وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    مشار وكباشي يبحثان قضايا الاستقرار والسلام    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    راصد الزلازل الهولندي يحذر مجدداً: زلزال قوي بين 8 و10 مايو    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عُمَر الشّيْخ : دِبلومَاسيّ خَسِرَهُ الإسْتِفتاءُ ... بقلم: جمال محمد ابراهيم
نشر في سودانيل يوم 18 - 09 - 2010


( 1 )
عمر الشيخ : سفير مقتدر من سفراء الجيل الثاني في وزارة الخارجية السودانية ، وقد تقاعد قسراً في أوائل سِنَي الإنقاذ . ومع احتفاظه بقناعاته السياسية الشخصية، فقد كان الرجل في حياده الدبلوماسي المهنيّ، على كفاءة مشهودة وقدرات مهنية عالية ، منحته حصانة مبينة ، لا أدري كيف غابت هذه الحصانة على من تولوا مسألة "فحص القدرات" في سنوات الإنقاذ الأولى، توطئة لاستبقاء من يُستبقى، أو الإستغناء عمّن ارتأت السلطة ازاحته إلى غيابة الصالح العام . كان خروجه، وعلى الأقل في نظر الكثيرين الذين عرفوه، زميلا في الوزارة، ومعلماً تعرفنا إليه بين ردهات وزارة الخارجية وفي بعثاتها في الخارج ، خروجا محزناً، إذ هو بالتأكيد يكون بالخصم ويعدّ خسارة لوزارة الخارجية ، لا كسباً لها .
حين ذهب الرجل إلى الأمم المتحدة لتستفيد من قدراته في الترتيبات السياسية لقضية الصحراء الغربية ، كان مكسباً للسودان قبل أن يكون إضافة لرصيده الكبير في ساحات الدبلوماسية الجماعية ، في الأمم المتحدة وفي منظماتها ووكالاتها المتخصصة ، كما في المنظمات الإقليمية والأفريقية وهي تجهد في فضّ النزاعات، وقد ترك الدبلوماسيون السودانيون بصمات لا تنكرها عين ، برغم غائلات الدهر، وتغولات السياسة في الوطن أو خارجه . إبان عمله في وزارة الخارجية، شارك السفير عمر في اربع عشر دورة من دورات الأمم المتحدة، وعمل ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وكان خلال ذلك رئيساً للمجموعتين العربية والأفريقية.
( 2 )
للدبلوماسية السودانية رصيدها الكبير، عربياً وافريقياً . . أعدّد لك نماذج مختصرة منه ، في الأسطر التالية :
كان محمد أحمد محجوب – ال"بوس"- وزيراً للخارجية السودانية في سنوات الخمسينيات الأخيرة، قبيل انقلاب الجنرال ابراهيم عبود ، وقد كان وزيراً رقماً في الساحة العربية. كان نجماً وسط مجموعة الوزراء العرب في الأمم المتحدة، حين اختاروه متحدثا باسمهم في ذلك المحفل الأممي ، ولم يكن ثمة من يشكك في "عروبة"- أو للدقة "استعرابية"- السودان . هو ال"بوس" داخل السودان ، كما في خارجه .
كان الرّاحل الشريف الحبيب جنرالاً كبيراً في الجيش السوداني حين ابتعثه السودان- استجابة لترتيبات عربية - ليكون وسيطاً تصالحياً في الأزمة الحدودية التي نشبت بين العراق ودولة الكويت التي استقلت حديثا أوائل الستينيات من القرن الماضي . نجحت وساطة الرجل في احتواء النزاع ، برغم تعقيداته وترسباته التي نامت سنين طويلة، ثم استفاقت من جديد بسبب تطورات وتداعيات معقدة خلال العقود الثلاثة التي تلت ذلك النزاع ، وتصدعت علاقات العراق والكويت لأسبابٍ تتصل بالصراع مع العراق ، والمطالبات العراقية التي اشتطت حتى وصلت إلى الإحتلال الكامل للكويت في 1990.
