مروي الحلم أحسست برغبة ملحة في الكتابة عن سد مروي العملاق، ولو كنت ممن يجيدون نظم قوافي وروي الشعر لزينت جيده بأحلى قصيد وعقدا نضيد وأحلى نشيد. انها مناسبة غالية على شعب السودان طربت لها القلوب وسعدت لها النفوس ورقص لها الوجدان. وفي تصوري ليس هو سد بقدرما هو سرد لمنظومة متكاملة متناسقة متآلفة من المشاريع العملاقة التي يأخذ بعضها برقاب بعض، اتسقت وانتظمت عقدا فريدا كان واسطته جسم السد، بل الخزان الذى اختزن في جوفه الأمل الزاهر من مياه تفيض بالخير الوافر سقيا لتلك الأراضي البكر الشاسعة المترامية الأطراف الظمأي التي طال انتظارها لمياه النيل العذبة تبلل شفاهها التي شققها الجفاف المفتعل وتعانق السيول المتدفقة من تلك اليحيرة الضخمة مكتنزة معها خيرات الأرض المعطاءة، وتفيض طاقة لطالما انتظرتها ميادين الصناعة وحقول الزراعة. الأمن الغذائي: قصة السد ليست هي مبتورة عن قصة المنطقة التي سردها التاريخ حيث يعيد نفسه اليوم، بل هي حلقة من حلقات وثيقة الصلة بالبطولات والحضارات التي أرسى قواعدها وأعمدتها أجدادنا الذين تركوا لنا من الآثار ما يحدث عن عراقتهم وأصالتهم ونضالهم ودأبهم المتواصل لتغيير وجه المنطقة، فكانوا خير سلف لخير خلف. اذا فلا غرو أن يسير احفادهم على خطاهم ودروبهم حاملين لواء اليناء والتعمير، مواصلين فصول المسرحية التي لم تكتمل فصولها ولم تستحكم حلقاتها بعد. يخطئ من يظن أو يعتقد أن نهضة السودان في استغلال موارده النفطية، ولكن في الواقع فإن الموارد النفطية ماهي الا أداة وحافز لتفجير طاقات السودان وموارده الكامنة الأخرى وفي مقدمتها الموارد الزراعية الهائلة المتمثلة في استغلال الأراضي الزراعية الشاسعة الصالحة للزراعة الممتدة والتي تقدر بمئتي مليون فدان، بخلاف تلك التي يمكن استصلاحها، فضلا عن الثروة الحيوانية من الابل والضأن والابقار. وكما هو معلوم فإن الأمر الهام الذي يأتي في صدر اولويات التنمية ويشغل بال المنظمات والهيئات والحكومات على نطاق العالم هو الغذاء أو ما اصطلح على تسميته عالميا بالأمن الغذائي، وهو بالنسبة للسودان أمر سهل المنال ومسألة تتوافر لها جميع المتطلبات والظروف المواتية، والفرصة متاحة للسودان بحيث يعمل على زياد الرقعة الزراعية التي تحقق له الاكتفاء الذاتي الذي يضمن له تحقيق السيادة وحرية واستقلالية قراراته والنهوض باقتصاده وتحقيق الرفاهية لمواطنيه، في وجود المواد النفطية كحافز ومصادر داعمة لموارده الزراعية في المقام الأول. الانجاز في مروي ان ماتحقق في مروة يعتبر معجزة كبرى، وانجازا عظيما ويعتبر أكبر مشروع سد في افريقيا والشرق الأوسط والعالم الثالث حيث بلغت تكلفته 2 مليار دولار، ولكن كالعادة العتب على الاعلام ووسائله التي كثيرا ما أجهضت مجهودات جبارة. فاذا حدث في بلد ما مثل ماحدث في مروي لقامت الدنيا ولم تقعد، وبالرغم من أن الاعلام السوداني قد واكب التطور التقني الذي انتظم عالمنا اليوم، الا أن العنصر البشري