تمر الأيام سراعا بل تطير كأنما قد ركبت لها أجنحة، فبالامس كان الناس يترقبون اطلالة الشهر المبارك عليهم، واليوم تطوى الأيام ويستعد الناس للاحتفال بعيد الفطر حيث أصبحت الفرحة لا تماثل فرحة الأمس، فاليوم وان فرح الناس فان فرحتهم غير مكتملة فهناك أناس منا ضربتهم السيول والفيضانات فانقلبت سعادتهم شقاء وبؤسا، شردوا ودمرت بيوتهم ولما تكتمل فرحتهم بعد، وهناك من شردتهم الحروب فصاروا بلا وطن ولا قرار أو مستقر ولا مستقبل ومصيرهم كما يقال في كف عفريت، وهكذا أحاطت المشاكل بالبشر احاطة السوار بالمعصم، ففي كل بقاع العالم مشاكل من جور الطبيعة ومن جور الانسان لأخيه الانسان بسبب الظلم والطغيان، ونصيب الأمة الاسلامية من تلك الكوارث دائما هو نصيب الأسد، هذا فضلا عن مشكلة الأيتام والفقراء والمساكين الذين تضاعفت اعدادهم في عالمنا الاسلامي وبين ظهرانينا تعاليم ديننا الحنيف التي تحض على اطعام المسكين والرفق باليتيم . ونحن نستقبل العيد علينا أن نستصحب كل أولئك البؤساء المشردين ونشاركهم فرحة العيد التي تأثرت شأنها شأن كل شئ بموجة التغيير التي ضربت العالم فقلبت حياته حتى كان كل شئ غريب المذاق عن الأمس ففرحة اليوم ليست كفرحة الأمس مهما كبرت، ومهما صفت فهي مفعمة بمرارة وبشعور حزين ، قلوب واجفة وعيون دامعة..... ففي زماننا الكل يفرح كبارا وصغارا الا ان الأطفال تكون فرحتهم بالعيد فرحة كبيرة، فهو مؤتمر كبير واجتماع عظيم تمتد فيه الايادي بالتهنئة وتكبر فيه الابتسامة وتزحف فيه الافرح لتقضي على كل الاحزان وتغمر كل تضاريس التعاسة وتشرق فيه الدنيا بنور يبدد كل ظلمات احزاننا. يبدأ الصغار في تفصيل ملابسهم الملونة المزركشة وأحذيتهم الجديدة لاستقبال العيد وهم في قمة السعادة، وقبيل ايام يغزو الناس الأسواق فيشتروا أصنافا وضروبا من حلوى وكعك العيد وهناك كثير تسمح لهم امكانياتهم بعمل كعك العيد في (الطابونة) حيث يشترون كل لوازمه، وتكتظ المخابز بصواني الكعك باشكاله وألوانه المختلفة وكانت في تلك الأيام الحلوة يفزع الأولاد للجيران حيث يوصلون صواني (الخبيز) الى الطوابين أو الأفران التي تغص بالصواني القادمة من شتى بيوت الحي ويعيدونها بعد اتمام عملية الخبز. ومع اطلالة فجر العيد يصحو الصغار والكبار وقد اكتملت استعداداتهم وهم في قمة السعادة والطرب لتلك المناسبة السارة حيث تسكن البهجة نفوسهم وترفرف السعادة في سموات مصلى العيد الذي أعد من يوم الوقفة (وهو اليوم الذي يسبق العيد، وقد أخذ من عيدد الأضحى حيث وقفة عرفات) وازدانت ساحته بالأعلام وانتظمت أرضه البروش في صفوف منتظمة للمصلين من الرجال، أما النساء فتقع صفوفهن بمسافة قصيرة خلف صفوف الرجال ويصطف الأطفال بمحاذاة صفوف النساء وقد لبسوا الجديد من أجمل الثياب وأحلاها وانتعلوا أحذية العيد وهم يحملون البالونات والألعاب والهدايا المتنوعة من المزامير والألعاب التي تصاحب هذه المناسبة السعيدة. ومن خلال مكبرات الصوت تهدر حناجر المصلين مجلجلة بالتهليل والتكبير ... الله أكبر ... الله أكبر لا اله الا الله ... الله أكبر الله اكبر الله أكبر ولله الحمد ... الى أن يحين موعد الصلاة.... التي ينادى لها الصلاة قائمة .... الصلاة قائمة.... بدون إقامة فيبدأ الجمع في القيام استعدادا لها يسوون صفوفهم الطويلة وتبدأ الصلاة بتكبيراتها المميزة وتعقب ذلك الخطبة الخاصة بصلاة العيد... وعقب الصلاة يبدأ المصلون في تبادل تهاني العيد، وتجد نفسك أمام حشد كبير من الناس ويلتقي الأصحاب والاصدقاء وتكون صلاة العيد بمثابة مؤتمر كبير يهرع له كافة أهل الحي ويعود من كان منهم مسافرا لطلب الرزق أو العلم في الخرطوم أو في أي من أقاليم السودان المختلفة، وكانت فرصة يجتمع فيها شمل العائلات والأسر، فيعود الخال أو العم الغائب منذ أمد بعيد ويعود الطلاب الذين اضطرتهم ظروفهم للدراسة خارج نطاق المدينة التي تسكن فيها أسرهم وذويهم، وربما قابلت غائبا لسنوات في صلاة العيد أو خلال أيام العيد. ومن المصلى تنطلق مجموعة من المادحين وهم ينشدون المدائح النبوية.... صلاة الله مولانا على طه الذي جانا.....