضهم طرفاً مؤثراً فيه. فقد أدى انتقال مسرح السياسة وحيلها إلى القوات المسلحة بسبب انقلاب 25 مايو إلى إزدياد نفوذ أولئك الضباط حتى أنهم جنحوا إلى خط الانقلاب والحزب راغم. وأردنا أن يلقي نظرنا المحدد لهذا المكمن البرجوازي الصغير بعض الضوء على مسألتنا عن إزدواجية الوجه والقناع في الحزب.
أما المبحث الثالث فهو محاولة منا للوقوف على الفحولة الثقافية للبرجوازية الصغيرة المتعلمة. فقد نظرنا إلى عزلتها عن الشعب عزلة اضطرتها لحيلة الانقلاب مجدداً. فقد لقنتها تلك الحداثة أن إرثها الثقافي لغو وباطل حنبريت. وعقد لها سدنة الحداثة لواء "تمدين" الأهالي-أهلهم- ليلحقوا بركب الغرب ب"القطار المار". وقلَّبنا منشأ عزلة هذه الجماعة ووحشتها اللتين حالا ودونها ودون استنفار شعبها بداب لا تكون النهضة بغيره.
ويريد الكتاب بصورة أخص مواصلة التقليد النقدي الجذري للبرجوازية الصغيرة الذي كان سمة فكر أستاذنا عبد الخالق محجوب (1927-1971) ولب ممارسته. فهي فئة مضللة. تحتكر الفكر باسم "الصفوة" ولا تمانع في أن تٌلعَن نهاراً جهاراً لخيباتها "وإدمان الفشل" طالما بقيت هي الخصم والحكم. وهي في نظرها كل منسجم متناسخ الأفراد يقع ويقوم سوياً. وليس مثل عبد الخالق من "نقى شعيرها" واقتحم عليها تواطؤها ونازعها حق النقد. فنقدها حيث ظنت ألا ناقد إلا إياها ونازلها في الساحة السياسية كما سيرى قاريء هذا الكتاب. فلاحق تغبيشها لوعي الكادحين بالوعي المضاد الذي قليله بركة أيضاً.
المبحث الأول
انقلاب يوليو 1971: علم اجتماع "الظل الوقف ما زاد"
أعددت هذه الورقة العلمية بالإنجليزية بالمعهد الدولي العالي التابع لجامعة ميتشجان الأمريكية في نوفمبر 1994م. وقدمتها لسمنار علمي حول فترة ما بعد الحرب الباردة. وقد نشرت النص الإنجليزي بمجلة الدراسات المقارنة في جنوب آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط التي تصدر عن دار جامعة ديوك للنشر( المجلد 16 رقم 1)". ونشرتها جريدة الصحافة بإشراف الأستاذ كمال الجزولي في أول القرن بترجمة لم تنسبها لإسم بذاته. وقد راجعت شغل الجريدة كثيراً شاكراً جهد من عربها اول مرة.
الرادكاليون وانحسار الموجة:
بوسع المرء أن يفهم لِمَ هزت الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين قناعات راكزة عند الراديكاليين الأفارقة والأفريقانيين، أي غير الأفريقيين من جعلوا دراسة أفريقيا أكثر همهم. فكم كانت دهشتهم عظيمة حين رأوا، بعد كل الهجاء النظري للديمقراطية الليبرالية، أنها تسترد اعتبارها واحترامها من جديد . وها هو سمير أمين الذي ظل يهون من الديمقراطية الليبرالية وفرصها في أفريقيا دون كلل أو ملل ، طالما ظلت الطبقة البرجوازية، موئل الديمقراطية الليبرلية، فيها ضعيفة الشأن، يفصح الآن عن التباس وغموض المعضلة التي تواجه الرادكاليين. فهو يقول متبعاً قرامشي، زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي ( 1891-1937)، في وصفه للزمن الذي نعيشه بأنه زمن " انحسار الموجة". وإنه برغم قوة موجة التحرر الوطني الأولي – كما يقول – إلا أن القوى الشعبية لا تزال في مرحلة التكوين، وأنها لم تتبلور وتلتف بعد حول بدائل مناسبة. فتأمل – والقول ما يزال لسمير أمين – هذا الزمان النذل الموصوم بالفوضى والارتباك والاستسلامات الفكرية والسياسية . ويشاطر عيسى شفيجي، الأكاديمي التنزاني، سمير أمين عقيدته في ضرورة الاعتراف بهذه الاستسلامات الفكرية أينما وجدت . وكتب شفيجي، بما وافق قناعته بفساد هذه الاستسلامات، كلمة في ختام كتاب أعده للنشر وحوى الأوراق التي عرضها زملاء له في موتمر ما. وجاءت الكلمة مفارقة لما اتفق لرفاقه الراديكاليين الذين تنكروا لمواقعهم الفكرية الطبقية عن لبرجوازية الليبرالية عازفين علي وترها الذي أصبحت له الشنة والرنة في عالم "انحسار الموجة" . ومما زاد الطين بلة أن هؤلاء الراديكاليين صوروا استسلامهم الفكري هذا على أنه فتح مؤزر لمواقع فكرية برجوازية تقدمية حتى وأن بدأ الأمر وكأنه ليس اكثر من مجرد تكفير عن خطايا ماضي الارتباط السابق بالراديكالية الماركسية .
ويركن الراديكاليون الآن لسحر الديمقراطية الليبرالية دون أن يتهيبوا إتهام الآخرين لهم بالاستسلام. ولتمكين وجهتهم الجديدة هذه فأنت تراهم يعقدون اجتماعات ليشد بعضهم أزر بعض ولها عناوين شفائية مثل: " في سبيل التعامل الجاد مع الديمقراطية البرجوازية " . ولهم إستراتيجيتان في الدفاع عن موقفهم الجديد عن وجوب نضال الاشتراكيين أنفسهم لأجل الديمقراطية الليبرالية " . فهم يسارعون أولا لإنكار او إظهار عدم مبالاتهم بالنعوت التي يعلمون سلفاً أن رفاقهم الواقفين عند المبدأ الأصلي سيرشقونهم بها. فساندبروك، على سبيل المثال ، ينكر أن في استحسانه للديمقراطية الليبرالية –وهو ما قد لا يروق للاشتراكيين – ما يعبر عن موقف لا ثوري . ومن ناحية أخرى يشق كوهين عصا الطاعة ويعلن عن عدم اكتراثه لتهمة الردة عن العقيدة والطرد من الملة. ويقول " وان رموه بتهمة التحريقية فليكن" .
أما ثانياً فهم يعيدون النظر في شجرة نسبهم الثورية ويقتفونها بحثًا عن أسلاف أكثر سعة للديمقراطية الليبرالية وثقة فيها. ومن المفهوم أن يكون لينين هدفا لعملية التنصل من الأسلاف القابضين بسبب نظرته الميكانيكية التي اختزلت الديمقراطية اليبرالية الى مجرد قناع تتخفى وراءه الهمينة البرجوازية "؟ وقد كرهوا في لينين مفهومه عن "الطليعة" وهى صفوة الحزب التي تحمل الوعي إلي الطبقة العاملة وتتدرج بها إلى الثورة . علاوة على عدم استلطافهم لفكرته عن "مراحل الثورة" التي تتدرج بها ثورة الطبقة العاملة من الديمقراطية البراجورزية إلي الاشتركية التي ستؤدي إلى "فرتقة حافل البرلمان" البرجوازي . ورشّح راديكاليو انحسار الموجة برنشتاين، الديمقراطيى الاجتماعي الالماني، بدلاً عن لينين، بوصفه السلف الأكثر ملاءمة للحركة التقدمية في القرن الحادي والعشرين نظراً لاعتقاده بانه ما أن " يقترع العمال للبرلمان حتى يتحولون " الى " مواطنين " بدلاً عن مجرد " بروليتاريا " .
على نقيض الراديكاليين المستميتين يرى الراديكاليون المصلحون أنه يقع على عاتقهم واجب النضال من أجل الديمقراطية الليبرالية . فقد نَمّوا ذوقاً مبتكراً للمارسة الديمقراطية الليبرالية بعد حسرتهم من النظم الاشتراكية التي أحسنوا الظن بها ووالوها فخابت وعابت وأورثتهم حكمة أن لا يقبلوا حتى بالسعادة الاجتماعية حين تفرض من عل على الناس . وخلافاً للراديكاليين المستميتين، لا يرى قوتو في ممارسة الانتخاب وحرية التعبير والتنظيم عيباً يفوح منه نتن البرجوازية أو الليبرالية . ويتمسك كوهين بقوله بحاجة العمال والفلاحين الى نظام قانوني يذلل لهم حق التنظيم والتفاوض والنضال. فالفقراء، بل جميع الناس، بحاجة للحماية من عسف السلطان .
وهذه الحاجة الانسانية للديمقراطية هي أساس دعوة المنادين بتكوين " جبهة متحدة " لليبراليين والاشتركيين على حد سواء في سبيل العمل من أجل حكومة متحررة ومستقلة لتشكم الدولة الخطّاءة والتي استقلت بنفسها عن أوجاع الناس وتقطع الطريق أمام تردي الصفوات الحاكمة في حمأ الفاشية . إضافة إلى ذلك يقوم المصلحون الرايكاليون الآن بإعادة تعريف الاشتراكية حتى تسع أقباساً من الديمقراطية . أما من وجهة نظر كوهين فانه لا يمكن الأخذ بالاشتراكية بديلا عن الديمقراطية . ويرى الاشتراكيون المصلحون أن غياب الديمقراطية هو الذي يباعد بين أفريقيا والتنمية. وهم يرون أن عقيدة رفاقهم المستميتين في النظم الاشتراكية من وجوب التضحية بالحريات من أجل التنمية هي عقيدة قائمة على رأسها وقد استعدلها بيتر ناونجو على قدميها لتصبح الحرية هي شرط التنمية . ويشجب هؤلاء المصلحون ما سلف من الإيمان المفرط بفعالية النضال المسلح وانتزاع السلطة غلاباً وادارتها بواسطة طاقم من الثوريين . وخلافاً لذلك فراديكاليو الموجة يشجعون الحركات الديمقراطية على المزاوجة والتوليف بين الوسائل القانونية واللاقانونية وما بين ذلك قواما في سبيل تحقيق أهدافها . كما تم إقناع هذه الحركات بأن تحسن اغتنام الفضاء الديمقراطي " الذي توفره المؤسسات البرجوازية". وقد شبهوا هذه " الفضاء " بمنطقة محررة تحتلها الحركات الشعبية وتتنفس من فوقها وتنمو صٌعداً .
وجدير بالملاحظة أن هذا الإيمان الجديد بالديمقراطية البرجوازية قد اقترن بالاعتقاد بأن ما أوهن الراديكالية حقاً هو نفاد صبر الراديكاليين في موالاة مشروعهم بترويجه بين الناس وتمكينه بينهم . وحتى المستميتين من الرديكاليين أمثال سمير امين لا ينفك يدعو الى التحلي بحكمة أكل الصبر المر . ويذهب والرشتاين الى أن الراديكاليين قد ضافت صدورهم في العقود الأخيرة فاستحال ماؤهم الى سراب. ويرى جوزيف أنه لابد للأهداف النبيلة أن تصمد أمام تعقيدات وبطء التطور الدستوري الديمقراطي وتتخطاها. فالديمقراطية ليست إقليماً نقياً للسعادة كما أنه لا يمكن القاؤها في سلة المهملات لمجرد انها لا تلبي تطلعات الراديكاليين . فالديمقراطيات لا تنمو إلا عبر الزمن. وتأكيداً لبطء نموها فهم يحيلوننا إلى مجازات عتيقة من صنع الإغريق القدماء. فعلى حد تعبير دايموند فان الديمقراطية – وخلافاً لما يراه الراديكاليون المستميتون – ظاهرة ملوثة ولا تنشأ نقية مكتملة الصحو مثلما انبثقت الربة أثينا من حاجب زيوس .
ويجدد الراديكاليون المصلحون النظر في مسألة الثقافة والديمقراطية لكي يتوطن الثوريون في خصلة الصبر وأن لا "يزفوا" شعوبهم في طرق الفنتازيا الاجتماعية لاستبعادهم أن تكون ثقافتهم صالحة للديمقراطية الليبرالية. فهم قد اقتنعوا الآن أنه لا يوجد ثمة شيء في تركيب الثقافة الأفريقية أو الاقتصاد الأفريقي ما يتعارض مع الديمقراطية البرجوازية ويستغلق دونها. ووفقا لهولنكست فإن عقبة التحول الديمقرطي لأفريقيا لا تكمن في أي من تراكيب الثقافة فيها بل في الظروف السياسية الدارجة الضرورية لتعزيز استدامة تلك الديمقراطية في أفريقيا وغير افريقيا . أما صمويل هنتنجتون فقد شاء أن لا يأتي بذكر فرضية عدم ملاءمة أرض أفريقيا لنبتة الديمقراطية . بل أن إيفن بوست، الذي ما زال يتمسك بهذه الفرضية، لم يعد شديد التشاؤم في ما يتعلق بآفاق الديمقراطية الليبرالية في أفريقيا.
وأنتهى راديكاليو الاصلاح إلى أن الثقافة عنصر قليل الخطر في ما اتصل بنهوض الديمقراطية أو كبوتها. فقد توصل كل من روبنسون (1994) وجان فرانسوا بيار (1993) إلى أن للثقافة دينامية محايدة. فهي لا تعيق الديمقراطية ولا تعينها. وقد استخلصا هذا الموقف عن حياد الثقافة من نظرية مبتكرة في حقل علم الثقافة هي نظرية الممارسة. فقد كان علم الثقافة يحلل الوقائع التى بين يدينا وكأن حدوثها بالصورة التي نراها ضربة لازب أو قدر اجتماعي مكتوب. حلافاً لذلك فنظرية الممارسة ترى في الأفراد المجتمع لاعبين مهرة قادرين على تشكيل الوقائع بمشئية منهم. فهم يستصحبون التغيير من حولهم بنظر محيط وذكاء دقيق وشغف مستنير يأخذون منه بمقدار ما يجدد حياتهم ويغنيها . فالثقافة بحسب نظرية الممارسة ليست عائقا لنبتة الديمقراطية. بل الثقافة بما رحبت ، في قول هذا الرهط، ربما كانت خميرة تعجل بازدهار الثقافة .