شهدت كواليس قاعة المؤتمرات في أديس أبابا في سنوات الستينيات الأولى وجمال محمد أحمد سفيرا للسودان عند أسد يهوذا ، كيف سمقت الدبلوماسية السودانية في أعين حرّاس القارة الأفريقية وقد تداعوا لتأسيس كيان جامعٍ يلمّ شتاتهم ، بعد تشققات في جسد القارة، كادت أن تمزقهم إلى جماعات : واحدة تلتفّ حول رؤية سموا أنفسهم جماعة "منروفيا "، وجماعة أخرى هي مجموعة "الدار البيضاء". تشققات وصراعات أجّجتها الخلافات والتنافسات التاريخية بين الفرانكفونية والأنجلوفونية في أنحاء القارة . سيذكر التاريخ للسودان دورا مشهودا ، وللدبلوماسية السودانية بصمة قوية براقة في العاصمة الإثيوبية عام 1963، وهي تسهم في بناء اللبنات الأولى لمنظمة الوحدة الأفريقية . كانت الدبلوماسية السودانية حضوراً لافتاً في أديس، وقيادات القارة تصنع من ألوانها المتباينة لوناً قزحياً ، منحها قوّة متجددة، وفتح منافذ لفعالية أفريقية ، وقف عليها رجال من أمثال جمال عبد الناصر وهيلاسيلاسي وموديبو كيتا وسيكوتوري وكوامي نيكروما وجومو كينياتا. كان الاستكبار قزماً صغيراً أمام هؤلاء العظماء الكبار. .
تلك قصص لنماذج من دبلوماسية "سودانية " فاعلة وساطعة في الساحة العربية، كما في الساحة الأفريقية.. كانت دبلوماسية الأدب وقتذاك، قد منحتْ الفيتوري ومحي الدين فارس وجيلي عبد الرحمن، مكانا فسيحاً في باحة الأدب العربي ، مثلما منحت دبلوماسية الرياضة الكرة السودانية ، دورها الرائد في تأسيس اتحاد القارة الأفريقية وكأسها الأفريقي.
كان السودان رقماً مضيئاً في سماء القارة، لا في ظلام بهيم . .
( 3 )
عمر الشيخ المنحدر من نسلٍ دبلوماسيٍّ عريق، هوَ من السُّفراء السودانيين الذين شهدتْ لهم الأمم المتحدة خبرات مقدرة وهو يمثّل بلاده هناك. ثم لا تغفل عن بذله فتتيح له عبر تكليف سياسي مهني خاص، الإنخراط في الإجراءات المتصلة بترتيبات الإستفتاء في نزاع الصحراء الغربية ، وهو النزاع الأفريقي الذي يلي نزاع السودان في الطول الزمني . نزاع الصحراء نزاع معقد تولّى ملفه في مرحلة من المراحل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر، ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة أوائل سنوات التسعينات من القرن الماضي . عمل السفير الشيخ نائباً لرئيس اللجنة المكلفة بتحديد أهلية الناخبين ومساعداً لرئيس بعثة الأمم المتحدة وممثل الأمين العام الشخصي الذي هو السيد جيمس بيكر. ثم من بعد توالت تعقيدات عملية الإستفتاء، وترتيب اجراءات تنفيذ حق تقرير المصير . صار ملف تحديد هوية من يحق له التصويت في الإستفتاء، من أعقد الملفات . السفير السوداني عمر الشيخ من الماسكين بهذا الملف لسنوات امتدت بطول عقد التسعينيات من القرن الماضي. جرى حصر من حددت هويتهم للمشاركة في الاستفتاء حول الصحراء الغربية حتى عام 1998 ، فبلغ 147348 من سكان المنطقة في بيئة ديموغرافية بالغة التعقيد والحراك . لكن في عام 2000 تعثرت خطة الاستفتاء وغادر السفير عمر الشيخ مهمته في عام 2004 ، وإلى ذلك يقول السفير: إن أعقد ما في عملية "حق تقرير المصير" ، هو تحديد أهلية من له الحق ليمارس التصويت .
هنا كانت مهمة تحديد الهوية والأهلية، من أشقّ المهام التي واجهت بعثة الأمم المتحدة في استفتاء الصحراء الغربية ، إذ امتدت مراحل تحديد الهوية والأهلية لقرابة العشر سنوات ، فيما لم يتجاوز من تم حصرهم من السكان، ربع المليون نسمة . يقول السفير الشيخ : "حينما أنظر إلى ما ينتظر مفوضية الإستفتاء السودانية، في مهمتها الخاصة بتحديد من يحق لهم الإدلاء بأصواتهم لتقرير المصير ، وهم ملايين من البشر الذين سيشاركون فيها ، أحسّ بانزعاج وقلقٍ بالغين " .
