[email protected] ( قَرْعُ طَناجِرِكُمْ في بابي أرهَقَني وَأطارَ صَوابي افعَل هذا يا أوباما.. اترُك هذا يا أوباما.. أمطِرْنا بَرْداً وسَلاما .. وَفِّرْ للِعُريانِ حِزاما.. خَصِّصْ للِطّاسَةِ حَمّاما فَصِّلْ للِنَملَةِ بيجاما يا أوباما.. يا أوباما وَسُعارُ الضَّجّةِ مِن حَوْلي لا يَخبو حتّى يتنامى) من قصيدة "أُوباما" للشاعر العراقى احمد مطر ******************* (1) مثلما ان هناك انواعاً من الحمّى المرضية التى تتسبب فى ارتفاع درجة حرارة الدماغ، مثل الحمى الصفراء، والحمى المالطية، والحمى القرمزية، فإن عندنا فى المنطقة العربية اجمالاً، وفى السودان تخصيصاً، نوعاً آخر من الحمى اسمه: "الحمى الامريكية"! ومن أبرز أعراض هذا النوع من الحمى أن المصاب بها يستغرقه، ويستقر فى روعه، ان كل شئ فى هذه الدنيا الفانية وراءه الولاياتالمتحدة، وانه لا يمكن فهم أو تفسير أي ظاهرة من الظواهر الكونية، او حتى واقعة من وقائع الحياة اليومية، دون استمزاج المُعامل الامريكى وتحرى تجلياته فى صيرورة هذه الظواهر وتلك الواقعات. كان لى صديق فى الخرطوم - طال عهدى به - دأبت على تناول ومناقشة القضايا العامة فى حضرته، فكنت كلما فرغت من ايجاز وعرض وجهة نظرى وتصورى حول أى قضية مطروحة، رأيته يطرق قليلاً ثم يسألنى فى كل مرة ذات السؤال، بغض النظر عن الموضوع وطبيعته: "طيب وأمريكا موقفها حيكون شنو؟ تفتكر أمريكا ممكن تسمح بهذا؟" أما فى مصر المحروسة، حيث جعلت من الطقوس الثابتة فى حياتى كلما هبطت ارضها الطيبة شراء الطبعات الاولى من صحف اليوم التالى، وقضاء الساعات الاخيرة من الليل فى مطالعتها، فقد ظل يهولنى ويدهشنى دائماً ضخامة نسبة المقالات والزوايا والاعمدة التى تجعل مادتها الولاياتالمتحدة ومواقفها، والشكوى من ظلمها وطغيانها وتعدياتها على الحقوق العربية. ويخيّل اليّ فى بعض الاحيان انك لو قمت بازالة جميع المواد التى تعالج الولاياتالمتحدة وسياساتها من هذه الصحف لخرجت الاوراق بيضاء من غير سوء، الا اقل القليل من الحبر المسكوب حول موضوعات اخرى فرعية! أغلب صحفيو مصر يبدأون يومهم عند كل صباح تشرق شمسه بالثناء على العليم الفتاح وشرب القهوة، ثم يسن الواحد قلمه ويبدأ مهمته الجليلة فى شتم امريكا وتقريعها ولعن سلسفيل جدودها. يسمى البعض هذا موقفاً، وأنا أسميه: عطالة مقنّعة. ولا عجب، فهذا بلدٌ أمسك بزمامه لعقدٍ كامل من الزمان رئيس اشتهرت عنه العبارة الذائعة: (تسعة وتسعون بالمائة من اوراق اللعب بيد أمريكا). رحم الله أنور السادات، فقد كان اول ربٍّ للبيت المصرى يضرب الدف الامريكى! (2) والذى يتفحص تضاعيف الساحة الاعلامية السودانية، فيُنعم النظر ويصيخ السمع لما يردده كثير من السودانيين، الغارقين حتى آذانهم فى شغل الكتابة وهرج الكلام حول قضية الوحدة والانفصال لن يند عن وعيه مركزية الدور الامريكى المتوهّم فى المعادلات السياسية شديدة التعقيد، التى تتعامل معها كافة القوى