يجدد المصلحون من الراديكاليين النظر في عقيدة سادت بين الراديكاليين قوامها أن الديمقراطية لا تكون بغير نشأة طبقة البرجوازية. وكانت هذه القناعة طريقاً مختصراً للراديكاليين لنفاد الصبر في خير الديمقراطية الليبرالية لأن أفريقيا لم تشهد بعد نمو مثل هذه الطبقة في مجتمع مدني موفور الصحة السياسية. ولهذا كانت أفريقيا عندهم غير أهل للديمقراطية وهذا ما أغراهم بإرتكاب مغامراتهم الاجتماعية بتجريع الناس غصص التقدم . وقد جاء هؤلاء المصوبون من الراديكاليين الاصلاحيين بعوامل أخرى بها تزهر بذرة الديمقراطية الليبرالية في أفريقيا. فقد شددوا على أن الثقافة السياسية أو المدنية ستمكنان للديمقراطية البرجوازية في افريقيا . كما علقوا أكبر أملهم في تنشئة الديمقراطية علي إفشاء عادة الديمقراطية التي هي ما يغرسه قادة العمل العام بتوخي الحق والعدل في سياستهم والالتزام بالمحاسبة والشفافية. وهي عادة لا غنى عنها لنضج الديمقراطية أينما كانت. ولن يجد قادة افريقيا في ثقافتها ما يشاكس عادة الديمقراطية. بل ربما وجدوا فيها تراثاً حافلاً بها .
التجربة السودانية في افريقيا:
يعتري كتابات الراديكاليين المعاصرة عن افريقيا هاجس أن هناك ما قد يتعلمه الثوريون، في حوارهم الحثيث عن فرص الديمقراطية الليبرالية في أفريقيا، من خبرات الحركة الجماهيرية في السودان وتجربة الحزب الشيوعي . فقد توقف بن تركوك عند منهج الحزب في تغليب العملي والواقعي في ممارسته السياسية، من غير إسفاف وترخص، في سبيل تثبيت علاقة إستراتيجية ذكية بين النضال من أجل الديمقراطية والنضال من أجل الاشتراكية في افريقيا . ووصف هذا المنهج بأنه "منقطع النظير" ولم يقع لغير الشيوعيين السودانيين في افريقيا .
وسيكون موضوع هذا الكتاب تحري الطريقة التي توسل الحزب الشيوعي السوداني للنضال للتغيير الاجتماعي بوسائط الديمقراطية البرجوازية. وسنفرد هنا اهتماماً خاصاً لجهد الحزب في تعزيز مواقع الجماهير عن طريق الدفاع عن " الفضاء الديمقراطي" الذي توفره الديمقراطية البرجوازية ضد المخاطر ولا سيما مغامرات البرجوازية الصغيرة. وعليه فان المقالة ستركز على منهج الحزب الذي استهجن التكتيكات الانقلابية ودعاوي " الديمقراطية الجديدة " بوصفهما تكتيكات برجوازية وحيل مغامرة ترمى لاغتصاب السلطة وتسنم سدة الحكم. ولا تري هذه الدعوة الراديكالية لضبط النفس السياسي، التي ينطوي فيها الصبر على مضمون طبقي، في من يتورط في الفنطازيات الاجتماعية التقدمية الفطيرة التي لم يحن أوانها مجرد فاعل خير ضال. فمن منظور قناعة الحزب فإن "المخرمين" لسعادة الناس والاشتراكية برغماً عنهم نهازون للفرص لأن العجلة واستباق نضج المعاني هما حيلتهما الفريدة إلى الحكم. وانصافا لهذه السياسة متعددة المستويات وناشطيها الأسوياء فاننا سننظر اليها على خلفية الانقلاب المنسوب للشيوعيين في يوليو 1971م ضد نظام نميري " 1969-1985م ". وهو مغامرة دفع الحزب لها ثمناً باهظاً. فقد أريقت دماء زبدة القيادة اليسارية لأجيال ثلاثة إلا قليلا. ومن جهة أخرى فقد إصيبت مصداقية الحزب في الصميم لأنه نهى عن فعل، وهو الانقلاب، وأتى مثله: عار عليك إذا فعلت عظيم.
خلفية عن دعوة الحزب الشيوعي لليبرالية:
تعود استراتيجية الحزب القائمة على أن الصراع من أجل الاشتراكية والصراع من أجل الديمقراطية متلازمان بصورة لا فكاك منها إلى نشأته عام 1946م ونهوضه اللاحق الذي تلازم مع بروز الحركة النقابية وسط العمال ومزارعي المشاريع الزراعية الحكومية. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبعد لأي، منحت الإدارة البريطانية الاستعمارية العمال حق التنظيم بإفتراض أن مؤسسات سودان الحكم الذاتي ستقلد تلك القائمة في حاضرة الإمبراطورية. وفي واقع الأمر فقد ترعرعت الحركة النقابية وسط العمال والمزارعين واشتد عودها من خلال النضال ضد القيود التي فرضتها عليها الادارة الاستعمارية في الجوانب المتعلقة بحدود ووظيفة وتمثيل التنظيمات النقابية الناشئة. ويصف إي بي بروان نهوض الحركة النقابية السودانية في عقد من الزمان، بناء على كتابات المرحوم سعد الدين فوزي المميزة عنها، وكأنه قد انبثق من العدم أو كاد .
ووجد هذا الربط بين الديمقراطية والتغيير الاجتماعي مباركة مؤتمرين للحزب انعقدا لاحقاً. فقد وضع المؤتمر الثالث للحزب المنعقد عام 1956م، سنة استقلال السودان، الاشتراكية كهدف أعلى للحزب. ولتحقيق هذا الهدف وَطّن الحزب نفسه على بناء السودان كدولة ديمقراطية شعبية تتبع نهج التطور غير الرأسمالي بقيادة الطبقة العاملة وحلفائها بين المزارعين. ولا شك أن الحزب قد تأثر في بلورة هذه الصيغة بنهوض الحركات الاشتراكية والديمقراطية الشعبية في بلدان أوروبا وآسيا. وما حال دون أن تصبح هذه الصيغة مجرد ترديد ببغائي لمصطلح زمانها وعباراته هو الممارسة العينية الملموسة للحزب في مناخ سياسي اتسم بتنام الحركة النقابية . ثم جاء المؤتمر الرابع للحزب عام 1967م مسانداً في مجمله لإستراتيجية الولوج إلى التغيير الاجتماعي من بوابة الحقوق الليبرالية البرجوازية أيضاً، وإن خالط هذا التائيد شئ من شبهة في الديمقراطية البرجوازية وصِدق ما تدعي من حقوق .
وكان للحزب سببان للريبة في الديمقراطية الليبرالية يوم انعقد مؤتمره الرابع. أولهما أنه قد وقع أسيراً شئياً ما لجاذبية الاشتراكيات العربية والافريقية الناهضة في الستينيات التي إما قادها حزب واحد أو جباه يأتلف فيها الديمقراطيون الثوريون.وبدا آنذاك أن بوسع الثوريين "حرق مراحل التطور الاجتماعي" ،كما يقال، وبه انتفت الضرورة أو الحاجة للمرور بمرحلة الهيمنة البرجوازية. فتطور المجتمع سيحرق مرحلة هذه الهيمنة قفزاً إلى الاشتراكية. أما السبب الثاني فهو أن المؤتمر قد انعقد في ظل ظروف كان الحزب فيها هدفاً لاضطهاد سافر من قبل "برلمان متوحش". فقد استبد الغِل بصدور خصومه السياسيين في الأحزاب الدينية والتقليدية وهم يرقبون تقدم أدائه السياسي ( وفي الانتخابات حيث أجريت) قبل وأثناء وبعد ثورة اكتوبر 1964م التي أسقطت ديكتاتورية الفريق ابراهيم عبود التي صعدت إلى سدة الحكم في عام 1958م. واستهدفت الهجمة الشرسة على الحزب مكمن الضعف فيه أو "كعب آخيله " ،كما يقال، ألا وهو الإلحاد. ونشطت حملة لحل الحزب في أواخر عام 1965م فيما عرف بحادثة معهد المعلمين العالي التي أٌتهم فيها طالب- يشتبه في أن له علاقة بالحزب – بالتَقول على بيت النبوة. وتداعت لحل الحزب قوى أحكمت نسجها وتوزعت الأدوار. واستجابة لضغط هذه القوي اجتمع البرلمان وأجرى تعديلاً دستورياً حل به الحزب وطرد نوابه البرلمانيين التسعة شر طردة. غير أن المحكمة العليا، التي لجأ اليها الحزب، قد قضت بعدم دستورية حله. الا أن السلطتين التنفيذية والتشريعية لم تعيرا قرار المحكمة العليا اهتماماً بل إختطا خطة لتأمين البيئة السياسية لتسد المنفذ لعودة الحزب للمسرح السياسي. وفوق ذلك كله نشطت الدوائر المعادية للحزب لتضع مسودة لدستور اسلامي متفقاً عليها أمام البرلمان. فبمثل هذا الدستور تقطع هذه الدوائر قول كل خطيب شيوعي.
عليه فإنه يصعب جداً لوم الحزب بسبب شبهاته حيال الديمقراطية الليبرالية التي أسفرت في وثيقة مؤتمره الرابع المعنونة: الماركسية وقضايا الثورة السودانية. فقد توصل المؤتمر الى أن التطلعات الاجتماعية والديمقراطية التي علقها الناس على ثورة اكتوبر 1964م قد خرقها البرلمان الذي جاء نتيجة لتلك الثورة. وأضاف المؤتمر أنه من العجب أنه تم التنكر للحقوق الليبرالية والإشمئزاز منها تحت دعوى حماية الديمقراطية الليبرالية من أعدائها الشيوعيين. وزاد بأن قال إن زيف الديمقراطية الليبرالية في السودان حقيقة توصلت إليها الأقسام الطليعية من الجماهير منذ أواخر الخمسينيات وقبل انقلاب 1958م . وبدلاً عن الديمقراطية البرجوازية يقترح التقرير صيغة السلطة الوطنية الديمقراطية كصيغة للديمقراطية " الموجهة " أو الجديدة . واستوحى الحزب تهافت الديمقراطية الليبرالية ليسأل عما كانت الديمقراطية الغربية مما يصلح للسودان. واتخذت شكوك الحزب نحو صلاحها صورتين، اولاً: شجب الحزب بحرقة خصومه السياسيين على انتهاكهم قواعد اللعبة البرلمانية التي إدعوا التزامهم بها. فقد اتضح أن الحقوق التي تكفلها البرجوازية الليبرالية للجماهير هي فوق احتمالهم . ويمضي المؤتمر الرابع قائلاً:
"إن الضيق والفشل (ضيق اليمين التقليدي بالحقوق البرجوازية وفشله في مقابلة مستوجباتها) . . . ترجع أصولهما إلى أن الحقوق الديمقراطية البرجوازية نفسها أصبحت عاملاً في جلب الأقسام العاملة في القطاع التقليدي (الريف حيث تسود هذه القوى الطائفية الدينية والقبلية) إلى ميدان النشاط السياسي والاجتماعي ." أما مصدر ريبة الحزب الثانية في الديمقراطية الليبرالية فهي ما توصل إليه، مثله في ذلك مثل الثوريين في العالم الثالث، من استحالة إبتداع صورة من الديمقراطية الليبرالية صالحة للتطبيق في بلد كالسودان يرزح 87% من جملة سكانه تحت قهر الطوائف الدينية وعلاقات شبه الاقطاع في القطاع التقليدي. ويعيد الحزب هنا وحهة النظر الشائعة في أوساط الثوريين التي ترد خيبة الديمقراطية الليبرالية في العالم الثالث إلى خصيصة في تركيبة مجتمعاتها. وقد سبق ذكرنا لذلك. فسيصعب، وفقاً لهذا المنظور البنيوي، علي الديمقراطية الليبرالية أن تضرب بجذورها في بلاد تفتقر إلى طبقة برجوازية متماسكة وواعية بكينونتها الطبقية. وأشار تقرير المؤتمر الرابع إلى نقص في القواعد الاجتماعية التي يمكن أن نبني عليها نظاماً برلمانياً برجوازياً في السودان. فالتقرير يقول:
وفي نفس الوقت فإن الطبقة الرأسمالية نفسها، التي يمكن أن تبني هذا النظام السياسي البرجوازي، ما زالت من أضعف الطبقات الاجتماعية في البلاد اقتصادياً وسياسياً، وهي ما تزال لا تستطيع التعبير المستقل عن ذاتها إلا في حيز التحالف مع القوي القديمة القبلية وشبه الاقطاعية .
وعليه فان أقصى ما يمكن أن تنجزه هذه الطبقة – من منظور التقرير – هو نظام سياسي برلماني شكلي معزول عن حيوية وأشواق حركة الجماهير الواعية سياسياً. وأكد التقرير أن هذه الطبقة، بما هي فيه من وهن، ستلقي بالديمقراطية الشكلية نفسها إلى قارعة الطريق وتسلك مسلك العنف الوحشي متي ما تعرضت مصالحها لأي تهديد .
من الانقلابات ما تصحو به من غفلة ومنها ما قتل
تعرضت عقيدة الحزب المرتابة بالديمقراطية الليبرالية إلى اختبارين في 1969م و1971م بواسطة انقلابيين تقدميين. وأسفر الانقلابان عن مشابه من سوء ظن الحزب في تلك الديمقراطية، إن لم يكونا قد استلهما هذه الريبة منه هو نفسه إلى حد كبير. ولسوف نرى لاحقاً كيف سعى الحزب حثيثاً ل " طرد أرواح" الشكوك التي ساورت نظرته للديمقراطية الليبرالية من خلال الممارسة والحوار السياسي الواسع داخل الحزب، وعلي نطاق المجتمع السوداني بأسره، في الفترة التي سبقت انقلاب مايو 1969م وأعقبته. فقد خَلٌصت أخيراً عقيدة الحزب في هذه الديمقراطية من الشوائب خلال جداله ضد التكتيك الانقلابي ومضامينه الاجتماعية والسياسية. وقد تكبد الحزب الأمرين حتى خلصت له الليبرالية معافاة من ظنونه القديمة بها. فجر عليه ذلك أن انقسم على نفسه بصورة داوية باهظة التكلفة عام 1970 قبل أن تتعمق حماسته من جديد للديمقراطية الليبرالية.
قبيل انقلاب مايو 1969م
شهدت الفترة التي اعقبت انعقاد المؤتمر الرابع للحزب عام 1967م نشر الكتابات التى نضج فيها موقف الحزب عن تلازم التغيير الاجتماعي والحقوق الليبرالية. وهي كتابات فضلها كله منسوب لعبد الخالق محجوب سكرتيرالحزب العام منذ 1949 الذي تمتع بكريزما آسرة. وهي مواقف تطورت ونضجت خلال الصراع ضد فصائل البرجوازية الصغيرة داخل وخارج الحزب. وكانت هذه الأقسام، وفقا لتقرير المؤتمر الرابع، قد فقدت ثقتها في العمل الجماهيري الشعبي وغرقت في لجة اليأس والاحباط واللامبالاة تحت وطأة انتكاس ثورة اكتوبر 1964م. وكان تقرير المؤتمر الرابع في 1967 قد سمى باكراً هذه الفصائل ب" المغامرين " لأنها خَلٌصت إلى بطلان العمل الجماهيري بعد انتكاسة اكتوبر. وبديلاً عن ذلك دعت الحركة الثورية إلى إطراح، بل نبذ، التعلق بالحقوق الليبرالية واللجوء للعمل المسلح. وواصل عبد الخالق صراعه ضد " المغامرين " في مؤلفه " قضايا ما بعد المؤتمر الرابع 1968م " مشددا على أنه لا غنى عن الحقوق الليبرالية في سبيل تعزيز مواقع الجماهير وإعلاء دورها. ويكتب عبد الخالق في ذلك قائلاً:
فالقوى المغامرة اليائسة من البرجوازية الصغيرة ترى أن النضال من أجل الحقوق الديمقراطية البرجوازية لا يقود إلى شيء وأن الطريق هو الدعوة من فوق رأس البيوت للديمقراطية الجديدة وحدها .