ذلك انطباع رجل خبير لا يمكن أن نلقي به إلى سلة الإهمال، بل ينبغي أن نستصحب رأي الخبراء في مثل هذه التجارب ونتدارسها ، وإن كان الوقت المتاح قد نفد . بالطبع ما كان للسفير عمر الشيخ من تأثيرٍ على مسار عملية تحديد هوية وأهلية الناخبين في منطقة الصحراء الغربية ، فهو الفنيّ صاحب الخبرة الدبلوماسية والقانونية العالية، ويعرف تماماً مدى الصلاحيات الممنوحة له لتنفيذ المهمة التي كلفوه بها . بعد تعثّر العملية السياسية في الصحراء الغربية ، ودّع السفير عمر ملفه وعاد إلى السودان، خبيراً متابعاً ، وما بخل برأيٍ سديدٍ لمن طلبه في قضايا الوطن العصيّة ، بل رفع رؤى فكرية وسياسية بالغة الأهمية لكبار المسئولين، ولكثيرٍ من المؤسسات، وما ردّه عن ذلك ما حاق به من ظلم أوّل سنوات الإنقاذ . ومن المصادفات أن السفير عمر الشيخ وقبيل أن يبدأ التداول بشأن ترشيح أسماء لمنصب الأمين العام لمفوضية الاستفتاء، كان قد أعدّ في يونيو 2010، وبطلبٍ من الشريكين الأساسيين في اتفاق السلام الشامل ، مسودة اتفاق بشأن الكيفية التي يمكن بها للأمم المتحدة أن تساعد في عملية انجاح الاستفتاء في جنوب السودان، أعانته في انجازها خبرته الطويلة في معالجة مثل هذه الملفات..
حينما تولى البروف محمد ابراهيم خليل مهمة رئاسة مفوضية الاستفتاء، نظر فيمن حوله ممّن لهم خبرات ويمكن أن يعينوه في إدارة المفوضية، وتولي مهمة أمانتها العامة ، كان تلميذه عمر الشيخ أول من خطر بباله . برغم أن القانون الذي وضع للمفوضية لم يتضمن معايير معينة لمن يتولى وظيفة الأمين العام فيها، لكن للقانوني الكبير حق صياغة المعايير واقتراح الصلاحيات للأمانة العامة ، ورسم تفاصيل أدائها.
غير أن هذه لم تكن معضلة المفوضية وحدها، إذ المعضلة الحقيقية تمثلت في تحديد تبعية الأمين العام للمفوضية، أيكون من الجنوب أم من الشمال ؟ للأسف لا تساعد مواد قانون الاستفتاء لعام 2009، هنا. ولنا أن نشير أن هذا القانون لا يتوفر بيسرٍ على الشبكة العنكبوتية، ولا نعرف لمن يذهب اللوم على هذا الخلل، والأمل عندي أن يكون قد جرى تلافي هذا النقص في تلك النسخة التي أجازها المشّرع ولم تتوفر لنا . رؤية رئيس المفوضية أن المنصب له مواصفات فنية، ولا يجب إخضاع الإختيار لمعادلات المحاصصة التي وسمت جوانب أساسية في اتفاق السلام الشامل ، ومن بعد الدستور الانتقالي لعام 2005. ولعلّ من المنطق أن نقرأ البيان الذي بثه السفير عمر الشيخ عشية ما تردد حول أهليته وخبراته ، وما جرى من تشكيك، وكأن الرّجل ناقص الخبرة، أو هو في نظر بعض أطرافٍ في الساحة السياسية الجنوبية، مَنْ يتحمل إخفاقات صاحبتْ عملية تحديد الهوية في استفتاء الصحراء الغربية . كانت للسفير عمر تحفظاته حول قانون الاستفتاء منذ الوهلة الأولى التي طلبه فيها رئيس المفوضية، وشاوره لتولي مهمة الأمانة العامة، بل وأبدى إعتذاراً مسبّباً ومقنعاً. وأنا هنا أستميحه لأورد بعض ما تداولنا حوله- وللمجالس أماناتها - من تفاصيل حول ملابسات اختياره للمهمة .
