يكمل المرحوم حسن دفع الله سرد وقائع رحلة التهجير السطورية فيقول: (وحال مغادرة القطار محطة اروما ، بدأت الكتل البشرية في مدينة كسلا تتقاطر علي المحطة انتظارا لاستقبال القادمين. ..كل اهالي المدينة..جاء سكان حي الختمية بأعداد ضخمة.. تدفق البني عامرمن قراهم المنتشرة علي ضفاف نهر القاش..تدافع الرشايدة الرحل الذين تصادف نزولهم علي اطراف المدينة. ( وعندما وصل القطار ، كان الاستقبال اسطوريا. فقد تصاعدت في الجو إيقاعات الدلوكة ممزوجة بغناء النساء وهتافات الرجال. وقد هز المشهد احد كبار المهجرين فعبر عن ذلك بقوله إن سكان كسلا كانوا علي الدوام في ق مة الود وتدفق الحنان. (ثم بدأ المهرجان الخطابي بكلمات التشجيع والترحيب من الشخصيات القيادية بالمنطقة . ورد عليهم كبار المهجرين بكلمات بليغة كان من بينها خطاب الشيخ العالم محمد عبده الذي طرز حديثه بعبارات انجليزية ( مكسرة) اضفت علي الإحتفال طابعا من الفكاهة والمرح . (وابي سكان كسلا إلا ان يعبرو عن إعزازهم للضيوف بهدايا تموينية تمثلت في اكوام مكدسة من الجوالات والسلال المليئة بالقريب فروت والليمون والموزوكميات مهولة من الخضروات الي جانب انواع اخري من المؤن . ( لقد كان حجم الهدايا العينية التي تدفقت علي المهجرين – علي مدي رحلة القطار التاريخية-كبيرا للغاية بحيث ان القطار عندما وصل الي خشم القربة كان محملا بما يفوق حاجة المسافرين مما جعل من المستحيل حمل المزيد.) ويواصل الكاتب وصف الرحله المتجهة الي محطتها الاخيرة( خشم القربة) فيقول: ( عندما عبر القطار قنطرة البطانة ، لمح الركاب نهر عطبرة الذي كان انطباعهم عنه انه اصغر بالمقارنة مع النيل العريض الذي خلفوه وراء ظهورهم لكنهم استعجبوا لمنظر القطعان الهائلة لإبل قبيلة الشكرية التي تجمعت علي ضفتيه تستقي في تلك الساعة من النهار. ( وعندما وصل القطار الي خشم القربة اتجه – فوق الخط الحديدي الجديد المتفرع من القضيب الرئيس - الي منطقة اسكان المهجرين التي تعرف الآن بمدينة حلفا الجديدة. (تململ الركاب والقطار يسرع بهم في اتجاه منطقة اعادة توطينهم ، وتعلقوا جميعا بنوافذ المركبات وعيونهم تتحرق شوقا لأول لمحة لوطنهم الجديد.. وعندما كان القطار يسرع تجاه محطة ( الشيخ عمر )، حجبت الحواف العالية لقناة مشروع خشم القربة عن انظارهم مشهد قري المدينة الجديدة . وحين عبر القطار القنطرة انكشف فجأة امام اعينهم منظر(حلفا الجديدة) ..في تلك الحظة برزت الرؤوس من كل نوافذ القطار بعيون قلقة وقلوب نافدة الصبر. وبعد هنيهة وعلي يسارهم بما يبعد عن نصف المسافة الي خط الافق تلألأت منازل قراهم البيضاء عبر خفقات ضوء السراب. حينئذ بدأ الركاب يستعدون لمغادرة القطار. فإذا بالفتيات يخلعن الجرجار ويرتدين الملابس العادية المعروفة عند النوبيين باسم ( اللابس) ، اما النساء اللائي تقدمت بهن السن فقد تمسكن بزيهن النوبي. وقد تمنيت ان لو خرجن جميعهن من القطار بملابسهن الموروثة لتأكيد قوة الطابع الذي يميزهن عن كافة نساء السودان. ( وما ان بلغ القطار برج الإشارة حتي انفعل النوبيون بمشهد الجموع الزاخرة والامواج البشرية المتلاطمة التي امتلأت بها المنطقة المحيطة بمباني المحطة لأنهم ادركوا الاستقبال الخرافي الذي كان في انتظارهم . (وأخذ القطار يبطئ بينما طفق السائق يطلق صافرات متقطعة تحية للمستقبلين . وكان جريد النخل الذي زان مقدمة القطارينطق بمدي إعزاز النوبيين لشجرة نخيلهم التي منحتهم الحياة طوال اقامتهم في وطنهم القديم.. (وتجمعت الحشود من كل انحاء المشروع للترحيب بهؤلاء القادمين الذين تواصلت من اجلهم جهود اعادة التوطين سنين عديدة . وجاء العاملون في حقل البناء وفي مجال الري والزراعة بالشاحنات . وتتبع اهالي قرية خشم القربة القطار وانضموا الي الحشد الذي بلغ حجمه المنتهي. وشوهد علي البعد آلاف الناس علي اسطح اللواري والعربات الثقيلة يشكلون ابراجا واعمدة من الاجساد البشرية . والي الجنوب من هذا المشهد اعتلي آلاف الشكرية ظهور الابل واقاموا جدارا سميكا طويلا من لحم ودم وكان منظرهم بديعا وهم يهزون سيوفهم هاشين باشين. وتعالت في منتصف الحشد الرهيب لا فتات الترحيب ان :(حللتم أهلا ونزلتم سهلا) و : ( اهلا بكم في وطنكم الجديد). وبعد. تلك كانت صورة قلمية ناطقة بأبلغ معاني التماسك القومي وارقي دلالات الوطنية والتعايش السلمي بين اهل السودان...فما احرانا ان نتأملها بوعي ونأخذ منها الدروس والعبر ونحن نعيش المرحلة الدقيقة الراهنة من مصير البلاد. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.