ولكن حتى لوقت متأخر من عام 1968م كانت الشكوك في الديمقراطية تساور عبد الخالق من جهة نفعها للنضال الثوري في المدي الطويل. فقد ورد في كتابه " قضايا " حديث عن نقص الأسس المادية والثقافية لتوطد الديمقراطية البرجوازية في البلاد. فمن الوارد بناء على ذلك ألا يسلك السودان طريق التطور الطويل البطئ تحت قيادة الطبقة البرجوازية. ويمضي إلى القول بامكانية حدوث طفرة ثورية تفتح الطريق امام التقدم والديمقراطية .
ولم يكن خافيا أن " المغامرين " في صفوف الحزب كانوا في حالة غزل مع فكرة التدخل العسكري كمخرج من المأزق السياسي بعد ردة ثورة أكتوبر. واضطر عبد الخالق محجوب نفسه لمناقشة هؤلاء " المغامرين" من خاصة رفاقه علي الملأ. فقد دعا أحمد سليمان، وهو أحد اصدقاء عمر عبد الخالق وعضو بلجنة الحزب المركزية، في أحد الصحف البرجوازية، علي حد قول عبد الخالق، لإعادة السيناريو السياسي الذي تحققت به ثورة أكتوبر وهي التي غلبت قيادة البسار لها . وكان من رأى أحمد سليمان تشكيل حكومة وحدة وطنية على غرار تلك التي تمخضت عنها ثورة أكتوبر قوامها الاحزاب السياسية والنقابات واتحادات المهنيين. وزاد قائلاً إنه لكي تستقر هذه الحكومة وتبقى فانها لابد من ان تحظي بحماية القوات المسلحة . وفي معرض رده أشار عبد الخالق إلى خطأ رفيقة في النظر إلى القوات المسلحة، المدعوة لحماية حكومة الوحدة الوطنية، كقوة متجانسة منسجمة وفوق الصراع الطبقي.
وتطور غزل المغامرين مع القوات المسلحة ليصبح عقيدة كاملة عن فعالية التكتيك الانقلابي كأداة للتغيير السياسي بديلاً للعمل الجماهيري. وطرحت هذه الجماعة الموصوفة بالمغامرة، بحسب تقرير حزبي للجنة المركزية عن اجتماعها في مارس 1969، هذا التكتيك الانقلابي ليجيزه ذلك الاجتماع غير أنهم باءوا بالفشل. ولكن الموصوفين بالمغامرين إدعوا فيما بعد أن التقرير الصادر عن الاجتماع لا يمثل اللجنة المركزية، وإنما هو من عمل عبد الخالق وضمَّنه وجهة نظره وكفى . وعلى أية حال فقد أكد التقرير "استحالة استبدال العمل الجماهيري الدؤوب بالتكتيكات الانقلابية ." وكان من رأي التقرير أن من شأن الانقلاب العسكري أن يجعل قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية في يد البرجوازية والبرجوازية الصغير. وكان الحزب قد سبق أن خَلٌص إلى أن كلا الطبقتين لا تصلحان للقيادة نظراً لأن هناك أقساماً من البرجوازية معادية للثورة من حيث المبدأ أما البراجوازية الصغيرة فتتسم بالبلبلة ويعوزها الثبات مما سيعرض النضال الثوري لآلام وتضحيات لا ضرورة لها . وفي مواجهة دعاوى التكتيكات الانقلابية احتفى تقرير 1969م بالديمقراطية الليبرالية وبشر بها. فقد دعا التقرير إلى تكوين أوسع تحالف ممكن في ظل " دستور ليبرالي " بين كافة القوى المناهضة لمسودة الدستور الاسلامي لعام 1968م . يقول التقرير في شجبه للانقلابيين:
إن احلال التكتيكات الانقلابية محل العمل الجماهير يعبر عن مصالح الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية في نهاية المطاف .
وهذا الشجب للتكتيك الانقلابي ستتردد أصداؤه في دهاليز الحزب بعد انقلاب 1969. غير أنه سيقتص لنفسه من الحزب الذي ارتكب في لحظة وسن سياسي انقلاباً كان قد نهى عنه.
انقلاب مايو 1969م
بيت الطاعة
بدا للكثيرين أن تحالف الشيوعيين مع انقلابيّ مايو 1969م، بقيادة جعفر نميري، أشبه بشهر عسل حافل بالمشاكسة انتهى إلى طلاق مزلزل ومفاجئ بعد انقلاب 1971م المنسوب إلى الشيوعيين. وغاب عن هؤلاء أنه - على الأقل بالنسبة لعبد الخالق محجوب وجناحه داخل الحزب – أن ذلك الزواج المزعوم لم ينعقد أصلاً. وسنمضي خطوة أخري بمجاز العرس الشائع لنقول إن انقلابيّ 25 مايو، كما هم في نظر عبد الخالق، قد زجوا بالحزب في " بيت للطاعة " على النحو الذي تجبر به المحكمة الشرعية الزوجة الناشز الحرون على طاعة زوجها والعيش معه. ولكن حتى في هذه الحالة يظل التشبيه قاصراً ومختلاً لأن " بيت الطاعة " مما يفرض على الزوجات وليس الصديقات أو المرافقات اللائي تحتفظ لهن الشريعة الإسلامية في مادة العقوبة بما لا يسر من المفاجآت. ويأتي عنصر إكراه الحزب على الاشتراك في انقلاب 25 مايو هنا من أن الضباط الشيوعيين، ممن كان لهم وجود مميز في تنظيم الضباط الأحرار الذي نفذ الانقلاب ، صوتوا مرتين، في أكتوبر 1968م وأبريل 1969م، ضد تنفيذ الانقلاب . ولا شك أن اعتراض هؤلاء الضباط على الانقلاب قد انبني على موقف الحزب الحازم ضد التكتيكات الانقلابية على النحو الذي بيناه آنفاً. وهو موقف عبد الخالق خاصة الذي كان يشرف بنفسه على عمل الحزب وسط الضباط الشيوعيين. وخلال التصويت كان الضباط الشيوعيون في الأقلية في الاقتراع الأول إلا أنهم أصبحوا الأغلبية داعين إلى ترك فكرة الانقلاب. ومع ذلك لم ترعو الأقلية التي قادها جعفر نميري وسدرت في غيها الانقلابي. واغتصبت السلطة في 25 مايو 1969م من برلمان متوحش وحكومة سيئة السمعة .
وكان واضحاً أن بذرة الشقاق النظري والعملي بين فصيل عبد الخالق محجوب داخل الحزب من ناحية والانقلابيين من الناحية الأخرى قد بٌذرت في مساء يوم الانقلاب نفسه . ففي ذلك المساء أصدرت اللجنة المركزية بيانا لتقويم الانقلاب أعاد فيه عبد الخالق موقف الحزب الثابت من التكتيكات الانقلابية كما هو مبين في تقرير اجتماع اللجنة المركزية في مارس 1969م. ورأينا كيف أنكر خصوم عبد الخالق في الحزب إنعقاد الإجماع على ذلك الموقف في اللجنة المركزية. وخلافاً لتصريحات الانقلابيين بأن ما قاموا به صبيحة 25 مايو هو " ثورة " ، وصف بيان الحزب الشيوعي المسائي ما حدث في صبيحة ذلك اليوم بأنه انقلاب " نفذه ضباط البرجوازية الصغيرة داخل الجيش. ولم يبد الحزب ارتياحه لا للطريقة التي تسلموا بها السلطة ولا لأصولهم الطبقية في المجتمع. فقد الوصف البيان انقلاب نميري بأنه مخاطرة ووصم البرجوازية الصغيرة التي قادته بأنها لم تصمد أمام اختبار الحزم والاستقامة منذ أن خرجت للعمل السياسي المستقل في ثورة أكتوبر 1964م. ومع ذلك فقد أقر البيان الطبيعة اليسارية للانقلاب. بل كان الانقلابيون في كل ما اذاعوه من أهداف وبرامج إنما ينقلون نقلاً من أدب الحزب الشيوعي عن مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. ودعا البيان أعضاء الحزب لمناصرة الانقلاب عبر شن صراع لا يهدأ لفتح ميادينه أمام المشاركة الشعبية لتقليل النتائج المؤذية التي قد تنجم من إنفراد البرجوازية الصغيرة به. وغير خاف على القاريء فتور بيان الحزب تجاه التغيير الذي أحدثه انقلاب مايو. ودفع خبو الحماسة للانقلاب في بيان الحزب عضواً بمكتيه السياسي من خصوم عبد الخالق لوصفه ب" الوثيقة الملعونة ".
وسواء بوركت الوثيقة أو لٌعنت فقد أثارت مناقشات حامية تميزت بقدر طيب من الاستنارة حول التمييز بين "الثورة" و"الانقلاب" وسط الحزب وفي المجتمع بأسره. وتطرق هذا الجدل لبعض المفاهيم النظرية منها مفهوم لينين عن أشراط " العصيان المسلح " و " الأزمة الثورية " ومفهوم بلانكي عن "الطليعة" ومفهوم " الديمقراطيين الثوريين " لدى المنظرين السوفيت المعاصرين الذي استبدلوا به مفهوم البرجوازية الصغيرة أو تجاوزوه، وكذلك مفهوم الدور التقدمي المزعوم للقوات المسلحة في بلدان العالم الثالث. وسوف نرى كيف أدى اشتراك الشيوعيين في انقلاب 19 يوليو إلى تعطيل كل اجتهاد جديد في فصل الانقلاب والثورة الذي خَطّوه في مواجهة انقلاب مايو، وقد تعلموا به ومنه، وكذلك الجمهرة علماً نافعاً كثيراً.
ما بعد الانقلاب:
على الصعيد العملي كان على الحزب منذ اليوم الأول للانقلاب أن يقبل بمضاضة بتعيين عدد من الشيوعيين في مجلس الوزراء دون استشارة قيادته. ولم ير مَن تحمس للانقلاب من الشيوعيين سبباً ينتظر به الوزراء الشيوعيون موافقة اللجنة المركزية للحزب قبل أن يحضروا اجتماع مجلس الوزراء الذي كان مقرراً عقده مساء نفس يوم الانقلاب. وبدت موافقة اللجنة المركزية لأولئك الوزراء بحضور ذلك الاجتماع كمجرد شكليات عقيمة نظراً للطبيعة التقدمية للانقلاب الذي خاطر بتمثيل حزب محاصر سياسياً في مجلس وزرائه. وخسر عبد الخالق محجوب التصويت الذي جرى بين اعضاء اللجنة المركزية التي أرسلت الوزراء الشيوعيين علي عجل لحضور الاجتماع الأول لمجلس وزراء الانقلاب في موعده بدون مناقشة لمبدأ اختيارهم بإرداة المنقلبين بغير مشورة الحزب . ثم اجتمعت اللجنة المركزية لاحقاً وأجازت مبدأ المشاركة في مجلس وزراء الانقلاب بما يشبه سبق السيف العزل. ورضخ عبد الخالق لهذه البادرة الأولى لتجاوز الحزب نزولاً عند قول القائل إن غياب الوزراء الشيوعيين قد يغري القوي الرجعية لتظن الظنون بمتانة التحالف التقدمي الناشيء. غير أنه شدد أن تعطيل الحزب لمبدأ الشوري حول وزرائه هذه المرة بالنظر للظروف الطارئة التي احاطت بالحكومة الجديدة لا ينبغي أن يكون سابقة تأذن للانقلابيين، في مستقبل علاقتهم بالشيوعيين، أن يتطفلوا على شأن الحزب الداخلي يأمرونه فيطيع. قال إن هذه السابقة في توظيف المثقفين الشيوعيين من وراء ظهر حزبهم قد تٌقَوي بين الانقلابيين اعتقاداً سائداً أصلاً وسط دوائر البرجوازية الصغيرة العربية والأفريقية لا ترى ضرورة لوجود الحزب الشيوعي ذاته لانجاز مهام الثورة الاجتماعية .
تنامت قناعة الحزب الشيوعي بأهمية الحقوق الليبرالية بوتائر متسارعة خلال جدالهم مع نظام نميري والعلاقة العاصفة التي ربطت بينهما ومن خلال الصراع الداخلي بين جناح عبد الخالق محجوب والتيار الآخر الذي تطابقت مواقفه مع الانقلابيين. واحتدم النقاش داخل صفوف الحزب حتى بلغ ذروته في مؤتمر الكادر التداولي في أغسطس 1970م. و قادت الخلافات فيه لوقوع انقسام نتج عنه قيام حزبين مستقلين. وتداول أعضاء الحزب قبل المؤتمر وخلاله النقاش في خمس وثائق تمثل رأي الفصيلين. وبلغ من حيوية الجدل أن وقائع اجتماعات اللحنة المركزية المنشورة لم تعد تقريراً اجمالياً كسائر التقارير بل ما يشبه صورة النص المسرحي احتفظ فيها كل عضو بصوته الخاص. وهذا شيء أملاه طلب الدقة وأن لا ينسب لعضو غير ما قال في ظرف حرج إعتقد فيه أولئك الأعضاء أنهم أمام تبعة تاريخية كبرى في منعطف عظيم في تاريخ الحزب والوطن. ووضع الحزب للنقاش أمام مؤتمر الكادر التداولي وثيقتين ضافيتين كما نشر تفصيلاً وقائع المؤتمر نفسه. وساد رأي عبد الخالق، الذي هفت له قلوب وأفئدة قاعدة عضوية الحزب، غير أن الانقسام وقع وطال أكثر من نصف أعضاء اللجنة المركزية.