الوطنية اليوم، بأقدار متفاوتة ومتباينة من النضج والمراهقة. وتبلغ كثافة الهاجس الامريكى ذروته عندما ترى غلالات الحزن والوجوم تكسو وجوه البعض فتسأل، فيقال لك: ان هيلارى كلينتون أعلنت لشبكة سى بى اس الامريكية بأن الموقف فى السودان سئ للغاية، وان الحرب لا محالة قائمة بين الشمال والجنوب. ثم تغيب وتعود، فترى ذات الوجوه وقد غادرها الهم وسكنتها بشائر الأمان والطمأنينة، فتسأل، فيقال لك: ان المندوب الامريكى السابق أندرو انستاسيوس تحدث فى ندوة بجامعة جورج تاون وصرح بأن الحرب ليست على الابواب، وان الانفصال سيكون سلساً، وان تصريحات قيادات المؤتمر الوطنى المتشددة ليست سوى تكتيكات لتحسين الاتفاق النهائى مع الحركة الشعبية! تتشاءم امريكا فنغتم ويقهرنا الأسى، وتتفاءل فنسعد وتنشرح صدورنا. فأمريكا عندها الخبر اليقين وفصل الخطاب. وقديما قال عادل امام، يخاطب وكيل النيابة مستعجباً سؤاله عن اسمه: (مش انتو الحكومة؟ مش انتو اللى بتعرفوا كل حاجة)؟! إقرأ معى وتأمل - يا هداك الله - هذه الجزئية من مادة طالعتها فوق صفحات جريدة " الاحداث" فى عددها الصادر يوم الأحد الماضى: (أقام مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية بجامعة ام درمان الاسلامية ندوة بعنوان "المنظور الاستراتيجى لمواجهة تحديات المرحلة". ركز الدكتور خالد حسين على الدور الامريكى وانحيازه للحركة الشعبية وتراجع التيار الداعم للوحدة داخل الادارة الامريكية، بعد ان اصبحت الغلبة للتيار الذى يقف مع الانفصال بانضمام الرئيس اوباما اليه). والسؤال الذى ينتصب أمامى كلما قرأت مثل هذه التصريحات "الاستراتيجية" هو: ماذا يعنى وقوف الرئيس اوباما او اى تيار داخل الادارة الامريكية او خارجه مع خيار الانفصال او ضده؟! من هو صاحب القرار الحقيقى والفعلى حول الوحدة والانفصال؟! (3) الذى افهمه أنا هو ان اتفاق السلام الشامل، المعروف أيضاً باسم معاهدة نيفاشا، يعلق مصير الوحدة والانفصال على نتيجة استفتاء تقرير المصير المزمع اقامته فى يناير المقبل، وهو استفتاء يفترض ان يدلى فيه بالاصوات الجنوبيون السودانيون، لا الرئيس اوباما ومساعدوه. ولو أدلى ملوال واكيج وأريك وميرى بأصواتهم لصالح مشروع الوحدة، وهو امر وارد - على الاقل من الوجهة النظرية - فان الانحياز المزعوم للرئيس الامريكى اوباما الى التيار "الانفصالى" فى ادارته لن يقدم ولن يؤخر. تماماً كما ان دعم اوباما وفريقه لاطروحة السودان الموحد من حلفا الى نمولى لن يجدى فتيلاً فى حال تواضع الجنوبيون على انشاء دولتهم المستقلة. ونحن عندما كنا نطرح شعار "الوحدة الجاذبة"، فانما كنا نطرحه وفى البال ان "نجذب" الي خيار الوحدة ملوال واكيج وأريك وميرى، وليس باراك اوباما وتوم دونيلون وهيلارى كلينتون وسوزان رايس! غير ان الثقافة السائدة بين المتعلمين عندنا - ولا بأس من ان نقول المثقفين - لا تقيم وزناً للسواد من غمار الناس، حتى ولو كانت الكتابة واضحة