إن حضارات الأمم وتكوينها ونشوئها لا تبدأ إلا من مستصغرها .. وما خيباتها وأفراحها الصادقة والزائفة إلا تطورا طبيعيا لبقائها .. ومحفّزا حقيقيا لتعايش أهلها .. فجريان النيل .. وسفح الجبل وقمته .. وتحفاف النخيل .. صهيل الخيل .. مستشفياتها غير المعقمة .. عويل النساء .. ختان البنات – على قبحه - .. الأغاني ، الكلمات والأمثال الخ .. كل ذلك يمثّل ذاكرة مقدسة ، من يحاول مسها فهو ينتزع قطعة من قلبك ويجمّد عواطفك وسط جبال جليد .. أن تُنتزع ذاكرتك العاطفية ، وأن يُمحى كلما علق منها من رواسب عمرٍ قصُر أم طال ، فكأنّما تجرّد من ملابسك فلا ورق شجر يستر سواءتنا ، ولا شعاراتنا تكسونا ، أسميها ذاكرة الوطن ، فالعلم لم يصنع ليرفرف عاليا خفاقا وحسب ، ولكنه طرّز ليكون رداءاً وحشمة نغطي به ما لا نريد إظاره .. فجراب الذاكرة العتيق هذا يحمل ما يحمل .. يحوى كلمات حينما ترن في سمعك فلا سمفونيات بتهوفن ولا دوزنات موزارت تهزك .. لها جرسها ولها إيقاعها الذي يحلّق بك في سماء لا يطولها إلا عاشق شاهق العشق .. ألا تذوب ولهاً وأنت تنعم بصوتٍ شجي يهمس في سمعك همساً ( من أم در يا ربوع سودانا نحييك وإنت كل آمال ) .. هل علم الوطن يكفكف دموعك يا سيدي ويا سيدتي.. فإن بقى من دموعك شيء فلا تهدرها ، حافظ عليها كضنين مسافر الصحراء الذي لا خل له سوى دابة عطشى .. فجرعة الماء تعادل خزانا وحياة .. وكذا دموعنا الغوالي .. والغوالي هذه ليست بين قوسين فقط ولكن تحتها خطين لونهما لون الدم الذي ينزف من قلوبٍ ما عاد يشفيها البكاء ويطببها النحيب! .. فأنت لا تحتاج لفرك عينيك أو دعك ناصيتك لتخرج الكلمات التي ستصبح مثل السلعة الغذائية وأنت تقلبها لمعرف تاريخ إنتهاء صلاحيتها .. أليس من عبثية القدر وسخريته أن تكون للكلمات تاريخ تصبح بعده ( فاسدة ) لا تصلح للإستهلاك الآدمي .. وجعي على وطني الذي يصبح فيه المستحيل ممكنا .. والجائز محرماً .. والذي في متناول يدك لن تطاله وإن أنفقت ما أنفقت .. نعم من الذي يجرؤ بعد حين قريب أن يدعى أن الوطن ( هو أرض المليون ميل مربع ) .. أليست هذه الجملة البسيطة تمثل إرث وثقافة وقدسية شعب رغم بؤسه وشقائه وتقلبه على مشاوي الحكام ( وكوانين ) الساسة .. وكير الجهل ، إلا أنهم كانوا سيفضّلون هذا الشقاء وتلك ( الإبتلاءات ) لتكون مهراً لئلا تمس عذرية هذه الأرض !!.. وإن كنت صبوراً جلداً لست مثلي .. سأضيف سلعة أخرى لقائمة السلع المحظورة والتي كتب تاريخ إنتهاء صلاحيتها في يناير 2011 ، نعم هي تلك الجملة الأثيرة لقلوبنا ( من حلفا الى نمولي ) فإن تناولت جرعة وأحدة من هذه المادة ( التالفة ) بعد ذلك التأريخ ستصاب بالتسمم ، وستفرغ معدتك كل مستلذٍ ومستطاب .. فإن إنهمرت دموع فلن تجففها كل ما صنعته أيدينا من أوهام وتهويم .. ( نلبس مما نصنع ) ! .. يا لقِصر أملي الذي كنت أظنه – ولا أقول أحسبه – يمتد لمليون أمنية .. ومليون رجاءٍ ومليون خفقة .. ولكن البارعون في تغزيّم الآمال الماهرون في تقليم أظفار الأحلام .. وتجفيف قناني الرجاءات .. الحاذقون في دلق الألوان القاتمة الطامسة .. المالكون لممحاةٍ بحجم وطن ( كان ) يمررونها على ذاكرة شعب وآهنة ، فيتلفون ملفات لم تكن محكمة التخزين جيدة الحفظ .. ذلك جُله نظير حفنة من الإنجازات العرجاء وممارسات تزكم الأنوف ورفات شباب غُرر به .. وسدٍ لن يغسل نجاستنا وأدراننا وإن تطهّرنا به لعشرين عامٍ أو يزيد .. نعم وكأني أسمع همهماتكم .. وما جدوى البكاء وقد سكب اللبن وجف .. أما دموعنا الطاهرة فلن تجف .!! في غربك عروس الرمال .. وفي شرقك آية جمال وجنوبك وآسع مجال .. يا حالة رطبك في الشمال بنعيم الجنوب جود لينا .. ومن فيض كردفان أغنيا تطرب بيك جميع أجيالك وفي كل البقع ترضالك طوالي الفرح في بالك .. يا ربوع شفنا استقبالك سودانا فوق زحل مرفوع وخيراتك تفيض نوع نوع عبدالرحمن عبدالله سلطنة عمان abdul ahmed [[email protected]]