شارومة للثوريين:
تناول عبد الخالق محجوب موضوع الحقوق الليبرالية في مستويات مختلفة أثناء سجالاته مع الانقلابيين. وكان من الواضح أنه واصل مشاوراته مع بعض أقسام التحالف الليبرالي المناهض لمشروع الدستور الاسلامي الذي كنا قلنا إن القوى المناوئة للشيوعية قد أعدته لمحو الحزب الشيوعي من ساحة السياسة قبل أن يقلب انقلاب 1969م التقدمي المائدة بوجهها. كما كان جلياً أيضا أن عبد الخالق كان يسعى لكسب السيد الصادق المهدي إلى صف الانقلاب، لا سيما وأن الصادق، الذي كان قد شرع في تحديث حزبه، حزب الأمة، في وجهة الليبرالية، كان يبدي ويعيد حول سداد فكرة حل الحزب الشيوعي عام 1965م الذي لعب فيه حزبه،حزب الأمة، دوراً نشطاً مقدماً. ومن الطريف أن خصوم عبد الخالق في الحزب الشيوعي كانوا اتهموه دائما بضعف خاص تجاه السيد الصادق آملاً أن تلطف ثقافة الصادق المستقاة من أكسفورد من عداء حزبه التقليدى للشيوعية. ومن الثابت أن عبد الخالق كان على اتصال بالصادق حتى بعد وقوع الانقلاب. واتهمه خصومه بأنه اطلع السيد الصادق على مسودة تحليله الناقد السلبي للانقلاب قبل مناقشتها داخل اللجنة المركزية للحزب . على أنه من المهم التنويه بأن عبد الخالق كان تفهم انتقادات السيد الصادق للانقلاب التي تركزت حول المغالاة في تمثيل الشيوعيين في مجلس وزرائه. وكان السيد الصادق قد نقل وجهة النظر نفسها لجعفر نميري وطلب تصحيح الوضع حتى ينفتح الباب أمام علاقة إيجابية بين النظام وحزبه. وقد أراد عبد الخالق أن يكسب الصادق للنظام الجديد ويكف أذاه عنه. فقد كان عبد الخالق سيء الظن بالنظام وقليل الثقة في رباطة جأشه متى صار هدفاً لضغوط القوى التقليدية النافذة الحاذقة. وأقترح عبد الخالق على لجتنة المركزية خفض عدد الوزراء الشيوعيين في الحكومة ونزع الأستاذ فاروق أبو عيسى، نائب وزير الخارجية، لأنه شيوعيته الصارخة مما أزعج الدوائر المحافظة دائماً . وبينما كان عبد الخالق مشتغلاً بتخفيض التمثيل الشيوعي في السلطة الجديدة لتطمئن القوي التقليدية ما وسعها للنظام ولا تعادية بقوة كان خصومه عبد الخالق قد اتهموه برفض عرض قادة الانقلاب بتعيين ثلاثة وزراء شيوعيين آخرين في مجلس الوزراء . وهال منافسوه داخل الحزب وقادة الانقلاب كذلك أن رأوه يقترح على النظام منح السيد الصادق المهدي منصباً وزارياً في الحكومة. وقد هالهم من ذلك أن التحليل الماركسي السوداني درج دائما على نسبة حزب الامة، وبصورة مستقيمة، إلى القوى شبه الإقطاعية التى تعاونت مع الاستعمار قديمه وجديده. ولعل في هذا ما يفسر اتهام خصوم عبد الخالق داخل الحزب له بضعف يميني للسيد الصادق تعود جذوره إلى عام 1965م .
ومن جهة النشاط الجماهيري اعترض عبد الخالق على البيانات الجمهورية التى صدرت في اليوم الأول للانقلاب افحلت الأحزاب وحرمت الاضراب. ولم ير عبد الخالق سبباً واحداً لحل حزبه. أما خصومه في الحزب فلما يمانعوا في حل الأحزاب طالما بقي حزبهم هو الحزب الحاكم فعلاً. وقد هجوا زعيمهم لتمسكه بشجرة حزبه مضرباً عن رؤية غابة الرجعيين ، من برلمان مؤذ وأحزاب تقليدية ومجلس وزراء، التى ناضل الحزب ضدها طويلاً، وهي تهوي على عروشها بفضل النظام الجديد. وكان من رأي الخصوم أن مثل موقف عبد الخالق من حل حزبه هو مجرد تنطع لأن الحزب لم يكن ممثلاً في مجلس الوزراء فحسب بل كان يجتمع بانتظام مع ممثلين للانقلابيين لتبادل الرأي حول أداء الحكومة الجديدة.
كان دفاع عبد الخالق عن الوجود القانوني للحزب وعن حق العمال في الاضراب مبنيا على قناعته بان نجاح مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، كمرحلة إنتقالية غنية بالصراع الطبقي، يعتمد على تمتع الجماهير بأعلى مستويات الديمقراطية . وفي رأيه أيضا أن رفض الجماهير المتقدمة الخضوع لحرفية الديمقراطية البرلمانية الغربية لا يعني بالضرورة عدم رغبتهم في العيش في ظل حكم نيابي . وضاق بعبد الخالق خصومه لأنه لم يعجبه تعيين الشيوعيين في مجالس إدارات مجالس الحكم المحلي والمؤسسات العامة وتحججه بأن الناس لم يتح لها انتخاب مندوبيها لهذه المجالس. وانتقد عبد الخالق الحكومة أيضا على مصادرتها لممتلكات العديد من الرأسماليين بموجب قرارات التأميم والمصادرة عام 1970م مطالبا بأن المحاكم وحدها هي التي تفصل في مسألة بهذا العظم متي نشأت الضرور ة لمثل هذا الإجراء الشديد بحق رأس المال. ونعى خصومه استدارة الزمان حتى أخذ السكرتير العام لحزب شيوعي يدافع عن الملكية الخاصة دون حياء.
وسخر عبد الخالق أيما سخرية من تأميم الدولة لاستثمارات الأغاريق الصغيرة من مطاعم ومخابز وبارات.واستعجب لإدارة الدولة لها بعد التأميم. ووجه سياط سخريته اللاذعة أكثر ما وجهها لرفاقه في الاتحاد العام للنقابات ممن اوكلت لهم مهمة إدارة بار ومطعم " كوبا كوبانا " المواجه للسفارة الامريكية والذي يأوي اليه دبلوماسيوها للشرب والسمر. كما طلب عبد الخالق من الانقلابيين التمييز بين سيطرتهم على أصول وممتلكات الصحف بالتأميم وبين تكميمه للأفواه ومصادرة حرية التعبير. وهذا ما وقع منها بعد تأميم الصحف.
وعلى المستوى الأيديولوجي اهتم عبد الخالق بتلافي الخطابية الفجة لثورييّ البرجوازية الصغيرة والحيلولة دونها وتغبيش وعي الناس. ومن ذلك أنه انتقد الحكومة في ترويجها للمساعدات الاقتصادية والفنية التي قدمها الاتحاد السوفيتي وكأنها العصا السحرية الشافية لجميع أدواء الاقتصاد السوداني. وكان يرى أنه من حق الشعب علي قادته أن يعي درجة استفحال أزمة الوطن الاقتصادية لا أن يشجع على توقع إنقضائها بالترميمات السهلة والسريعة. ومضى إلى المطالبة أيضاً بان يخضع جهاز أمن الدولة، الذي أنشئ حديثاً، للرقابة السياسية وأن يلتزم حكم القانون في أداء مهمته . وألح عبد الخالق على أن قيام نظام الحزب الواحد خلال فترة الحكم الوطني الديمقراطي خرق لقواعد التحالف للقوى العديدة ذات المصلحة في المرحلة والتى ترغب في المساهمة في إنجازها من تحت راياتها المستقلة. واضاف أن حزبه الشيوعي نفسه مما لايؤتمن لإنجاز هذه المرحلة بصورة عادلة ومقبولة لأطراف التحالف .
وتطرق عبد الخالق لديمقرطة الحياة السياسية لصالح التحالف الوطني الديمقراطي من وجوه أخرى. فقد وضع الانقلاب الشيوعيين في مواقع قيادية في جهاز الدولة. وحسب قول عبد الخالق فالنظام ربما تعجل في إتخاذ هذه الخطوة. ولذا اهتم عبد الخالق بتحسين مهارة قادة الحزب كرجال دولة. فوجه بقفل باب العضوية للحزب درءاً لقبول أعضاء جدد في الحزب من ذوي الغرض الذي طمعوا أن يحققوه من خلال الانضمام إلي حزب بدا للناس أنه "حزب الحكومة". إلي جانب ذلك تمسك عبد الخالق بضرورة أن يراعي الانقلابيون إستقلالية الحزب وأن يحصلوا على موافقته قبل تعيين أي عضو من أعضائه في المواقع القيادية لجهاز الدولة . ووضع عبد الخالق بذلك حجر الأساس للقواعد السياسية والخلقية لأعضائه فى شأن الحكم. وشدد عبد الخالق علي رجال الدولة الشيوعيين أن يعلموا علم اليقين بأن المناصب التي يشغلونها ليست "غنيمة" للحزب في معادلات الحكم الجديد وتحالفاته بقدر ما هي أدوات لخدمة الجماهير التي ستحكم لهم أو عليهم على أساس مثابرتهم في النهوض بواجباتهم ومسؤولياتهم القومية في ظل دولة مٌسَخرة لخدمة الشعب وتقدمه. اما في حال نكوص الحكومة عن ذلك فلن تكون مقبولة للحزب النظرية القائلة بتمسك الثوريين بالمواقع الثورية مهما كلف الثمن. فمثل هذه النظرية، عند عبد الخالق، هي مجرد ذريعة للتشبث بكراسي الحكم. ولجماً لغواية احتلال " الموقع الثوري " حذر عبد الخالق الشيوعيين من مغبة الاستئثار بالتعيينات السياسية لمواقع الدولة لأنها ستضر بعلاقات الحزب الطويلة مع اصدقائه والمتحالفين معه من ذوي الكفاءة والاستقامة من بين شرائح المثقفين. ودعا لإعطائهم الفرصة لخدمة شعبهم على المستوى السياسي وفي قيادة الدولة .
وكان عبد الخالق يخشي أن يتورط الانقلابيون في استفزاز يساري فطير للغرب الاستعماري فيلقون منه ما لاطاقة لهم به. فإذا وقع ذلك وساخت ركب الانقلابيين من فرط ضغوط الغرب الجبارة ستجد الجماهير الثورية، التي استثمرت مكرهة أو طوعاً في دولة الانقلاب، نفسها عرضة لآلام وتضحيات لا داع لها. لذلك نصح عبد الخالق بألا تعترف الحكومة بألمانيا الشرقية تفاديا لاستفزاز المانيا الغربية . إلا أن نصحه مضى أدراج الرياح. وانتقد كذلك خطاب وزير الخارجية السوداني أمام الأمم المتحدة الذي احتد فيه علي الولايات المتحدة الامريكية التي لا قبل للسودان بعداوتها .
وغني عن القول بان مواقف عبد الخالق هذه تسببت في تدهور العلاقة بين الحزب والنظام يوماً من بعد يوم. ففي اكتوبر 1969م نزع نميري، قائد مجلس الثورة، بابكر عوض الله، رئيس وزراء الانقلاب ورئيس قضاء سابق، عن منصبه وتولاه بنفسه. وكان نميري بهذا يؤاخذ بابكر لحسن ظنه بالشيوعيين. فقد صرح رئيس مجلس الوزراء خلال زيارة له لالمانيا الشرقية أنه لا يمكن الاستغناء عن الشيوعيين لإطراد الثورة في السودان . وبالطبع لم ير عبد الخالق سبباً لمعاقبة بابكر على بداهتة. وكان عبد الخالق نفسه رهن الاعتقال منذ أبريل 1970م ثم نٌفي الى مصر وأٌعيد منها الى السودان حيث تحفظت عليه الدولة بمزرعة بالباقير جنوبي الخرطوم. ثم أخذوه منها الى مبنى سلاح الذخيرة الذي هرب منه في 29 يونيو 1971م بمساعدة قائد الحرس الجمهوري الذي أخفاه – كما يقال – قي القصر الجمهوري نفسه. وقد لعب هذا القائد دوراً مهما في كلا الانقلابين: مايو 1969م ويوليو 1971م. ومن ناحية أخرى بلغ الخلاف أشده في نوفمبر 1970 بين أعضاء مجلس الثورة الشيوعيين ونميري وأنصاره. فقد عارض الشيوعيون بغير هوادة مشروع اتحاد الجمهوريات العربية الذي كان يشمل السودان ومصر وسوريا وليبيا. ونتيجة لذلك تم فصل ثلاثة أعضاء بالمجلس من الشيوعيين وأصدقائهم بواسطة نميري وهم من قام على أكتافهم انقلاب يوليو 1971 الفاشل . كما أعلن نميرى عزمه على سحق الحزب الشيوعي على إثر البيان الذي وزعه الحزب الشيوعي وأدان فيه كلا من نميري وموبوتو، الرئيس الزائيري الذي كان في زيارة الى السودان . ومن وجهة نظر الحزب الشيوعي فإن استدارة النظام لليمين قد بلغت مداها في أبريل 1971م بحل اتحادات وتنظيمات النساء والطلاب والشباب التي يغلب عليها الشيوعيون وإنشاء نميري للاتحاد الاشتراكي السوداني باعتباره التنظيم السياسي الوحيد في البلاد . وفي مايو 1971م بدأت حملات اعتقال الشيوعيين وحلفائهم. وسارع نميري الى اصدار اوامره باعتقال الضباط الشيوعيين أيضاً لشكه في أنهم كانوا يدبرون انقلابا ضده . إلا انهم " تغدوا به قبل ان يتعشى بهم " ونفذوا انقلابهم ظهر يوم 19 يوليو 1971م. وربما كانت تلك هي الملابسات التي أشار اليها تحليل شيوعي أولي نسب اليها استعجال العسكريين للانقلاب بتقديم ساعة صفرهم شفقة بالحزب غير عابئين باعتبارات سياسية أخري لا مهرب من أخذها في حسبان الناشط في السياسة.