لايزال هو نقطة ضعفه. فمن حيث الكم فقد تضاعفت اعداد الصحف اليومية الصادرة في الخرطوم الى أن وصل اليوم أكثر من خمسين صحيفة باللغة العربية والانكليزية. ورغم ذلك الكم الهائل، الا أن النوعية (الجودة) قد تراجعت بشكل ملحوظ. ونحن الآن لسنا بصدد تقييم وسائل الاعلام، ولكن نتحدث عن جوانب تقصير وسائله واخفاقها في التغطية الاعلامية المناسبة لذلك الانجاز العظيم. اذا نظرنا الى المشاريع المصاحبة والتي تشمل، على سبيل المثال لا الحصر ، مشاريع تهجير واعادة تسكين اهالي المناطق التي غمرتها بحيرة السد في المدن السكنية الجديدة وشبكة الطرق والجسور والمطار الدولي ومستشفى مروي، فإن أي من تلك المشاريع يعتبر انجازا عظيما بحد ذاته يستحق الثناء والاشادة. ومن المعلوم أنه من فوائد السد التحكم في المياه التي يجلبها النيل في فترة الفيضان في موسم الأمطار بحيث تكون المناطق الواقعة أدنى مجرى النهر بعيدة عن مخاطر الفيضان وآثارها التدميرية. وبالنسبة للكهرباء فقد تم بسط وتمديد الخطوط الناقلة في الأبراج العمالقة التي تخترق السهول والفيافي ناقلة الطاقة المنتجة عبر محطات وخطوط نقل ضخمة تصل سعتها الى 500 ميغاواط ومنها محطة المرخيات بالقرب أمدرمان التي احتفل بسريان التيار المولد من مروي في خطوطها الرئيسية توطئة لتوزيعها في خطوط الشبكة القومية. أما بالنسبة للري الانسيابي فقد تم تجهيز منفيذين لقناتين (ترعتين) عن يمين ويسار السد لري المشاريع الزراعية المستقبلية ،على جاني النيل، التي ينتظر أن يتم تخطيطها في المستقبل القريب لتحقيق الأمن الغذائي المنشود. لقد تم تدشين دخول انتاج أول توربينتين من الطاقة الكهرومائية الرخيصة في الشبكة القومية المتمثل في 250 ميغا واط، وهذا القدر مساو للطاقة الكهربائية التي يتنتجها سد الروصيرص (الدمازين) وبعد كل ثلاثة أشهر ستدخل توربينتان في الخدمة الى أن يكتمل تشغيل جميع التوربينات البالغة عشر توربينات بحيث تصل الطاقة القصوى المنتجة من السد الى ألف ومئتين وخمسين ميغاوط (1250). ولتبسيط عملية التوليد الكهرومائي ، فإن الماء المندفع من بحيرة السد بسرعة فائقة يقوم مقام الوقود في عملية التوليد الحراري فيعمل على تشغيل التوربينة التي بدورها تقوم بعملية التوليد جراء دوران التوربينة، ونظرا لانخفاض التكلفة تكون تكلفة التوليد المائي أقل بكثير من التوليد الحراري فضلا عن أن التوليد المائي لا يسبب تلوثا لعدم انبعاث غازات كما في التوليد الحراري، لذلك يطلق عليها بالتوليد النظيف صديق للبيئة لعدم وجود أي تلوث للهواء المحيط. ان سد مروي والمشاريع المصاحبة له تعتبر تجسيدا للعمل الاستثماري العربي المشترك وتوظيفا لرأس المال العربي ومحكا للخبرات السودانية المتمثلة في الشركات الوطنية التي اسهمت بالعمل في مشاريع السد، كما يجسد التعاون الصيني السوداني الذي امتد قرابة نصف قرن من الزمان. وسيعود بالنفع والخير الوفير على السودان وما شهدنا بالأمس من خيراته تعتبر أول الغيث.