إذا تُرِك أمر الوحدة على هيئات الرئيس وماشاكلها ، فعليها وعلينا وعلى الوطن السلام . ليس لأن البشير وحكومته هم سبب نكبتنا الماثلة ، وليس لسابقة إعلانه الجهاد على الجنوب وأهله ، ومن ثمّ إدخال الوطن وأهله في معاناة لا أول لها ولا آخر ، وليس لكونه أسهم إسهاماً مباشراً في تدويل الشأن السوداني ، وليس لأن الجاهلية الأولى وما إرتبط بها من تعصب وعنصرية عرفت طريقها إلى السودان وأهله في عهده ، وليس لأنه أطلق العنان لجماعات التطرف التكفيرية ولم يحرك ساكناً إزاء فتاواها الخطيرة ، التي إستفاد منها في مواجهة خصومه : كفتوى تحريم التعامل مع الحركة الشعبية ! ، وفتوى تحريم إنتخاب مسيحي أو منتسب للحركة الشعبية ! ، وفتوى عدم جواز تبديل الحاكم ! ، والإفتاء بتحريم الإنتخابات ، وبوجوبية ختان الإناث ، وتحريم المظاهرات . بل إمتد الأمر في وقتٍ سابق إلى تكفير الإمام الصادق المهدي ، والسيد/ محمد عثمان الميرغني ، ود.جون قرنق ، على خلفية ما إتفقوا عليه، حول إعلان الخرطوم عاصمة قومية لكل أديان وأعراق وثقافات أهل السودان ، ويتطلب ذلك إستثنائها من تطبيق لقوانيين ذات صبغة دينية إعلان القاهرة في مايو 2003 م . وثقتنا في فشل مشروعات الوحدة ، ولجانها ، وهيئاتها الحالية ، ليست لها علاقة بجراحات الماضي التي ذكرنا جزءً يسيراً منها ، آنفاً ، ولكنها تنبع من التناقض القاتل الذي يكتنف حكومتنا ، ومن شُح ْ الأنْفُس الذي ظل ملازماً لقادتها في حلهم وترحالهم . (2 ) اليقين أن قانون (النظام العام) لسنة 1996 م ، شأنه شأن قانون الأمن الوطني لعام 2009 م ، وشأن بعض نصوص قانوني العقوبات لسنة 1991 م ، وقانون الإجراءات المعدل لسنة 2002 م ، وكقانون الصحافة والمطبوعات للعام 2009 م ، وكقانون مكافحة الإرهاب لعام 2001 م ، قانون لا تستقيم معه وحدة البلاد ، طوعاً أو قسراً. لأنه يخالف دستور السودان الإنتقالي لعام 2005م ، ويناهض المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ، وينتهك حقوق غير المسلمين ، بل ينتهك حقوق المسلمين ويخالف أحكام الشريعة الإسلامية ، ويُعطي صلاحيات إستثنائية لشرطة النظام العام ، وفي غالب الأحيان يحرِم المُتهم من حق الدفاع ! ، بل يجوز وفقاً لقانون النظام العام أن تُعقد المحاكمات خارج قاعات المحاكم ، وفي غير ساعات العمل الرسمية ! ، وتدون مداولات المحاكمة في إستمارة تُركِز على إسم ومهنة وعنوان المتهم والتُهمة الموجهة له ، مع ملخص لأقواله وأقوال شهود الإتهام و الدفاع ، إن وجدوا ، ومن ثمّ يدون منطوق الحكم ، سواءً كان بالبراءة أو الإدانة ، مع ملخص موجز على سبيل التسبيب ! . وحين يكون الأمر كذلك ، تُعطّل كافة القواعد الفقهية الراسخة كقاعدة البراءة ، وأن الشك يُفسّر لمصلحة المُتهم ، وتُنتهك حقوق المتهم في محاكمة عادلة ، علنية أمام قاضيه الطبيعي ، فضلاً عن حرمانه من حقه في الدفاع عن نفسه، بإسم الفضيلة وحماية الثوابت الدينية ، التي يجوز ، حمايةً لها ، أخذ الناس بالشبهات ، وإقتحام مساكنهم ، وهتك سترهم ، والتقليل من ساعات أفراحهم !! ، لا شك أن الإسلام يُراعي حُرمات الناس ، ويعمّل على صيانتها . ولم يكن ذات يومٍ دين غِلظة وبطش ، بل هو دين رفقِ ولين . وإلا ما جازّ للفاروق بن الخطاب عليه الرضوان تعطيل حد السرقة عام الرمادة. ولما قََدّمَ خامس الراشدين بن عبد العزيز حق الفقراء في الغذاء على حق الكعبة في الكساء ذات عامٍ من أعوام خلافته. الإسلام لا يأخذ الناس بالظنون والشبهات ، ويُلزِم بالبينة : روى عبد الله بن عباس ،أن هلال بن أمية قذف إمرأته بشريك بن سحماء ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( البينة