عوامل فشل انقلاب يوليو 1971:
في 22 يوليو، وبعد 72 ساعة بالضبط بعد قيامه، انتهى انقلاب 19 يوليو إلى مصير مفاجئ ومأساوي . أما جماع الظروف والعوامل المحلية والاقليمية والعالمية التي تناصرت لفشل الانقلاب فنجد وصفاً لها على أوضح ما يكون في كتابيّ واربورج (1978م) ونيبلوك (1978م). بينما فصلت سوزان كرونجي ومن شاركها في تأليف لونرو: صورة لشركة متعددة الجنسيات (1976) في أمر المساعدات التي قدمتها شركة لورنو المتعددة الجنسية، والتي كانت قد بدأت استثماراتها لتوها في السودان، لرجال نميري الموجودين في أوروبا، ومكنتهم من لقاء بعضهم البعض والعمل ضد الانقلاب. ومن الواضح أيضاً أن الرئيس المصري أنور السادات، الذي كان قد طرد العناصر الموالية للسوفيت من حكومته وحزبه في مايو 1971م ، قد شكل رأس الرمح في الهجوم المضاد على الانقلاب. فقد طار خالد حسن عباس، وزير دفاع نميري، الذي كان في جولة أوروبية أثناء وقوع الانقلاب ، إلى مصر وتولى قيادة القوات السودانية التي بقيت مرابطة هناك بعد حرب 1967م مع اسرائيل للدفاع عن قناه السويس. وخاطب الوزير أيضاً القوات المسلحة في السودان عبر الاذاعة المصرية وحثهم على مقاومة الانقلاب. وصدرت، من جهة أخرى، الأوامر للقوات المصرية المرابطة جنوب الخرطوم منذ 1967م بالتحرك إلى داخل الخرطوم ومواجهة الانقلابيين. ومن جانبها أفسدت ليبيا، الحليف المشترك لمصر والسودان، فرص الانقلاب في الاستمرار باعتراضها في 22 يوليو الطائرة البريطانية التي كانت تقل على متنها قائد مجلس قيادة الانقلاب بابكر النور وعضو مركزي فيه هو فاروق حمد الله . وقد سلّمت ليبيا عضويّ المجلس لنميري الذي أعدمهما مثل بقية الأعضاء ممن كانوا في السودان. وعلى المستوى المحلي قاد المايويون وغيرهم ممن عارضوا انقلاب الشيوعيين مقاومة مدنية وعسكرية ضد الانقلاب. ولعب ضباط الصف في سلاح المدرعات دورأ رئيسياً في تنظيم وقيادة هجوم 22 يوليو المضاد الذي سحق الانقلاب وانتهى به الى تلك المباغتة القاتلة.
نميري ينفث حقده ويحقق نواياه:
وعاد نميري الى الحكم طالباً الثأر ممن نزعوه عن الحكم وسط صيحات وهتافات جماهيره " في 5 دقائق رجع القائد" . ووجد غطاءاً شرعياً لغريزة الانتقام فيما عرف ب "مجرزة بيت الضيافة" وهي مجزرة راح ضحيتها عشرات الضباط من أنصاره الذين كان يعتقلهم انقلابيو يوليو بقصر الضيافة خلال أيام الانقلاب الثلاثة. وقد أنكر الشيوعيون أن تكون لهم أي يد في مذبحة هؤلاء الضباط متهمين القوات التي اعادت النميري بارتكابها. وفي رأي الشيوعيين أن ضباط الصف، الذين لعبوا دوراً مقدماً في هزيمة انقلاب 19 يوليو، لم يكونوا يعملون حقاً من أجل عودة نميري. وإنما كانوا يسعون هم أنفسهم للوصول إلى السلطة بالتخلص من نميري نفسه لو دعى الداعي. ووفقا لهذه النظرية يكون نميري قد عاد إلى الحكم بعد أن نجا حتى من الانقلاب الثاني الذي قاده ضباط الصف . وعلى أية حال فقد كان الثمن الذي دفعه الحزب الشيوعي السوداني فادحاً وعظيما. فقد راح ضحية للانقلاب كل من عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشفيع، احد مؤسسي الحركة النقابية، والحائز على ميدالية لينين، وجوزيف قرنق الذي بني استراتيجية للحزب تجاه مسألة جنوب السودان الشائكة. وقد جرى اعدامهم بعد محاكمات إيجازية وسرية . ولا يزال يدوي في آذان اولئك المئات من أعضاء الحزب الذي اعتقلتهم سلطة مايو في سجن كوبر هتاف عبد الخالق: " عاش الحزب الشيوعي السوداني " وهو يسلك ذلك الدرب الطويل الي حبل المشنقة. اما تنفيذ الاعدام بالنسبة للشفيع احمد الشيخ فقد كان بردا وسلاما عليه في واقع الأمر. لأنه حين اقتيد الى المشنقة كان فاقدا للوعي تقريباً من هول ما عانى من تعذيب وويلات. أما الضباط الشيوعيون أعضاء قيادة الانقلاب فقد لقوا مصرعهم إما دفاعا عن مواقعهم أو في مواجهة فرق الإعدام.
وجاء بيان الحزب الصادر في ديسمبر 1971م مترعاً بغضب حار جهير على محاكم الكنغارو التي حكمت بما أمرها به نميري والاعدامات الجزافية مما ابتذل حق أعضائه في المحاكمة العادلة وفي صون النفس من الإساءة والجسد من التمثيل به . وأقسم الحزب بالثأر لشهداء الحزب. وأضاف أن الرصاصات التي سيصوبها الشيوعيون نحو نميري وعصبته ستستقر في صدور خلت من فروسية الجندية أو الرجولة . وعلى أية حال فقد أصاب واربورج في تشبيهه للانحسار السياسي الذي حدث بالنسة للحزب بسبب انقلاب 19 يوليو وكأن بالحزب يرتد إلى " طفولة ثانية ."
نحو انثربولوجيا الخبر:
لم يكن في سياسات الحرب الباردة موقعاً لإعتبار الحقائق المحلية للبلدان التي دارت تلك الحرب بزعم حمايتها من شر الخصم لتنمو وتزدهر. فكل ما رغبت فيه القوى الأعظم، الأمريكية والسوفيتية، هو دول تدور في فلكها طلباً للفخر والعزة القومية، وكقواعد يصطف فيها سلاحها المدجج، وينسرب منها رجال مخابراتها الأشداء، ولنيل اصوات تسود بها وجهة نظرها في نزاعات المحافل الدولية. وبناء عليه بدت الوقائع المحلية غاية في التفاهة ولا تلفت إليها القوي الأعظم. فطموحات هذه القوي في الثريا ووقائع بلدان العالم الثالث في الثرى.
كل ما ما كان يهم القوي الأعظم أن تتلقى الأنباء السعيدة عن بيعة ما من دولة ثانوية متجاهلة الدينامية الاجتماعية لتلك الأنباء وتفاعلاتها في موطن نشوئها. فقد عمقت سياسة الحرب الباردة الفجوة بين الأنباء وعلم اجتماعها التى قال بها جيمس روستون المحرر بالنيويورك تايمز. فما يهم تلك القوى نبأ دوران دولة ناشئة ما أو حركة سياسية ما في فلكها ولا يهم من بعد ذلك الوقائع الداخلية التي تآزرت لتشكيل قرار الدولة أو الحركة السياسية بركوب موجة إحدى الدولتين الأعظم. فعلى سبيل المثال نجد أدب الحرب الباردة عن أنغولا السبعينات يتغافل عن الحقائق المحلية والوطنية التي أدت إلى نشوء كل الحركات المسلحة المعروفة بال MPLA و FNLA و UNITA المتنافسة على السلطة في انجولا قبل وبعد خروج الاستعمار البرتغالي في 1974م. ففي مصطلح الحرب الباردة نسبت الأولى إلى الاشتراكية السوفيتية ونسبت الثانية إلى حرية المبادرة الراسمالية ونسبت الثالثة إلي الصين وحربها للتحريفية السوفيتية. وسنجد أن المنسوب إليه يتغير دونما جهد. فلما تفرقت FNLA أيدي سبأ لم يتحرج أهل المصطلح من نسبة UNITA إلي روح المبادرة الفردية الرأسمالية. وقد عشنا وشفنا حتى تكشفت الحقائق الإثنية القوية التي في أصل تأسيس هذه المنظمات التي غطي عليها مصطلح الحرب الباردة ودمغها بمشاغله هو.
وانقلاب 19 يوليو مثل آخر في طمس النبأ لأساسه الاجتماعي. فقد عده المحللون حماقة سياسية نجمت من غباء جم. وعليه انحصر جهدهم في صيد للساحرات يريدون به كشف الغطاء عمن إقترف الانقلاب وشركائهم، أو بيان العقيدة الجامدة التى تولد عنها الانقلاب. فقد مدوا أصبع الاتهام للسوفيت في تفريخ الانقلاب. وقالوا إنهم كانوا سيفيدون منه في فتح أكبر لنفوذهم في المنطقة نظراً لميول الانقلاب الشيوعية التي لا تخطئها عين ." وامتد نفس أصبع الإتهام للمستشارين السوفيت بأن لهم دور غير مباشر في نجاح الانقلاب . بل أن النميري نفسه لم يشك أبداً في أن للسوفيت يداً في الانقلاب إلا أنه تحفظ في التعبير عن ريبته في السوفيت . ويكشف لنا أحمد سليمان، الشيوعي الذي شايع نميري وتولى عدة حقائب في إدارته، عن عقيدة النظام في ما اتصل بتورط السوفيت في الانقلاب. فخميرة إزاحة نميري تعود إلي أيام ازدهار العلاقة بين نميري والسوفيت في 1969م. فمن رأيه أنه بات السوفيات حيري فيمن سيخلف عبد الناصر، حليفهم القوي، على مصر بعد ما تبين أنه مريض لا ينتظر برؤه. وتبعاً لذلك فكر السوفيات في إيجاد نظام تابع لهم في السودان يؤثر في مجري السياسية المصرية. ولم تكذب ريب السوفيت. فقد قام بأمر مصر بعد وفاة ناصر الرئيس السادات وهو رجل غير مأمون العواقب. وقد صدقت ظنونهم بشأن مصر بعد ناصر حين طرد السادات علي صبري، نائبه، والحليف الموثوق به لدى السوفيات، في مايو 1971 . وأثار انقلاب يوليو 1971م في السودان شكوك السادات في وجود مخطط لفرض الهيمنة السوفيتية على المنطقة . ووطن السادات على هذا الاعتقاد الفتور الذي أظهره السوفيت حيال مشروع اتحاد الدول العربي الذي يشمل مصر وليبيا وسوريا والسودان ، لا سيما وأن السبب الرئيسي لطرد انقلابييّ 1971م من مجلس قيادة ثورة نميري في نوفمبر 1970 هو معارضتهم القوية لانضمام السودان لهذا المشروع. وسيصعب علي الناظر جداً، بالإضافة إلى كل ذلك، أن لا يعد الانقلاب عملاً معادياً لمصر بعد تأييد العراق، خصم سوريا اللدود، للانقلاب السوداني.
ومن جهة أخرى كان أول ما قاله السادات مفاخراً باتحاده العربي بعد دحر الانقلاب بجهود مشتركة بين مصر وليبيا ( خاصة اختطاف ليبيا لطائرة الخطوط الجوية البريطانية التي أقلت إثنين من قادة الانقلاب في طريقهم من لندن الى الخرطوم) بأنه ولد بأسنانه والشاهد ما حدث في السودان. وكان الانقلاب هو الفيصل في علاقات مصر والسودان مع القوى العظمي. فبه نؤرخ لجفاءهما للسوفيت وتقاربهما من الغرب والصين والدول العربية المحافظة .
ولم يعط آخرون كثيرون الانقلاب هذه المعاني الجيبولتيكية الصماء التي اعتقد فيها قادة مصر والسودان. فمن السخرية ان يتفق الشيوعيون السوفيت وشيوعيو دول شرق اوروبا والوطنيون المصريون والمعلقون الاميركيون على أن الانقلاب كان محض مغامرة سياسية. وعلى الرغم من أن السوفيت خاطروا المخاطرة بصلتهم القوية بنميري بالنظر إلى حمامات الدم التي نصبها لسحق الانقلاب والشيوعيين الا ان بعض منظريهم لم يخفوا غضبهم على الحزب الشيوعي السوداني لتجاوزه "الوصفة" السوفيتية للجائز للأحزب الشيوعية ببلدان العالم الثالث والمستحيل عليها. وهي الوصفة التي توصيهم بأن يتأخروا ويقبلوا بقيادة الديمقراطيين الثوريين مثل ناصر وسيكتوري ونميري لتطور بلدانهم علي نهج التطور غير الرأسمالي . ولم يحبب تمسك الحزب السوداني بحرية قراره بعض شيوعي بلدان العالم الاشتراكي إليه. فقد وصف أحد الشوعيين السوفيت الحزب من جراء ذلك بأنه مما يتعذر فهم مقاصده. بينما رماه شيوعي تشيكي بداء " الطائفية ". وقال شيوعي يوغسلافي بأن الحزب يعاني من " المذهبية. " واتخذ السوفيت، الذين توسطوا في النزاع بين شقي الحزب من جهة وبين نميري وعبد الخالق من الجهة الأخرى، موقفاً لا لبس فيه في مساندة من وصفوهم بالشيوعيين الوطنيين الذين قبلوا بالوصفة السوفيتية التي تطلب من الشيوعيين أن يتأخروا للديمقراطيين الثوريين. ومن جهة أخري نسب محمد حسنين هيكل، محرر جريدة الأهرام واسعة النفوذ، وجريدة النيويورك تايمز فشل الانقلاب لاستفزاز الشيوعيين لشعبهم المسلم بطلبهم حكمه في غير ما وقتهم.
سوسيولوجية الانقلاب
تظل منزلة "البرجوازية الصغيرة" في السياسة والمحتمع الأفريقي من الموضوعات التي لم نحسن دراستها. وأَمَّن شيبال على دعوة جافين وليامز لدراسة هذه الطبقة من ناحية علاقات الانتاج الاجتماعية وتبادل السلع وتوزيعها نظراً لأننا لا نملك بالفعل نظرية للسلوك السياسي للبرجوازية الصغيرة في أفريقيا. وكانت للباحثين الماركسيين والاقتصاديين في السودان أسبقيات أخري. فقد عكفوا بوجه عام على دراسة ديناميات ومؤسسات الطبقة البرجوازية على وكد ومشقة . ومثلهم مثل الآخرين في افريقيا فقد شملوا في دراستهم لواقع الريف الأفريقي الطبقي أقسام اجتماعية جري تسميتها بالبرجوازية الصغيرة. أما البرجوازية الصغيرة، التي يسميها نيبلوك ب " الشرائح الوسيطة"، تحوطاً وتفاديا للنقل الميكانيكي المباشر من التجربة الاوربية ( التي تفرض وحدة زائفة على مجموعات تتسم بالتنوع والتعدد ) فهي مما لم نستثمر فيه كثير بحث. وحين تسفر عوالم البرجوازية الصغيرة عن نفسها في قالب ديني كما هو الحال بالنسبة للأخوان المسلمين في السودان فنحن نصرف المسألة ونعدها حالة ثقافية مرضية لا حالة سياسية ناجزة. وهذا باب نبقي به جاهلين بدينامية هذه الطبقة.