يقول السفير عمر الشيخ أنه ونزولاً على رغبة رئيس المفوضية، قد آثر أن لا يعلن اعتذاره عن تولي وظيفة الأمين العام لمفوضية الاستفتاء، حتى لا يؤثر ذلك على التفاوض المضني الذي كان يجري وقتها لتحديد تبعية الأمين العام ، أن تكون للشمال أم للجنوب . ولقد تابعنا وتابع القراء المتابعون ذلك السّجال الدائر، واللقاءات المطولة والتصريحات التي تبادلتها جميع الأطراف، بما فيها رئيس المفوضية نفسه، حول هذا الأمر . في لحظة مفصلية، هدّد البروف خليل بتقديم استقالته مستيئساً. كان السفير عمر الشيخ حزيناً لما بدر من بعض الأطراف من إشارات انتقادية مسّته شخصياً ، وبعضهم حسب أنّ الرجل "فشل" في عملية استفتاء الصحراء الغربية ، وبالتالي قدّروا أنه لن يفلح في إدارة الأمانة العامة لمفوضية استفتاء جنوب السودان ! قول ظالم للأسف، ورد أنه صدر عن بعض قيادات في الحركة الشعبية، الطرف الثاني في "حكومة الوحدة الوطنية" . بعد قبول الأطراف الجنوبية المعنية، بأن يتولى مهمة الأمانة خبير شمالي، جاءوا إلى السفير عمر الشيخ يطلبونه ويلتمسون قبوله، لكنه كان عند موقفه المبدئي متمسّكاً باعتذاره السابق ، بل ومصرًّا عليه أكثر مما مضى، خاصة بعد ما شاع من تعليقٍ سالب عن مقدراته. ذلك كان حين زاره مسئولان كبيران من الحركة الشعبية يلحّان عليه قبول المنصب ، جدد اعتذاره لهما . ثم لا تتوقف الضغوط ، إذ أصرّ الرجل الثالث في الدولة، على مقابلته لإثنائه عن رفض المنصب ، تصرّف بدبلوماسية حصيفة وكياسة عُرفت عنه، ونقل للمسئول الكبير رأياً مقنعاً ، تفهّمه الأخير وزاد في نظر ذلك المسئول الرفيع، تقديره للسفير الشيخ. ما أنصف المتشكّكون في الحركة الشعبية السفير الخبير، فقد اتبعوا الظنّ والظنّ لا يغني مِن الحقّ . ولعل مطالبة الرجل، في البيان الذي نشرته له صحيفة "الأيام" قبل أيام، باعتذار علني من طرف من رماه بما يصل إلى محاولة تشويه السمعة، هو مطلب منطقي وسويّ، ولا غبار عليه .
( 4 )
ثم كان إعلان اختيار الصديق السفير محمد عثمان النجومي أميناً عاماً لمفوضية الاستفتاء. والنجومي من الخبرات الدبلوماسية النادرة ، وله باع كبير في مجال الدبلوماسية الجماعية اللصيقة بأنشطة المنظمات والهيئات الدولية . ولسنا في مقام المفاضلة بين سفيرين زميلين ، ولكن ومن نظرتي الشخصية ، أستطيع أن أقول أن السفير النجومي اختيار موفق بلا ريب، وندعو الله أن يعينه ويوفقه في تلك المهمة العصية.
ولقد كان السفير عمر الشيخ مضطراً لتبيان موقف اعتذاره ، ازاء من أشاع الكثير من الشكوك حول مقدراته وخبراته . تصدر بيانه صحيفة "الأيام" ، وغسل بيانه ذاك، كل الأوشاب التي أراد البعض الحاقها به وبإسمه. لم يخسر ولن يخسر السفير عمر شيئاً ، ولكن لم تكسب المفوضية رجلاً يملك مفاتيح الفنيّات المتصلة بأخطر عملية استفتاء تشهدها البلاد ، منذ أن كانت كياناً سياسياً واحداً، تشكّل عبر قرون طويلة، ليقف اليوم على مسافة زمنية لا تتعدى الأشهر الأربعة، متماسكاً أو يتشظى أيدي سبأ . لو كان للرجل أن يخرج عن حياده، وهو ما لن تسمح به فطرته المهنية ، لظفرتْ الحركة الشعبية بأمينٍ عام لمفوضية الإستفتاء، هو الأقرب إليها مزاجاً، والأبعد عمّن يتحمل وزر إقصاء الرجل عن مهنته بلا مبررات مقنعة أوّل سِنَي الإنقاذ .