على جدران المواثيق والدساتير تقول بأن الكلمة كلمتهم، لا كلمة أمريكا. والقرار قرارهم، لا قرار امريكا! والاستخفاف الباطنى بالسواد من غمار الناس خصلة أصيلة وراكزة عند كثير من مثقفينا، برغم كثافة النثر الذى يعلكونه وغزارة الشعر الذى يحفظونه عن "الشعب السيد" و"الشعب الوالد"! (4) فى كتابه "خريف الغضب" تعرض عملاق الصحافة العربية، محمد حسنين هيكل، الى واقعة تلقى بظلال لافتة للانتباه على قضية الاستفتاءات الشعبية والخبال الذى استنامت اليه فى عوالمنا المستغرقة فى عسل الشموليات. مضمون الواقعة هو ان الرئيس الراحل انور السادات اعلن فى بدايات عام 1980 - فى اتون فورة غضب على الأنبا شنودة، بابا الكنيسة القبطية فى مصر - انه كان يزمع اقالة الأنبا شنودة وعزله من موقعه، ولكنه غيّر رأيه فى اللحظة الاخيرة استجابة لالتماس من شخصٍ ما. وفى مناسبة لاحقة سأل احدهم الرئيس الراحل: "كيف كنت ستعزل البابا يا سيادة الرئيس والدستور والقانون فى مصر لا يمنحان رئيس الجمهورية حق عزل البابا"؟ فرد السادات بكل ثقة: "كنت سأعزله باستفتاء شعبى". ولست اظن ان هناك من أساء الى شعبه والى مفهوم الاستفتاء كأداة لتقصى واستشفاف الارادة الشعبية مثلما فعل السادات بمنطقه الاستكبارى ومقولته الاستعلائية تلك، اللهم الا الجنرال إرشاد الرئيس الاسبق لبنغلاديش. فقد دعا هذا الجنرال شعبه المسلم - الشديد التمسك بدينه - الى استفتاء عام، وطلب منهم الاجابة بلا او نعم على سؤال واحد مركب وهو: (هل توافق على ان يكون الاسلام دين الدولة الرسمى وان يستمر الجنرال ارشاد رئيساً للجمهورية لمدة خمسة سنوات اخرى)؟!! أما فى السودان فإنّ سيرة وتاريخ الاستفتاءات الشعبية خلال عقدين من عمر الزمان المايوى تحدث عن نفسها. ولذا فقد استقر فى وجداننا السياسى ان لفظة استفتاء لا علاقة لها باستدعاء الارادة الشعبية وانفاذها، بل انها تبقى فقط وسيلة خبيثة ورخيصة الثمن للتقنين واضفاء المشروعية على التدابير النخبوية السلطوية الهادفة الى تعزيز مكانة القيادات الحاكمة وتكريس مكتسباتها. أما القضايا الكبرى الحقيقية، لا سيما تلك التى تستلزم وتستتبع تداعيات اقليمية ودولية، فإن البت فيها بالضرورة يكون بيد قوى اكثر فاعلية وتأثيراً من البشر العاديين الذين يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق. وهل هناك قوى أفعل وأكثر تأثيراً فى عالم اليوم اكثر من أمريكا ذات العماد؟! بيد انه يتعين علينا جميعاً ان ندرك وان نعى تماماً أن استفتاء يناير 2011 الذى سيقرر مصير السودان الموحد ومستقبله، كما قررته نيفاشا، يختلف تماماً وكلياً عن استفتاءات السادات والنميرى وإرشاد. ومن هنا فإن الرهان الحق ينبغى ان يكون على الكيانات والقواعد الشعبية المعنية أساساً بهذا الاستفتاء، لا على قرارات الحكومة الامريكية، وخاطرات مسئوليها التنفيذيين، وتنبؤات موظفيها الدبلوماسيين. وان كان لنا من كلام نقوله اونسمعه حول الوحدة