ولربما لا نحصي عدداً مثالب تفريطنا في بلوغ تحليل متعين لهذه الطبقة التي تنشط في السياسة الأفريقية نشاطاً ملموساً. ويذهب جافين وليامز إلي القول بأننا قد انتهينا إلى نظرية شبيهة بتفسير الماء بعد الجهد بالماء لأننا لم نقع على نظرية أدخل إلى فهم هذه الطبقة. وغلوطية الماء بالماء هنا هي في تفسيرنا للنزاعات السياسية بردها الى منشأها في الطبقة البرجوازية الصغيرة. وحين نريد تعريف الطبقة ذاتها فإننا إنما نستعين بنفس تلك النزاعات التي رددناها إلى البرجوازية الصغيرة أول مرة ." وهذا حرث في البحر. وفي الغالب الأعم فنحن نطلق على قسمها الحضري مصطلح "صفوة" جزافاً. وبهذا نثبت البرجوازيين الصغار علي عقيدتهم عن أنفسهم كلاعبين سياسيين متجردين لخدمة بلدهم لأن مصالحهم، كصفوة، هي مصلحة الأمة بأسرها . والدراسون لسياسية الصفوة غالباً ما انتهجوا خطة المجايلة: فطبقة أطهر منها تعقب طبقة فاسدة تقدم بها العمر. فقد كان الشعار المأثور لثورة اكتوبر 1964م، التي قادها مهنيو المدن والطلاب ضد نظام القريق ابراهيم عبود، هو " لا أحزاب بعد اليوم" وهو شعار ينطوي علي مسعى فئة ناشئة من "الصفوة" لنزع الشرعية عن فئة عجوز منها في الأحزاب السياسية التي أٌلقيت عليها، نتيجة لسوء ادارتها وخيبة برلمانها في 1958، مسؤولية اغتصاب طغمة عبود للسلطة لست سنوات حسوما. ومن صيغ هذا المسعى للصفوة هو شعار "لا زعامة للقدامى" الذي ساد أيضاً خلال مواكب ثورة أكتوبر. وهكذا – على حد تعبير وليامز – تصبح سياسة الصفوة نشاطاً يلتف على نفسه كالباب الدوار لا يفضي إلى غاية سوى ما تعلق بتمييز الصالح والطالح من أجيال تلك الصفوة في كل منعطف من تعاقب تلك الأجيال . ولعل هذا هو الذي يفسر إهتمام ثورات وانقلابات البرجوازية الصغيرة بتطهير الخدمة المدنية وجهاز الدولة من " الفاسدين " والمشبوهين سياسياً على وجه الخصوص. وقد بلغ التطهير على يد هؤلاء الثوريين والانقلابيين مبلغ التشفي لتصفية الحسابات في لعبة السياسة. واستغله المتسرعون من الشباب المتسيس في أروقة بيروقرطية جهاز الدولة للصعود الى المراكز في غير ما وقتهم. وهذا ما نطلق عليه في السودان " القفز بالزانة " وهي من مصطلح المرحوم جعفر محمد علي بخيت يكافيء به المتحمسين من مثل هؤلاء الشباب الموالي ويرفعهم درجات بغير اعتبار للائحة الخدمة المدنية.
1-عبد الخالق وأم المعارك: البرجوازية الصغيرة
عَرَّف عبد الخالق محجوب الصراع داخل الحزب، الذي بدأ في اعقاب ثورة 1964م وبلغ أشده بعد انقلاب مايو 1969م وخلاله، بأنه صراع بين أيديولوجية البرجوازية الصغيرة والماركسية. وعبد الخالق مؤرخ مدقق في الصراع داخل حزبه. وقد اقتنع بأن نمو الحزب يقع من خلال الفرز و"التطهير الطبقي". ففي كتابه "لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ؟1969م " أذاع فكرة أن الحزب نفسه لا تخلو صفوفه من أعداء للطبقة العاملة. ومن وجهة النظر هذه فان أي مواجهة بين إيديولوجية الطبقة العاملة وبين غيرها من الإيديولوجيات الغريبة عنها تنقي معدنه وجوهره البروليتاري وتصقلهما في خاتمة الأمر. وهنا ربما أسقط عبد الخالق، الذي صعد إلى قيادة الحزب، أو تثبت فيها عبر صراعات تتالت في الحزب، تطوره الفردي نحو تمام الثورية (ontogeny) عبر هذه الصراعات على مجمل تاريخ الحزب (phlyogeny).
وخلافا لسابق الصراعات داخل الحزب ضد البرجوازية الناشئة حينها بين سنوات 1949-1951م فإن الصراع ضد البرجوازية الصغيرة – كما يراه عبد الخالق – دقيق كثير التعقيد والبواطن . فأماني هذه الطبقة تتطابق إلى حد كبير مع أهداف المرحلة الوطنية الديمقراطية التي تضمنها برنامج الشيوعيين. ومن الاهمية بمكان العلم بأن هذه الطبقة تشكل غالبية السكان في السودان وأنه من صفوفها ينحدر العمال كما يتأثر الشيوعيون بأصلهم البرجوازي الصغير بصور مختلفة. وتتعقد علاقة الشيوعيين مع هذه الطبقة أكثر من غيرها بآصرة القرابة التي ربطت كلا من الحزب والطبقة العاملة بها. فمن رأي عبد الخالق أن هناك ثلاثة عوامل اضافية تجعل من المعركة ضد البرجوازية الصغيرة معركة شرسة وضارية.
أول هذه العوامل أن هذه الطبقة التي ظلت مبعثرة بين مختلف الاحزاب قد بدأت تجمع صفوفها آنذاك وتشق طريقها لنشاط واسع تذيع إيدلوجيتها وتمارس تكتيكاتها على المسرح السياسي بين الجماهير ومن تحت رايتها المستقلة. فخلال ثورة إكتوبر 1964 قادت برجوازية المدن الصغيرة الجماهير ضد الطغمة العسكرية. وقد أصلى الحزب الأداء السياسي لهذه الطبقة شواظ النقد في تقرير مؤتمره الرابع لتهافتها لمَّا اشتد عليها نكير الاحزاب التقليدية. وكان من رأي المؤتمر أن هذه الطبقة ستلحق ضرراً فادحاً بالثورة اذا ما تشبثت بمركز القيادة فيها. ويستفاد من قيامها بانقلاب مايو 1969م، في وجه مخاطر عديدة وخرقاً لأعراف مستقرة في السياسة، أنه لا شيء من ميثاق أو رصانة سيقف دون الفصيل العسكري من البرجوازية الصغيرة ودون إقحام طموحات هذه الطبقة علي سياسة وتطور البلد .
وثاني هذه العوامل هو أن تطلع هذه الطبقة للاستيلاء على الحكم في السودان قد إزداد مستلهماً النجاحات المزعومة التي حققتها طبقات صنوها في بناء الاشتراكية في بلدان عربية وأفريقية . اما العامل الثالث فهو أن البرجوازية الصغيرة قد استمدت بهاءها السياسي وطموحها من تفسير سوفيتي للماركسية غَيَّر اسم هذه الفئة الاجتماعية وخلع عليها صفة الثورية بصورة تحكمية بمسمى " الديمقراطيين الثوريين". كما خلع هذا التفسير السوفيتي صفة " التقدمية " بإطلاق وجزافية على القوات المسلحة . وقد وجد خصوم عبد الخالق في هذه المفاهيم السوفيتية المستجدة منبعأ لأدب نظري استشهدوا به مسرفين، خلال نطاحهم له، حول تقويم انقلاب مايو. ورد عليهم عبد الخالق مرتكزاً على قراءة مستقرة للينين الذي إليه ترجع عبارة الديمقراطيين الثوريين. وقال إن المصطلح كما ورد عن لينين هو مجرد اسم آخر للبرجوازية الصغيرة في البلدان المستعمرة خلال نهوضها القومي التقدمي ضد الاستعمار ومن أجل التحرر الوطني . ويستطرد عبد الخالق قائلاً:
الديمقراطيون الثوريون ليسوا طبقة أو فئة اجتماعية تحدد بمواقعها داخل علاقات الإنتاج، وإنما استخدم لينين عبارتيّ "الثوريين الديمقراطيين" و"البرجوازية الصغيرة" للإشارة بأي من العبارتين دون تمييز إلى الممثلين السياسيين للبرجوازية الصغيرة التي تنهض بدورها في تحقيق أهداف الديمقراطية البرجوازية. أما نحن فنستخدم في الحزب تعبير الديمقراطيين الثوريين لنعني بهم أولئك الممثلين المهتمين بقضايا التحرر الوطني والذين استبسلوا في الكفاح ضد الاستعمار وسعوا ببرنامج تغيير اجتماعي على خطة التطور غير الرأسمالي وتحالفوا مع الطبقة العاملة العالمية ومع الاتحاد السوفيتي .
وبعد فراغه من توضيح موقف الحزب من التكتيكات الانقلابية أخذ عبد الخالق بتحليل حركة الضباط الأحرار في مصر عام 1952م واستنتج من ذلك أن الجيش متورط في الصراع الطبقي وأنه يتعذر الدفاع عن نظرية جامعة مانعة تٌسلِم بالدور " التقدمي " للقوات المسلحة وانقلاباتها. ومن رأية أيضاً أن الدفاع عن نظرية كهذه يصب في خانة البلانكية ويتجاهل التشخيص اللينيني للأزمة الثورية والعومل المؤثرة على نجاح الانتفاضة .
ربما بدا عبد الخالق لبعض الناظرين قحاً فظاً، في قول تيم نبلوك ،في تصميمه لرسم الحد الفاصل القاطع بين الماركسية وأيديولوجية البرجوازية الصغيرة. ولم يشأ ان يكبو كبوته الأولى عندما بهره بريق النجاحات المدوية التي حققها الديمقراطيون الثوريون في كل من افريقيا الشرق الأوسط. فقد أعشى بصره ذلك الوهج حتى ارتأي في عام 1965م خطة يحول بموجبها الحزب الى حلقة ثورية تمارس نشاطها القانوني كحزب جماهيري اشتراكي على غرار الاتحاد الاشتراكي المصري أو حزب تانو او تنزانيا . وانتقد عبد الخالق نفسه على هذه الغرارة التي ساقته إلى التسليم بسياسات البرجوازية الصغيرة وممارساتها تسليماً كاد يؤدي به إلى حل الحزب الشيوعي. وقال إنه انساق وراء تكتيكات البرجوازية الصغيرة بغفلة سادت كتابه "المدارس الاشتراكية في افريقيا، 1967م " وكتابات أخرى .
إحمد سليمان: إن قلت الانقلابات فأنا ابن بجدتها
ان كان لفرد ان يمثل بمفرده الفحولة السياسية لطبقة اجتماعية بأسرها فهذا الفرد، في ما تعلق بالبرجوازية الصغيرة السودانية، هو أحمد سليمان، سفير السودان السابق لامريكا، هو وحده لا غيره. ومروراً نقول أن هذا التطابق بين الرجل وطبقته قديم ووقع قبل ما يقارب الاربعين عاما. وأصله وفصله المرحوم صلاح احمد إبراهيم في مجموعة قصصية بعنوان " البرجوازية الصغيرة " صدرت عام 1958م بقلم كاتبين شيوعيين مغيظين كانا قد تركا الحزب قبل النشر او بعده. وسنلقى صلاحاً، الذي لا تهز له قناة، خلال عرضنا هذا لانقلاب 19 يوليو.
عاش أحمد سليمان، وهو محام بالمهنة، حياة كان الانقلاب أول ما يخطر له فيها عند كل منعطف سياسي. وكان شارك في سلسلة من الانقلابات الفاشلة إبان ديكتاتورية عبود 1958م-1964م . وسليمان واحد من مؤسسي الحزب الشيوعي وصديق صدوق لعبد الخالق وزميل دراسته في مصر في نهاية الأربعينات. وهو الذي مثل الحزب في مجلس وزراء حكومة ثورة اكتوبر 1964م الذي كان فيه الغلبة لليساريين. و مما يحكي عنه من نوادر انه قال لجلالة الملكة اليزابيث عندما قدموه لها اثناء زيارتها الملكية للبلاد إنه يفخر بكونه الوزير الشيوعي الوحيد في امبراطورية صاحبة الجلالة.
رأينا في ماضي كيف دعا أحمد سليمان بقوة لقيام انقلاب يساري يصد هجمة الثورة المضادة التي قادتها الاحزاب اليمنية التقليدية والإسلامية ضد الحزب وحلفائه في أعقاب ثورة أكتوبر 1964. ولم يثنه عن فكرته نقد الحزب للتكتيك الانقلابي في اجتماع اللجنة المركزية المنعقد في مارس 1969م لمفارقته تكتيكات الحزب القائمة علي مراكمة القوى العاملة تحضيراً لهبة ثورية جديدة . والواضح أنه لم يرعو بل مضى الى سبيل حاله وانضم لانقلابيّ مايو 1969م وأصبح بعد نجاح الانقلاب سفيرا للسودان بالاتحاد السوفيتي، ثم وزيراً للاقتصاد الوطني والتخطيط في ما بعد حيث قام بتأميم البنوك والشركات الاجنبية بجانب بعض الاستثمارات السودانية. ولقد رأينا من قبل كيف أن عبد الخالق لم يتحمس لصديقه القديم الذي حقق التأميم الذي كان من أحلامه هو نفسه كمناضل اشتراكي. بل ذهب عبد الخالق أبعد ووصف تأميم مايو للأموال ومصادراتها بأنه مجرد حاجز من الدخان أخفت وراءه حكومة الانقلاب خطة للغدر بالحزب وتوجيه ضربات موجعة تبدأ باختطاف أحلامه العزيزة وتطبيقها في غير وقتها .
وعندما حدث انقسام 1970م في صفوف الحزب كان أحمد سليمان من أبرز " المتعاونين " مع انقلاب مايو ضد التيار الآخر، الذي قاده عبد الخالق، والذي تمسك باستقلالية الحزب ." ومن فرط اخلاص سليمان لنميري، والجهود التي يعتقد بعض الناس أنه قام بها لتخريب الحزب، أطلق عليه عبد الخالق لقب "المصفى الرسمي" للحزب. ثم سماه "يهوذا" كأنه يستطلع الغيب ويرأى استشهاده الوشيك من أجل القضية التي خانها الحواري سليمان . ولم يمس انقلاب 19 يوليو قصير العمر أحمد سليمان. وترتب على هزيمة الانقلاب تنامي قوة اليمين التي لم تميز بين شيوعي تعاون مع النظام أو ناصبه العداء. وفي ثنايا هذا الظفر اليميني فقد الوزراء الشيوعيون " المتعاونون " مناصبهم الوزارية. وما ان تأسس الاتحاد الاشتراكي، بوصفه الحزب الحاكم والوحيد، حتى تحلل شيوعيو مايو من قيود ارتباطهم بحزبهم المنشق وأسرعوا للانضمام لحزب الدولة. و لم يتقلد أحمد سليمان المناصب القيادية في التنظيم الجديد فحسب بل عين كذلك وزيرا للعدل ثم سفيرا بلندن.