( 5 )
يبقى الدرس الأخير، هو أن تستصحب مفوضية الإستفتاء بقدر مساحة الزمن القصير المتاح ، ذلك الإعتذار ومبرراته التي جاءت من خبير الإستفتاءات الأوّل السفير عمر الشيخ، وأن يتم تمحيص الإجراءات المتصلة بممارسة حق تقرير المصير، تمحيصاً لا يغفل عن أمرين: أولهما ضرورة الالتفات للجهود الإعلامية المطلوبة لتبصير الناخبين بحق تقرير المصير لجنوب السودان . أعجب إذ أرى كيف فصّل قانون المشورة الشعبية لعام 2009، دور الإعلام تفصيلاً مملاً ، فيما تضمّن قانون الإستفتاء، فقرة واحدة أوردها لك هنا :
((كفالة حرية التعبير لجميع أفراد الشعب السوداني عامة وجنوب السودان خاصة لتمكينهم من نشر أرائهم حول الاستفتاء عبر وسائل الإعلام وأي وسائل أخرى،))، هذا كل ما ورد في القانون عن العمل الإعلامي المصاحب لممارسة أخطر حقٍ يحدد مصير الوطن .
ثاني الأمرين هو ما لمفوضية التقويم والتقدير من دور ينبغي أن يُستصحب في معالجة ملف الاستفتاء واللوجيستيات المتصلة بتنفيذه، من تبصير بهذا الحق لمن سيمارسه، ومروراً بعمليات التسجيل وتحديد معايير الأهلية ، وإلى خيارات التأجيل العصيّة في آخر الأمر. "مفوضية التقويم" هي المفوضية المعنية بمتابعة تنفيذ اتفاق السلام الشامل أثناء الفترة الانتقالية (2005 – 2011)، بما يجعل من خيار الوحدة، ذلك الخيار الجاذب لمواطني جنوب السودان، ( أنظر المادة 221 من دستور السودان الإنتقالي). أتصوّر أن يكون لمفوضية التقويم، والتي على رأسها سفير بريطاني مقتدر هو السير ديريك بلمبلي، دور لازم في التأكد من سلامة الإجراءات الخاصة بالإستفتاء، خاصة تلك المتصلة ب "البيئة الملائمة لممارسة الإستفتاء" ، حسبما ورد في قانون الاستفتاء لعام 2009 .
لعلّ مساحات التفاؤل ستكبر حتماً لوجود البروف محمد ابراهيم خليل على رأس مفوضية الاستفتاء ، وعلى يمينه السفير المقتدر محمد عثمان النجومي ، يتولى شئون الأمانة العامة فيها. تبقى المهمة على عسر إخراجها، ملقاة على عاتق هذين الرجلين بالطبع، ومعهما المفوضية بتشكيلها الملتبس ، فيما كل الأطراف القريبة والبعيدة تأمل إنجازها في المدى الزمنى المضروب ، التزاماً بمقتضيات اتفاق السلام الشامل وجداول تنفيذها، وتقيّداً بحاكمية الدستور الإنتقالي للبلاد . يظلّ السؤال الكبير يدور حول تحديد "هوية" من يحق له التصويت، ازاء حدود يتعسّر تحديدها، وحراكٍ سكاني، فاقمه النزوح عبر سنوات النزاع الطويلة. على المفوضية أن تنجز كلّ ذلك بصورة حاسمة ، تختزل المدى الزمني الذي، في أفضل حالات التفاؤل، قد وصل إلى عشرة أعوام كما في حالة الصحراء الغربية ، لا بضعة عشرات من الأسابيع ، كما قد يستسهل البعض هنا وهناك، عن استفتاء جنوب السودان. .
وإذ أجدّد التهنئة لصديقنا الكبير السفير النجومي أميناً للمفوضية ، فإن الثقة كبيرة في أن اختياره للمهمة، سيكون تخفيفاً لتلك الخسارة التي نتجت عن اعتذار السفير عمر الشيخ، ونحن العارفين خبراته، ندرك أنه سيدير السفينة إلى وجهتها المرتجاة، بنزاهة وشفافية وبمهنية وبصيرة سياسية فنية حصيفة . .
ختام القول أن الدبلوماسية السودانية، وبخبراتها الذهبية المعتّقة، ستظل عوناً لوطنٍ يقدّر بذلها، ويثمّن أداءها، ويعزّز دورها . .
الخرطوم – سبتمبر 2010
jamal ibrahim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.