أو حد في ظهرك ) ، لاحظ أنه زوجها وليس شرطياً بالنظام العام! . وأحكام الإسلام لا تتطلب البينة ، هكذا ، وكيفما إتفق ، بل تضبطها بضوابط ، مراعاةً لحرمات الناس ، وحفاظاً على حقوقهم ، ومن ذلك ماروي عن الفاروق بن الخطاب ، الذي تسوّرَ و إقتحم ذات ليلةٍ ظلماء دار أحد رجال المدينة لضبطه ومن معه في حالة تلبس بالسكر ، فما كان منهم إلا أن دفعوا بأنهم إرتكبوا مخالفة واحدة ، وأن أمير المؤمنين إرتكب ثلاث : تجسس ، ودخل بيتاً دون إذنٍ أهله ، ودفعوا أيضاً بقوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) 189 البقرة ، وقالوا للخليفة القوي : إنك تسورت علينا ودخلت من ظهر البيت دون إذنٍ !. هذا أمير المؤمنين العادل بن الخطاب ، وليس شرطياً في النظام العام!. وقد أُنتقِدَ هذا القانون من أوجه عديدة ، من قبل عدد مقدرمن أساتذتنا الأجلاء الذين رأوا فيه مالايستقيم ، وما لايتفق مع أخلاق أهل السودان وعاداتهم ، بل و ما لايتفِق مع الشريعة الإسلامية . وأبلغ إنتقاد ، بل أقوى ضربة ، وجِهَت لهذا القانون كانت على لسان السيد علي عثمان يسين وزير العدل _ آنذاك حيثُ ندد بقانون النظام العام وبكل تجاوزاته (اهتمامًا منه بتحقيق العدالة في المجتمع ووقف أي انتهاكات لحقوق الانسان والعمل على سيادة حكم القانون ) علي عثمان يسين ،جريدة الشرق الأوسط 16 مايو 2001 م. إلا أنه ، وكعادة تصريحات وزراء ( الإنقاذ ) ، فكلام الليل مدهونٌ بزبدة!. (3 ) إلا أننا وبعد تسع سنوات من تصريحات الوزير الأسبق إستبشرنا خيراً بما قرأناه على صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 30 أغسطس 2010 م ، فيما يتعلق بإصلاحات وتعديلات قانونية قررتها الحكومة السودانية ، مراعاةً لحقوق غير المسلمين ، في (العاصمة الخرطوم!) .أقواس التشديد وعلامة التعجب من عندي . وقد تمنيت لو أن هذه الإصلاحات والتعديلات المزمعة شملت كافة القوانيين بالمراجعة والإصلاح ، لمصلحة أهل السودان قاطبة ، فهي دون أدنى شك قوانين طاردة لأهل الشمال والجنوب على السواء ، نسبة لما تعج به من نصوصٍ مُقيدة للحريات ، ومُنتهكة للحقوق. على أيٍ ، إستحقوا الإشادة والتقدير لمجرد التفكير في إمكانية الإصلاح القانوني ! ، والعافية درجات . وإذا أردنا وحدة وطنية حقيقية ، فإن ذلك يتطلب مطلوبات ، أهمها إزالة كافة النصوص القانونية ذات المحتوى الديني ، على الأقل في مواجهة غير المسلمين ، وكان يُفترّض أن يُعمم هذا التعطيل ليشمل كافة أرجاء السودان ، وليشمل مراجعة كافة القوانيين لمواءمتها مع مقتضيات الوحدة الوطنية . غير أنني ضربتُ كفاً بكفٍ ، حين علمتُ بأن اللجنة العدلية بمفوضية غير المسلمين وجدت أن المواد التي تستحق التعديل ، وفي كل القوانيين السارية،لا تتعدى الأربع مواد فقط! ، وهي المتعلقة بإقامة حفلات الزواج ، التي تُحدِد سقفاً زمنياً بالنسبة للمسلمين لا يتجاوز الحادية عشرة ليلاً ، وقد قررت اللجنة تجاوز هذا السقف الزمني بالنسبة للمسيحيين بالنظر إلى أن طقوس الزواج عندهم تأخذ وقتاً طويلاً ( داخل الكنائس ) ، وكذلك قررت اللجنة السماح لهم بتجاوز السقف الزمني بالنسبة لإقامة الحفلات حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً!. و سمحت لغير المسلمين بإقامة الحفلات الغنائية والمسرحية أثناء صلاة الجمعة ، إذا لم يكن مقصوداً بذلك التشويش على الصلاة! ، ولستُ أدري ماهو المعيار الذي يُمكن أن نستهدي به لمعرفة ما إذا كانت نيتهم التشويش على المصلين من غيره؟ ، كما قررت اللجنة إلغاء المادة 21 الخاصة بإغلاق المحال التجارية ، أثناء صلاة الجمعة ، وقررت بالتالي السماح لغير المسلمين بفتح محالهم التجارية أثناء الصلاة ، وسمحت لهم كذلك بفتح محال الأطعمة والمشروبات أثناء شهر رمضان المبارك . تمخضّ الجبل فولِد فأراً!. (4 ) ومع هذا الشُحْ الواضح ، والإستهبال الفاضح ، أبت نفوس جماعات الضلال إلا أن تُقدِم عرضاً متطرفاً ، حيثُ إنتقدت ،الهيئة المسماة بهيئة ( علماء السودان ) ، الأصوات المطالبة بالتعديلات القانونية ، وإستنفرت منسوبيها لإجتماع هام لمناقشة المواد المُراد تعديلها!، كما صرح أمينها العام البروفيسور! محمد عثمان صالح : بأن أية محاولة لإدخال تعديلات جديدة على حقوق المسلمين تُعَد خروجاً على إتفاقية نيفاشا! ، وذريعة لنشر الفوضى والفساد الأخلاقي . وقد هدد بنتائج سيئة للغاية سوف تترتب على إدخال هذه التعديلات حيز النفاذ ، وحذرت الهيئة من أن أية محاولة للإلتفاف على الدستور والقوانيين الحالية سوف تؤدي إلى مجازفة تضر بعملية السلام ، وتهدد الأمن الإجتماعي وتقوض ماتم الإتفاق عليه!! . موقع جريدة الصحافة، 1 سبتمبر 2010 م. ولم يُدرِك هؤلاء (العلماء) أن إلتفاف القوانيين (السائدة ) على الدستور الحالي ،أمر يدركه كل من كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد. أمر هذه الهيئة ، ورجالاتها مفهوم ، وهذه التصريحات البليدة مما إعتادوا على قوله ، وإعتدنا على سماعه دون أن يقترن لنا حاجب !، إنما الغريب حقاً هو موقف مفوضية غير المسلمين ، التي يبدو أنها قد أرهبتها هذه التصريحات ، فذهبت إلى الدفع بأن الهيئة ( فهمتنا غلط ) ، وإلى تبرير موقفهم بأنهم أشركوا في هذه التعديلات كل من : د. الحبر يوسف نور الدائم ، والكاروري ، ورئيس جماعة أنصار السنة ! . الرأي العام 4 / 9 / 2010 م . ولستُ أدري كيف فهمتهم الهيئة غلط ؟، ولماذا أشركوا الحبر والكاروري ورئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في صياغة التعديلات أصلا؟. (5 ) لقد وصلت بلادنا إلى مرحلة متأخرة من التردي ، وصارت قاب قوسين أو أدنى من التشظي ، الأمر الذي لا يمكن معه السكوت على أمور وتصريحات أئمة التطرف هؤلاء ، وعلى الحكومة السوداينة أن تتخذ خطوات ، جدية ، في مواجهة هؤلاء ، والتصدي لجهلهم بحزمٍ ، وإفساح المجال أمام الكيانات الدينية المحترمة والمستنيرة ، كهيئة شئون الأنصار التي إنتقدت ، على لسان أمينها العام عبد المحمود أبو إبراهيم ، إتجاه هذه الهيئة المتطرفة التي سوف تدخل الوطن وأهله في جحر ضبٍ خرب ، إن تُركت على ماهي عليه . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإنه يتوجب على وزارة العدل ، دون غيرها ، الإنخراط بجدية في مراجعة كافة القوانيين السودانية ، التي أكسبتنا سمعة سيئة . مراجعة هذه القوانيين وتعديلها ضرورة وطنية ، ليس لأجل الوحدة ، فحسب ، بل لمصلحة العدالة التي غابت عن ساحتنا سنوات طوال . وصار أمرها بيد مجموعاتٍ مسيسة ، همها الأكبر رعاية مصالحها الذاتية والحزبية الضيقة . وهذا التردي التشريعي ، والعجز القضائي ، جرا علينا ويلات المحكمة الجنائية الدولية ، وسوف يجران علينا ويلات الإنفصال ، وسوف يؤثِران حتماً بالسلب على إجراءات المشورة الشعبية في المناطق الثلاث، إن لم ننتبه في الساعات القليلة المتبقية لخطورة هذه التشريعات القائمة وضرورة إجراء إصلاحات واسعة عليها ، أولاً ، وإلحاق ذلك بإصلاحات واسعة بالجهاز القضائي ، ثانياً . أخيراً : على مفوضية غير المسلمين أن تتحلى بقدرٍ من الشجاعة والمسئولية وتُطالِب بإلغاء قانون النظام العام لسنة 1996 م ، لمخالفته الصريحة لدستور السودان الإنتقالي لعام 2005 ولإتفاقية سلام نيفاشا . ولكونه حجر عثرة أمام وحدة السودان المأمولة. refaat alameen [[email protected]]