ولدى سقوط نميري في 1985م، عبر انتفاضة شعبية مدعومة بانقلاب عسكري، استدار احمد سليمان علي نفسه 180 درجة بانضمامه للجبهة الاسلامية القومية، وهو التنظيم الجبهوي للأخوان المسلمين واصبح عضواً بلجنتها القومية. وقد أغرته تحولاته الكبيرة هذه ليستدعي من مجازات الإسلام نفسه لتصوير حالة هجرته من حر الإلحاد الشيوعي إلى نعيم الايمان. ولم يصدأ حسه المعروف بالفكاهة لمجرد انضمامه للأصوليين الذين يظن الناس بمزاجهم للدعابة الظنون. فقد روي عنه أنه قال إن حياته مع الاسلاميين، الي لم تخل من خيبات، هي جاهليته الثانية. وعلى كل فان هناك من القرائن والادلة أنه كانت لأحمد سليمان يد في انقلاب يونيو 1989م الذي وصلت به الجبهة الاسلامية الى سدة الحكم.
لا يبدو أن سليمان ممن يوقرون الأيدلوجيات حتى وهو يتجشم هذه الهجرة الشقية من اقصى اليسار الى اقصى اليمين، من الالحاد الي اليقين، من ماركس الى محمد ومن موسكو الى مكة، ومن المجون الى فروة الصلاة. فالايدلوجيات عنده محض جاهليات: أولى وثانية وهلمجرا. وهي عنده في المقام الأدنى قياساً بولعه بالشوكة. وقد استغرب عبد الخالق كيف تسنى لسليمان ان يكون القائم بشئون التأميم والمصادرة وهو الذي لم يعرف عنه أنه ممن يجلس علي صلبه لما يكفي لقراءة تقرير من صفحة واحدة عن المال والأعمال. الا ان أحمد سليمان كان يعلم من جانبه ان السلطة تفعل الافاعيل وتصنع المعجزات وتعطي القرط لمن لا اذن له كما يقول المثل الشعبي السائر. ونراه يستبدل المعتقدات بالمعتقدات والاصنام أو الآلهة بأخرى والسكرتير العام بآخر الا ان عقيدته في سحر الانقلاب ووجوبه لم تنقص قيد أنملة.
ولعل في تطواف احمد سليمان وهجراته ما يشئ بروح طبقته البرجوازية الصغير ترف حائرة مصارعة بالظفر والناب من أجل السلطة وهي بين رمضاء برجوازية ناشئة لم تبلغ النصاب فترقى إلى مسؤوليات الحكم ونار طبقات عاملة خفيفة الوزن مظنون أنه لا قدرة لها على تولي مقاليد البلاد أبداً. اليسر الذي صادف أحمد الدخّال الخرّاج في أحزاب بونها شاسع للناظرين من مثل الحزب الشيوعي والحركة الإسلامية لدليل على حضور البرجوازية الصغيرة في الأحزاب جمعاء. وقد خرج أحمد سليمان داعية لها، عبر ألوانها السياسية والحزبية، أن هلموا إلى كلمة سواء ي لتطلبوا الشوكة عن طريق الانقلاب لا العقائد الواهمة.
لقد رأينا كيف عاب عبد الخالق علي أحمد سليمان نفاد الصبر داعياً له أن يتوفر على درس الأشياء وإدامة التفكير فيها. وفي مناسبة اخرى أخذ عليه أنه يزج الأخرين في الانقلابات بينما يرتب مقدماً ذريعته للتنصل من جرمها متى ما أنكشف أمرها . ومصائر عبد الخالق وأحمد مع الانقلابات عجيبة. فقد نفذ أحمد انقلاباته وعاش ليحكي حتى عن تلك اتى فشلت ولقى من اشترك فيها الويل من أولي الأمر. ولم يوفق عبد الخالق توفيق أحمد. فقد لقي حتفه في الانقلاب الوحيد الذي نسب إليه. والمفارقة في الحظ هذه مما يذكرا بحكاية رجل الأعمال وموظف البنك. فقد قيل إن صبيين تزاملا في المدرسة الأولية. فتركها أحدهم باكراً بينما والى الآخر الدراسة حتى تخرج من الجامعة واشتغل مديراً لبنك. أما تارك المدرسة فقد عمل بالتجارة وصار مليونيراً. وقيل إن هذا المليونير جاء للبنك ليصرف شيكاً وأخطأ في كتابة مفردة في الشيك. وصحح صديقه مدير البنك له الخطأ اللغوي. وهنا قال المليونير غير عابيء: "إنك تعرف كيف تكتب شيكاً خال من الخطأ وأنا أعرف كيف أصرفه مالاً لٌبدا." فنظرية محجوب عن الانقلاب هي الصواب عن هذا التكتيك السياسي برغم أنها أودت بصاحبها في حين ينجح أحمد، بنظريته الخطأ، في جنى حصادها سالماً غانماً.
عبد الخالق: أنانسي، أبو الحصين
اتفق للمحللين أن الشيوعيين وعبد الخالق، أو عبد الخالق وحده، قد خطط لانقلاب 19 يوليو . وانكر الشيوعيون وزعيمهم القتيل ذلك التخطيط وإن اعترفا بأنهما قد ساندا الانقلاب حين وقع. وسنناقش قريباً غموض موقف الشيوعيين هذا حيال الانقلاب الذي ما زال يحير أكثر عضوية الحزب.ومع ذلك فاتهام عبد الخالق بتدبير الانقلاب الفاشل لا يخلو من السخرية. فتورطه البادي في الانقلاب أثار لدي الناس سؤالاً مقيماً: لماذا قام هذا السياسي الألمعي والمفكر الذرب بانقلاب في واضحة النهار بينما هو نفسه الذي توافر في كتاباته علي بيان فساد فكرة الانقلاب كتكتيك في دنيا السياسة؟
ولا يريد كثير من الناس من السؤال وضع عبد الخالق في قفص الاتهام. بل يريدون أصلاً القول بإن السياسة نشاط مشبوه. فهؤلاء من افاضل الناس ويريدون الثقة بالسياسة ولكنهم حين يرون أنه حتى الأدمغة المميزة كعبد الخالق تنحدر أيضاً إلي درك الميكافيللية حق لهم أن يمدوا ارجلهم كا فعل أبو حنيفة.
من جهة قانونية أنكر عبد الخالق التهم الموجهة له في المحكمة الايجازية الظالمة التي انعقدت له في أعقاب فشل الانقلاب وقضت بإعدامه. فقد خلت جعبة المحكمة من شهود لإتهامه بفعل الانقلاب. فقد أنكر الشاهد الوحيد، وهو رجل أعمال وزوج عضو بلجنة الحزب المركزية، ما جاء به الاتهام ليشهد به وهو أن عبد الخالق حضر اجتماعاً انعقد لتدبير الانقلاب . غير أن عبد الخالق لم ينكر الأوراق التي أبرزها الاتهام وفيها الدليل علي نشاط عبد الخالق بعد الانقلاب لينجح الانقلاب ويتمكن وبها مسودات عن برامج للانقلاب وقوائم بطواقم مقترحة لشغل وزاراته ومصالحه .
أما من جهة حقائق المتورطين في الانقلاب وأدوارهم ودوافعهم فالنقاش ما يزال دائراً حول تبعة عبد الخالق في الانقلاب. فقد صدر منذ حين قريبان مطبوعان تباين الرأي فيهما حول تدبير عبد الخالق للانقلاب. والكتاب الأول (1992) من تأليف محجوب عمر باشري، وهو كاتب معني بالترجمة للرجال والنساء، غير ان هناك من يرميه بالتزيد. وكلمة باشري سجل فريد لبعض تحركات عبد الخالق في الثلاثة أيام التي هي عمر الانقلاب. ونرى عبد الخالق في كتاب باشري يبوح لمن حوله ظنه القوي أن فرص الانقلاب للنجاح ضئيلة جداً للدرجة التي قال إنه نصح الانقلابيين بمغادرة سدة السلطة والهرب إلى القاهرة. ويسند قول باشري بظن عبد الخالق السئ في الانقلاب ما جاء في مقالة للفاضل عباس (1988)، وكان من بين طاقم الحزب المتفرغ، نري فيها عبد الخالق متضجراً من الانقلاب قائلاً إنه الفيل الذي سيطأ عمل نمل الحزب الدوؤب الصبور لربع قرن.
أما المطبوعة الأخرى (1993) فهي من عمل مرتضى احمد إبراهيم، المهندس والوزير بدولة مايو في طورها اليساري الأول. وتذهب إلى توريط عبد الخالق في تدبير الانقلاب. وقيمة هذه الإفادة تنبع من أن مرتضى هو نسيب المرحوم الشفيع أحمد الشيخ، القائد العمالي المرموق والرجل الثاني في الحزب الشيوعي الذي أعدمه نميري، وشقيق فاطمة احمد إبراهيم العضو المرموق الآخر بالمكتب السياسي للحزب ومؤسسة الاتحاد النسائي السوداني في مفتتح الخمسينات. أما شقيق فاطمة الآخر الشاعر الفحل صلاح احمد إبراهيم، الذي رأيناه يهجو احمد سليمان في مجموعته "البرجوازية الصغيرة"، فهو شديد الاقتناع بأن عبد الخالق هو الذي صنع الانقلاب. فبرأي صلاح أن عبد الخالق لم يرع الانقلاب فحسب بل استكبروأصم أذنيه دون سماعة نصح الشفيع له أن لا يقاربه. ولا بد أن هناك سجل بيد آل إبراهيم يدمغ عبد الخالق بفعل الانقلاب ويستوجب على الدارسين ان يقفوا عليه ويمحصوه. ونبادر مع ذلك بالقول إن صلاحاً، الذي ما فتئ يلقي وزر فصله من عضوية الحزب في 1957 على عبد الخالق، شاهد مجروح الشهادة. فقارئ ديوانه غضبة الهبباي (1965)، وقصيدة "أنانسي" تحديداً، لن يخطئ في مطابقة ، أنانسي، الوطواط الماكر في حكايات غرب افريقيا الشعبية، وعبد الخالق. فالقصيدة تصور عبد الخالق كماكر بوجوه متعددة الدهاء منها وجه صانع الاسترايجية ( المفدم "بالنظرية" كالزق بالزق)، ومنها وجه برغماتي فظ مما اشتٌهر عن مفتشي المراكز الإنجليزي ، ووجه مهرج أيضاً.
وشهادة صلاح احمد إبراهيم كثيرة الثقوب. فقد تحدثت أخته، فاطمة، خلافاً لدارج الصمت الذي التزم به قادة الحزب حيال انقلاب 19 يوليو،عن خفايا الانقلاب لصحيفة سودانية نشرت خارج السودان. وقد أنكرت ثلاثاً أي صلة للحزب بالانقلاب علي أنها لم تتطرق لدور عبد الخالق فيه من قريب أو بعيد . وقالت بصريح العبارة إن تنظيم الضباط الأحرار، وهو تحالف للشيوعيين والديمقراطيين في القوات المسلحة، قد فرض الانقلاب من عَل على الحزب. فقد نقل المرحوم هاشم العطا، الضابط الشيوعي القيادي بتنظيم الضباط الأحرار وقائد الانقلاب فيما بعد، عشية يوم الانقلاب للحزب قرار تلك المنظمة بالقيام ب" حركة تصحيحية" تعيد بالقوة نظام نميري، الذي كان قد ساعد كثير من الضباط الأحرار بقوة في مجئيه للحكم في 1969، إلى سيرته الوطنية الديمقراطية الجذرية الأولي. وأدى ذلك إلى دعوة اللجنة المركزية للحزب على عجل لتجتمع لمناقشة ما اتفق للضباط من خطة لأخذ الحكم عنوة. ولما لم تكن فاطمة جاهزة لحضور الاجتماع فقد سألت زوجها، الشفيع، أن يخطر الاجتماع أنها ضد خطة الضباط جملة وتفصيلاً لمفارقتها للتكتيكات المعتمدة للحزب. واضافت فاطمة أنها بدأت تسمع في ظهر 19 يوليو، وهو اليوم المقرر أن تجتمع اللجنة المركزية في مسائه، للراديو يذيع أن يترقب المستمعون بياناً هاماً من الرائد هاشم العطا. ولم يكد تفق من هول المفاجأة حتى ظهر أحد الشيوعيين عند بابهم مبعوثاً من الرائد هاشم يطلب من الشفيع أن يصوغ البيان الذي وعد الناس بإذاعته عليهم. ولم يستطب الشفع هذا الطلب المجازف من رفيق عصى الحزب فقال لمبعوث الرائد هاشم بحسب رواية فاطمة: "كلم الرائد هاشم إنو الشفيع ما عسكري عندك يعمل بأوامرك. الشفيع عضو في الحزب الشيوعي والحزب ما قرر يعمل انقلاب. قول ليهو الشفيع قال ليك معليش شيل شيلتك" .لن نأخذ بالطبع من عدم مباركة الحزب للانقلاب، كما هو واضح في شهادة فاطمة، بينة مانعة جامعة أن عبد الخالق بريء من التورط في الانقلاب كما قال بذلك شقيقها صلاح بغير مواربة. ومع ذلك فإن شهادة فاطمة هذه تتيح لنا سياقاً مناسباً لفهم ما كتبه في 1987 صحفي حضر محاكمة عبد الحالق وورد فيه ذكر لعبد الخالق والشفيع معاً بخصوص الانقلاب. فقد قال عبد الخالق أمام المحكمة إنه التقي بالشفيع بعد هروبه من معتقله قبل أيام من انقلاب 19 يوليو. وقال إن الشفيع فال له بصور ة عارضة إن الرفاق يتحدثون عن استعدادت ما تجري لقيام انقلاب ما. ولم يَحذَر عبد الخالق من مغبة الأمر لعدم إلحاح الشفيع على الأمر. وقال إنه أخذ أمر الأنقلاب كشائعة فائحة في بئية سياسية حبلى بالتوتر والتوقعات .
لم يحن الوقت لتقويم الثورة الفرنسية:
لو استعنا بعبارة من أدب فقهاء المسلمين في الضيق بروح التقصي والتجديد لوصفنا تعطيل الشيوعيين دراسة انقلاب 19 يوليو بإغلاق باب الاجتهاد فيه. فقد قَوّمت اللجنة المركزية في إجتماعها بتاريخ سبتمبر 1971 الانقلاب وقالت عنه إنه "شرف لا ندعية وتهمة لا ننكرها". وكانت العبارة حكيمة وشجاعة ناسبت ظرفها بعد أقل من شهرين من فجيعة الانقلاب. وككل عيون الحكم، التي تحطوطب بمرور الزمن، تناقصت بالزمن مصداقية هذه العبارة الشيوعية. كما وصف الحزب الشيوعي الانقلاب بإنه "تغيير ثوري" قامت به جماعة ثورية في القوات المسلحة. وقال إن هذه الجماعة قد أوضحت بغير لبس أنها تنتمي إلى قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية وأنها لا تمثل الجيش ولا تتحدث باسمه. وأراد الشيوعيون من ذلك نسف إطروحة البرجوازية الصغيرة التى تري في القوات المسلحة رائداً لا يكذب اهله في البعث التقدمي. فبتعريف أنفسهم كجزء من قوى التحالف الوطني الديمقراطي تفادى انقلابيو يوليو أن يراهم الناس كممثلين للجيش الذي هو أداة قمع مهما زينا الحديث عنه. ومع ذلك أخذوا أفضل ما في الجيش من قدرة علي الحسم متى صحت فيه الرؤية. كما أثنت لجنة الحزب المركزية على "حركة 19 يوليو" لأنها أوقفت تردي نظام نميري نحو حكم الفرد كما جددت الفرص ل"الديمقراطية الجديدة" وأرجأت اللجنة صدور تحليل شامل لحركة 19 يوليو منها إلى يوم قريب.
