كادت الشمالية تذوب من فرط سيول 1988 وفيضانها. وطارد الماء قرية بأكملها من محلها إلى أعلى الجبل. وفي غمرة الاحباط والماء قال أحدهم بحدة: -والله تاني ماني صادين للحلة. دا الفيضان التاني يغرقنا ونرجع نبني وتاني نغرق. قسماً عظماً تاني ماني صادي ابني. الداير يصد يبني الحلة اليصد. أنا ببني فوق جبلي الراكز دا. ومن بين اللجاج الذي نشأ بين مؤيد للرجل الغاضب ومعارض جاء صوت رجل قديم من القرية: -التيبس. وددت لو أن السيد الرئيس انتظرها "تيبس". فخطابه في القضارف استبقنا جميعاَ لحل ناجز لأوضاع الشمال الدستورية بعد انفصال الجنوب الوشيك. ولم ينفصل الجنوب بعد وإن كنا في غمرته وفي فمنا ماء. قال الرئيس إن انفصال الجنوب سيسحب "كرت" التنوع الثقافي من يد من طالبوا دائماً بتعطيل الشريعة نزولاً عند مقتضى ذلك التنوع. فالانفصال سيزيل المانع لتكون الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع وأن تكون اللغة العربية لغة البلاد الرسمية بلا منازع. لا أدري لم بدا لي الرئيس وكأنه فرح للشريعة بتبخر حجة التنوع متى وقع الانفصال. فالإسلام، إن لم يكن محض عقوبة، يزدهر في كامل زينته الإنسانية متى ما أَلّف الآخر لا متى تفاداه لكي يخلص للمسلمين . . . والآخرون يمتنعون: "ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف ألسنكم وألوانكم". ومما يلفت نظر الباحثين الآن كيف ألف الإسلام بين قلوب المسيحيين واليهود والمسلمين في الأندلس حتى سمتها راهبة مسيحية "جوهرة العالم". ولم يشق أهل هذه الديانات إلا بعد طرد المسيحيين لليهود والمسلمين لتخلص أسبانيا للمسيحيين. من جهة أخرى فالجنوب لم يكن مصدر التنوع الوحيد في البلاد فمتى انفصل خلص الأمر لثقافة واحدة. فمن بين لغات السودان التي هي نحو 135 (8 منها انقرضت يا للهول) نجد أن نصيب الشمال هو نحو 60 لغة: 42 في كردفان وجبال النوبة بصورة خاصة و8 في النيل الأزرق و7 في دارفور و2 في الشمالية وواحدة في الشرق. علاوة على مسيحية الشمال سواء التي للاقباط أو المستحدثة في الجنوبيين الذين سيختارون العيش في الشمال. ناهيك عن ما ظللنا نصفه بكرائم المعتقدات في جبال النوبة وغيرها. ومن بين اللغات أعلاه نجد النوبية التي افتتن بها أهلها في ملابسات تسييس إثنيتهم وشكواهم المناسبة من "قرش الرطانة". بدا الرئيس وكأنه يقول "حنوريكم" شريعة تقطع دابركم. ووجدت فيها أصداء من كلمة لنميري عن شريعة نطيط الحيط. وربما غاب عنه إن علمانياً مثلي ظل يدعو أخيراً لتكون الشريعة من مصادر التشريع السوداني قبل انفصال الجنوب. فقسط الشريعة معلوم. ووجدت أن القاضي بابكر عوض الله تجنب قانوناً بريطانياً ظالماً للأرامل ووجد ضالة العدل في الشريعة. وبسطت المسألة في كتابي "الشريعة والحداثة". فقلت، متبعاً دكتور الترابي، أن تكون الشريعة مصدراً للقوانين تتنزل في تشريعات ينظرها البرلمان ويجيزها. وهذا ما اسماه الترابي، اجتهاداً، بضرورة أن تكون الدولة من أشراط الاجتهاد. وهو تحوط يمنع ابتذال الشريعة مثل طبخها بليل كما فعل نميري "ورجلين وإمرأة" (كما قال منصور خالد) وإرهاب الشعب بها. قبل كتاب هذه الكلمة كنت أشاهد شريطاً في اليوتيوب ألقى فيه شاعر البطانة بشرى إبراهيم قصيدته المعروفة "عيد الميلاد". وكان بين الحضور الرئيس البشير. ولم أر الرئيس منشرحاً يضحك سن سن مثل ما رأيته منفعلاً مع القصيدة. وحيلة القصيدة للامتاع هي في مقارنتها بين التقاليد التي فرقت بين الحنكشة وولاد العوض. وهذا تنوع لن يذهب مع الجنوب وله إسقطاته على التشريع. أيها السيد الرئيس "التيبس".