صلوا على صلوا على ... بحر الصفا المصطفي .... صلوا على ... وآله وصحبه للوفاء..... ومجموعة أخرى تضرب النوبة وتردد الأناشيد وتمتزج أصواتهم بأصوات الأطفال ومزاميرهم وصيحات الفرح ويزفون مجموعة المادحين الى حيث موقع (الخلوة) حيث يجتمع الناس هناك لتناول طعام الافطار المكون من العصيدة وملاح التقلية أو الروب والقراصة وغيرها، وعادة ما تخرج الأسر المجاورة للخلوة صواني الفطور الذي عادة ما يكون كافيا لتلك المجموعة التي التقت في الخلوة. وعقب الصلاة ينطلق الناس في مجموعات في جولات لتبادل الزيارات، حيث تبدأ من الجيران والأقارب ويكون في مقدمة المجموعة شخص يتولى قيادتها حيث يطرق الباب ويصفق الجمع لاعلام أهل البيت سيما النساء ايذانا ببداية الزيارة فيطوفون على ( ديوان الرجال) مهنئين كل أهل البيت من الرجال ثم يواصلون الى حيث مقر النساء، وبدون حرج أو (خجل) يهنئونهن بالعيد.... العيد مبارك عليكم.... ولا ينفك الباب يطرق ونسمع منه أصوات بعض الفئات التي أصبحت مألوفة في الأعياد تنادي : عيد أم بارا (مبارك) علينا عيكم..... كل سنة طيبين طيبين..... وكذا الأطفال يطوفون في جماعات وهم يتصايحون ... العيد مبارك .... العيدية... وتتمثل العيدية في حفنة من النقود المعدنية ربما من فئة الخمسة أو العشرة قروش .... وقليل من الحلوى والتمر..... ويتكرر طواف المجموعات وربما تعاقب الناس على بيوت الآخرين.... ولا ينقطع سيل العواد والمهنئين بمناسبة العيد على البيوت طيلة أول يوم في العيد وربما لثالث الأيام ... في المناطق البعيدة.... ولا تخلو الحدائق العامة في المدينة من تجمعات اسرية مصطحبة أطفالها للترفيه عنهم طيلة ايام العيد .... وفي الأمسيات ربما تكون دور العرض السينمائية هي في قمة أولويات بعض الاسر أو المجموعات الشبابية التي تؤم تلك الدور لمشاهدة بعض العروض المنتقاة من الأفلام العربية أو الهندية أو الأمريكية أو الأوربية المشهورة وغيرها من القصص الروائية أو البوليسية التي كانت تنتجها كبريات شركات السينما في هوليود، وربما قدمت المسارح بعض العروض الموسيقية لمحبي الفنون الغنائية، حيث كانت هناك بعض الفرق تنتهز فرصة الأعياد وتطوف على أقاليم السودان المختلفة وربما اشتمل كبار الفنانين الغنائيين آنذاك في تلك العروض. ولاحقا ظهرت الفرق المسرحية الطوافة التي كانت تهتم بتقديم عروضها المسرحية في المناسبات على مسارح الأقاليم، وكانت عربات ما يعرف بالسينما المتجولة (لوحدة أفلام السودان)/ وهي وحدة توعوية تثقيفية ترفيهية تابعة لوزارة الاستعلامات والعمل (وزارة الاعلام) تطوف على المناطق الريفية في اقاليم السودان المختلفة، وهي عربات حكومية من طراز (كومر) الانكليزية مجهزة بشاشات العرض الخاصة التي تقدم من خلالها عروضها السينمائية وفي مقدمتها (المجلة المصورة) وهي نشرة مصورة تعكس نشاط وزارات الحكومة وبعض برامج التسلية والثمثيليات القصيرة مثل (تور الجر) الممثل القدير الراحل المقيم عثمان حميدة، وأذكر أن أحد المعلقين كان الأديب الكبير الطيب صالح، طيب الله ثراه وغيره من المذيعين الرواد آنذاك. وان لم تخني الذاكرة أذكر أن العربة التي كانت مخصصة في مدينة ودمدني وكانت تزورنا في حي محطة هيئة البحوث الزراعية (التجارب) يقودها شخص اسمه موسى، كان هو السائق والفني المسئول عن التشغيل، وكانت تزور المنطقة من حين لآخر، وكانت بحق احدى الوسائل الاعلامية الفعالة التي تعمل على تثقيف وتوعية والترفيه عن المواطنين وهي تلعب دور الاذاعة والتلفزيون، وربما تحدثنا عنها بشئ من الافاضة في فرصة أخرى. من كل قلبي آمل أن تكون فرحة العيد غامرة على كل قرائي الأعزاء وأسرهم وذويهم وأحبائهم، الذين لا أشك أن لهم العديد من الذكريات الجميلة التي ترتبط بهذه المناسبة السعيدة واتمنى من الله الكريم ورب العرش العظيم أن يعيده مرات عديدة علينا والسودان ينعم برغد العيش والمحبة والسلام وبالحياة السعيدة المفعمة بالاستقرار والمودة، وأن يعيده على الامة الاسلامية والمسلمين كافة باليمن والخير والرفاهية والتعاون على البر والتقوى. وكل عام وأنتم بخير. alrasheed ali [[email protected]]