وقد تباطأ هذا التحليل حتى صدر في 1996 أي بعد نحو ربع قرن من وقوع الانقلاب. غير أن السجل لم يخل من عبارات حللت الانقلاب بالقريحة. ففي 1985، بعد 14 سنة من وقوع الانقلاب، قال الأستاذ محمد إبراهيم نقد، سكرتير الحزب الشيوعي المنتخب في 1971، إن "حركة 19 يوليو" عملية عسكرية جرت بغير التزام بتكتيك الحزب بمراكمة صبورة لقوي الثورة الوطنية الديمقراطية لرد نظام نميري عن انحرافاته. وواصل القول إن "الانقلاب" (وهذا تصريح نادر عن الطبيعة التكتيكية لحركة 19 يوليو) لم يكن بقرار من الحزب ولا من عبد الخالق كما قال بعض الناس. الفضل في الانقلاب، في قول نقد، يرجع للضباط الثوريين الذي عرضوا فكرة انقلابهم علي الحزب ونفذوها برغم اعتراض الحزب عليها . وسيقف الناس على وجوه اعتراض الحزب علي الانقلاب في تقويم الحزب الشامل للانقلاب الذي هو تحت الإعداد. وقد صدر هذا التقويم بعد عقد من هذا القول في 1996. وقد أوضح التقويم هذه الاعتراضات بلا مزيد عليه.
الحزب الشيوعي، مثل سائر المنظمات والناس، يلوذ بالخرافة حين تجبهه التبعة الثقيلة لبيان المواقف الحرجة المدلهمة التي تحدق به. وكسباً للوقت فقد أحال الحزب مهمة تقويم 19 يوليو إلى اللجنة المركزية بل حصرها فيها. وبدا أن حيلة التسويف هذه قد شارفت النهاية. فقد سخر منها المرحوم الخاتم عدلان الذي خرج على الحزب الحزب في 1994 وقاد انقساماً عليه من لندن. وحكي الطرفة المنسوبة إلى الرفيق شو إنلاي في الصين. فقد قيل إنه قد سئل يوماً عن رأيه في الثورة الفرنسية. فقال إن أوان ذلك لم يحن بعد .
ولم يمنع غياب تقويم رسمي للانقلاب أفراد شيوعيين، أو أوربيين يساريين بالطبع، من تكوين رأي بشأنه. فقد تيقنت فاطمة بابكر،من فرط لؤم نظام نميري ومجزرته بحق ضباط الانقلاب وقادة الحزب، من صدق شك ساورها دائماً عن خطأ الحزب في ثقته في ما يسمى بالطبيعة التقدمية للبرجوازية الوطنية. فقد برهن لها هذا العنف ما اعتقدت فيه دائماً من أن البرجوازية الوطنية طبقة ذيل للراسمالية العالمية وأنها مما لا يرجى شفاؤه من هذه التبعية . وقال آخرون إن الانقلاب، علي قصره وانتحاريته، قد كشف عن وجود بديل يتخطى ديكتاتورية البرجوازية الصغيرة التى هرجت بمصطلح واشواق الاشتراكية برضا الحركة الشيوعية العالمية. فتلك الأيام الثلاثة التي لم تعمر في يوليو 1971، حسب قول آلان قريش، جردت نظام الحزب الواحد في دولة نميري من شرعيته وحرمت الدولة من فرض كامل هيمنتها، التي هي مزيج من قبول الجماهير بها تحت أجهزة بوليسية راصدة، على البلاد. وما سقوط نميري في انتفاضة 1985، في قول قريش، إلا إنتقام متأخر لأولئك الذين حملوا روؤسهم فوق اكفهم في 19 يوليو لقتل دولة نميري المستبدة في المهد. ومن جهة اخري، فإن تلاشي "الشيوعيين الوطنيين" ممن قبلوا ان يأخروا الحزب ويقدموا البرجوازية الصغيرة وبقاء شيوعيي عبد الخالق الثوريين ما يزال في ساحة السياسة لدليل على أن الشيوعيين الأخيرين كانوا بعيدي النظر حتى بعد أن حصدهم الانقلاب حصدا .
في إنتظار جودو
البادي أن الحزب الشيوعي واقع تحت صغط من أعضائه لتسريع إنجاز تقويمه للانقلاب. وانتهز بعض هؤلاء الاعضاء سانحة مناقشة مفتوحة في الحزب لتجديد النظر فيه، بعد تهاوي العالم الاشتراكية وخبو نجم الماركسية، ليطلبوا التعجيل بتقويم الانقلاب ودور الحزب فيه. وقال قائل منهم إن عبارة "شرف لا ندعيه وتهمة لا ننكرها" بليغة وقاصرة. وقال آخر إن على الحزب أن يوقر شهداء الانقلاب بانجاز تقويم يحترم عقول الناس ويخلو من الأكلشيهات .
والبادي كذلك أن بعض قادة الحزب قد استجاب للضغط المتزايد لصدور تقويم للانقلاب. فقد اعترف التيجاني الطيب، من مؤسسي الحزب، والذي يقال إنه الكاتب من وراء الستار لبيان الانقلاب الأول الذي لم يزد عليه، صرح بأن الانقلاب كان جلطة سياسية كبيرة لا يمكن للناس أن تعفي الحزب من تبعتها. واضاف أنه برغم أن الحزب لم يتخذ قراراً بالانقلاب ولكن التبعة معلقة على رقبته لأن من قاموا به كانوا أعضاء معروفين في الحزب. وعلق الخاتم عدلان العصي على عبارة التجاني مستغرباً إن كان ما جاء به التجاني من بنات افكاره لأن أعضاء الحزب ما زالوا "مربعين أيديهم" في إنتظار التقويم الموعود من اللجنة المركزية. ومع ذلك فالخاتم شديد الاقتناع أن للحزب ضلعاً في تدبير الانقلاب .
وجوه بروليتارية وأقنعة برجوازية
لا تنتطح عنزان في وجوب تعيين الفرد أو الأفراد الذين نفذوا انقلاب 19 يوليو. الا أن أحدا لا يتوقع ألا يكون عبد الخالق محجوب، بواقع ما تمتع به سلطات ومسئوليات سياسية، قد انحجبت عنه خطة الانقلاب وتنفيذه. وبإفتراض أنه تورط في الانقلاب وعاقبته صحت مساءلته وتجريمه. وغير خاف أنه دفع مستحق هذا التورط بزيادة فاحشة. ألا يصح، لوجه السياسة التي هي مجال آخر غير القانون، أن نسال: لماذا انساق عبد الخالق، إذا ثبت بالدليل تورطه في منشأ 19 يوليو، مع فكرة الانقلاب التى نذر عمره وفكره لمحاربتها، لجلب مصلحة سياسية عنت له؟
ولن نمضي في الإجابة على هذا السؤال لأبعد من النظر في علم اجتماع الانقلاب . فالانقلاب في نظر عبد الخالق هو تكتيك البرجوازية الصغيرة لبلوغ سدة السلطة كما تقدم. فلم يكن بوسع انقسام 1970 "تطهير" الحزب من عقلية البرجوازية الصغيرة الغزيرة العدد ذات الفحولة السياسية المتفاقمة منذ ثورة أكتوبر 1964. لقد كسب عبد الخالق موقعة واحدة ضدها في مؤتمر الكادر التداولى وانسحب البرجوازيون الصغار دعاة الانقلاب. ولكن عقلية الانقلاب بقيت في الحزب ما بقي للبرجوازية الصغيرة حضور في الحزب والمجتمع من حوله. فالحرب مع هذه الطبقة سجال. ولم يكن هذا مما قد يفاجيء عبد الخالق. ففي رسالة كان بعث بها من منفاه في القاهرة قال إن اللجنة المركزية، أضعف حلقات الحزب، وكادر الحزب الجماهيري غير مٌطَلع بصورة كافية علي حيثيات الصراع الداخلي بالحزب. (المقدمة) وهو لابد يعني بذلك الحرب الناشبة في الحزب بين روؤى البرجوازية الصغيرة وروؤى الطبقة العاملة. فقد غاب عن هذا الكادر فهم هذا الصراع الذي دار خلال الستينات وأول السبعينات كمظهر جلي لزحام الروؤيتين. وقد بدا لهم الصراع، في قول عبد الخالق،كمجرد خلاف خلا من الباعث الموضوعي الاجتماعي. وقد كرهوا الخلاف يدب بين الرفاق وحسبوا بروح الأبوبة البرجوازية أن بوسعهم تسويته على أسس من التصالح الزائف .
لقد طرقت البرجوازية الصغيرة باب الحزب بانقلابها مرتين. ففي 1969 وكذلك في 1971 مالت البرجوازية الصغيرة، ولا سيما فئة ضباط القوات المسلحة، إلى رؤية الشيوعيين لخلاص الوطن إلا انها لم تقبل بتكتيكهم في العمل الجماهيري الصبور الدوؤب. وعليه انقلب بعض هؤلاء الضباط الفحول علي الحكم القائم، ومنهم الضباط الشيوعيون في 1971، ضاربين بإرادة الحزب عرض الحائط. وفي كلا الانقلابين المذكورين كانت الاولوية للقيام بالانقلاب هي ل"ساعة الصفر" العسكرية لا "الأزمة الثورية" التي يعمل الشيوعيون لحدوثها حتى ينتفض بها الشعب. وبناء عليه سادت البلانكية على اللينينية وركب البرجوازيون الصغار كرسي القيادة مستردفين البروليتاريا. وكان من نتائج فحولة البرجوازية الصغيرة هذه أن حولت الحزب إلى منظمة ذات وجهين: وجه رسمي ونظري لينيني يلتزم سياسة العمل الجماهيري الثوري الدؤوب لبلوغ نقطة الأزمة الثورية وآخر تخفى وراء قناع عجول يلتزم الانقلاب في الممارسة ويحمل الحزب من انقلاب إلى انقلاب رغماً عنه.
وربما كان في ازدواجية وجوه الحزب هذه مخرجاً لاولئك الذين أوصدوا باب الاجتهاد في تقويم الانقلاب درء لما يمكن ان يقال عن تناقض بين أقوال عبد الخالق وأفعاله مما يعد طعنا فيه ومنقصة لاسمه الكبير البراق. فبناء على فرضية الازدواجية هذه فإن أسباب عبد الخالق في النهي عن الانقلاب والإتيان بمثله ليست عاهة في الرجل. هي بالأحري عاهة كامنة في "نفاق" الوجه والقناع الذي ضرب أطنابه سواء داخل المجتمع أو الحزب. على أنني أسارع للقول بأنني لم اجئ بهذه الفرضية حتى تسخرها او تستثمرها أية مؤسسة أو أفراد لطلب البراءة من فعل انقلاب 19 يوليو. فلقد أردت بها تعقيد تقويم الانقلاب والانتقال به من مجال التحقيق الجنائي البوليسى إلى التحقيق الاجتماعي السياسي الذي تتدافع فيه القوى والطبقات في المجتمع خطاباً وحيلاً لبلوغ الغاية من رغائبهم.
خاتمة
لقد كان من أصل خطتي أن ادرس النفوذ الذي تمتعت به البرجوازية الصغيرة في المجتمع والحزب الشيوعي من ناحية وزنها العددي وامكاناتها السياسية ومكامن فحولتها وبلاغة خطابها بغرض الوصول إلى فهم أفضل للطبيعة المزدوجة للحزب الشيوعي السوداني. وقد حالولت بعض هذا في المبحث الثاني من الكتاب. ويكفي مع ذلك ان نشير هنا الى أن عبد الخالق كان " رهينة "، بشكل أو آخر، بيد ضباط وانقلابييّ يوليو 1971م لحظة وقوع الانقلاب . فهم كانوا قد هربوه كما رأينا من اعتقاله بمبنى سلاح الذخيرة بالمنطقة العسكرية بضاحية الشجرة بالخرطوم قبل ثلاثة أيام فقط من انقلابهم قصير العمر. وقبل ذلك بشهور عديدة لم تكن لعبد الخالق، الذي تنقل في اعتقاله من معسكر للجيش إلي آخر، أية صلة تذكر بالحزب إلا عبر هؤلاء الضباط. كما أنه من الأهمية بمكان أن نذكر أن هذا الاعتقال الطويل قد حرمه من حرية الشغل مع الحزب وهيئاته المختلفة منذ أبريل 1970م. وأدى هذا الاعتقال الطويل، في وقت تحََرّج أمر الحزب مع سلطة نميري، إلى احتكار الضباط لباب الزعيم حجاباً حاجزا:ً فهم أذنه التي يسمع بها وعينه التى يرى بها. وقد مكن هذا للصباط وأحلهم في منزلة قوة ليست لهم بلائحة الحزب.
القى انقلاب يوليو بظلال كثيفة على دعوة الحزب الشيوعي لزواج الديمقراطية الليبرالية بالتغيير الاجتماعي. كما أغلق في غير ما وقت الاجتهاد في علم اجتماع العجلة الذي تخاطر فيه بالانقلاب جماعة ثورية، غير مأذونة، لتجريع الناس غصص السعادة من عل. وتكسرت الجرة واندلق السمن كما فضلنا تعريب كلمة والرشتاين. وأصبح الحزب بعد الانقلاب المجهض وعواقبه الدامية ممن اعتقد في الخرافة. فهو قد أصبح مثل شعب الإيبو الذين لا يقول للثعبان ثعباناً في وجهه بل يستبدلون ذلك بقولهم "الخيط" لدرء خطره وشره. فالحزب الشيوعي متى ذكر انقلاب يوليو لا يسميه أبداً انقلاباً في أدبه السياسي. وبدلاً عن ذلك فهو، ذكراً للشيء لبعده، يسمونه "التغيير الثوري" أو باسمه من حيث وضعه الله في اليوم والشهر والسنة كقولهم "19 يوليو 1971" مجردة. وقد اثنت بعض هذه الأدبيات على الانقلاب باستنقاذ "الديمقراطية الجديدة" من براثن نميري . وبإحياء هذا المفهوم القاتل، الديمقراطية الجديدة، يرتد الحزب "طفولية يسارية" حسب أنه تجاوزها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.