أوالانفصال، فلنقله، او نسمعه ممن بيدهم الامر فى مدن الجنوب وادغاله واحراشه! (5) ولعل هذه النظرة المسفة للاستفتاءات الشعبية، وضعف الايمان بدور غمار الناس فى ممارسة حقوقهم التى كفلتها الدساتير الربانية والانسانية طوعاً، او فرضتها القوة المستندة على السلاح قسراً، كما هو الحال بالنسبة لاتفاقية نيفاشا، هى التى تفسر لنا لماذا يميل اصحابنا هؤلاء الى تجاهل الشعب الجنوبى فى توريت والناصر وأنزارا ورمبيك، ويتوهمون ان أهل الحل والعقد فى امر الوحدة والانفصال هم رجال واشنطن ونساء نيويورك! وما أظن اننى أعدو الحق اذ زعمت ان الشكاوى المتلاحقة والادعاءات المتواترة الصادرة عن مفوضية الاستفتاء التى شكلتها الحكومة مؤخراً حول عدم كفاية المدة المتبقية لانجاز الاعمال التحضيرية، ومن ثم اقامة الاستفتاء فى موعده، تنهض برهاناً ساطعاً على استهتار النخب الحاكمة وقلة احتفائها بشعب الجنوب وارادته الحقيقية. ولو ان هذه القيادات كانت قد أخذت قضية الاستفتاء مأخذ الجد منذ اول يوم وقّعت فيه اتفاق السلام الشامل فى نيفاشا عام 2005، لما تعطلت وتبطلت، وارتاحت وتراخت، حتى انقضت كل هذه السنوات، ثم اخذت تلهث فى الزمان الضائع لتشكيل المفوضية والشروع فى اجراءات تنظيم الاستفتاء. وتلك معرة يتساوى امام خزيها قيادات الانقاذ وقيادات الحركة الشعبية، فهم الذين بددوا الموارد والطاقات عبر السنوات الممتدة من 2005 حتى يومنا الماثل فى صراعات السلطة وتوزيع غنائم الحكم وثرواته من الاموال والمناصب. (6) لسنا مخبولين ذوى عقول عيية يعضّها الكلال فتنكر قولاً واحداً الدور الامريكى وتأثيره فى حيوات ومسارات ومصائر كثيرٍ من الامم. ولسنا نجهل وزن الولاياتالمتحدة ولا ضراوة نفوذها وسلطتها فى عالم اليوم. بل نحن ننظر حولنا فنرى - رأى العين - نماذج تنطق عن نفسها، تدور فيها حياة بعض الدول والشعوب وجوداً وعدماً مع المعامل الامريكى، او ضده. ولكننا انما ندعو الى شئ من القسط والاعتدال والاعتداد بالذات ونحن نلتمس استحقاقات هذا المعامل ونستوفيها ونتفاعل معها عند رسم سياساتنا الوطنية. ومن هذا المنطلق فإنه يسوؤنا ان نرى مثقفينا - من حملة مشاعل الوعى - على امتداد الوطن والمهاجر، وقد بلغت بهم الفتنة بالولاياتالمتحدة ودورها وتأثيرها وقوة نفوذها، ان جهلوا وغفلوا وأدبروا عن الدور الطليعى والطبيعى للجماهير المعنية أصلاً بقضية تقرير المصير ونتائجه، فاستغطسوا فى الرؤى المتبحرة، واستأنسوا الى الفذلكات المتقعرة، المنبهرة بالكاوبوى الامريكى ذى القبعة والمسدس والحصان المهيب! أمريكا وسلطانها ونفوذها على العين والرأس، ولكن علينا ان نعرف وان نؤمن بأن حياتنا ومماتنا ليسا معلقين بين فكى سوزان رايس وهيلارى كلينتون. إعلموا - يرحمكم الله - ان مصير السودان - موحداً او مقسّماً - انما هو بيد أبنائه، لا بيد غيرهم. فلنخرج من خيمة البارانويا، ولنتحرر من نير هذا الوهم الامريكى! عن صحيفة "الاحداث" - 26/10/2010